من يملك القوة يملك الحقيقة
من يملك القوة يملك تقديم الحقيقة التي يعتنقها والصورة التي يريدها والقيم التي يحملها، بل على الأقل يملك أن يقدم الواقع كما هو، فيقدم الظالم ظالمًا والمظلوم مظلومًا.. في عصرنا هذه معجزة..
من يقدم دينًا بلا قوة فهو واهم؛ إذ لن يقدر على تقديم دينه وما يؤمن به ولا تقديم صورته الحقيقية.. لأن من يمتلك القوة سوف يتولى تقديم الصورة التي يريدها، سواء بصدق أم بكذب، بحسب ضميره.
قدّم فرعونُ موسى والمؤمنين معه أنهم شرذمة قليلة متآمرة على البلاد تغيظ السلطات وهي حذرة منها، وأن السلطات تخاف على دين البلاد وصلاح أهلها..
قدمت قريشٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم صابئًا أو ساحرًا وحذّرت منه العرب، حتى دفعت بعقلاء أن يضعوا القطن في آذانهم خوفًا أن يستميل قلوبهم! فكانت إهانة لأنفسهم.
في العصر الحديث أباد الأمريكيون الملايين من سكان البلاد، وأضعافهم مسروقين للعبودية من إفريقيا، كذا فعل الأستراليون من الإنجليز مع سكان البلاد، وأباد الغرب الملايين في حروبه، وفي استعماره، كما تمتع بوحشية وحيوانية ولصوصية منقطعة النظير..
قدّم الانجليز الهنود أمامهم في الصحراء بدل البغال -لانخفاض التكلفة!- ليستكشفوا أماكن الألغام في الصحراء الغربية، وقدّم الفرنسيون الجزائريين لتجارب الإشعاع النووي والمفاعلات، غير أكثر من مليون قتيل من أهل الجزائر الكرام.. ومات الكثير..
الهولنديون والبرتغاليون قدِموا الخليج فقطعوا آذان وأنوف أمرائها وأهلها إهانة لهم، وفي الهند الإسلامية (الباكستان) استولوا على أماكن فأهانوا ملوك المسلمين وشووا أبناءهم أمامهم وأرغموهم أن يأكلوا من لحوم أبنائهم!
ثم قدموا أنفسهم للعالم كمتحضرين ديمقراطيين أصحاب مبادئ، بينما الضحايا لا زالوا يقدَمون في الصورة التي يريدها لهم (من يملك القوة!).
أقذر ما تتصوره حدث في جوانتناموا وأبي غريب وباجرام، لكنهم أنسوا العالم ما فعلوه، لا شيء الآن في ذاكرة الناس، والناس الآن تبكي على وحشية تنظيم الدولة، ولا تذكر شيئًا مما فعله الغرب، مع أن ما يفعلونه أضعافًا مضاعفة لا تقارن.
يشوي الشيعة -الذين يكفّرون جمهور أهل السنة ويلعنون أصحاب رسول الله- أطفالًا وشبابًا من السنة على نار باردة ويقومون بتطهير عرقي ويسرقون وطنا بأكمله لا يشارك فيه الغالبية من أهل السنة.. ثم لا يُتهمون بالطائفية ولا الإرهاب بل ولا يسمع أحد ولا يضج؛ إذ أن أهل السنة لا بواكي ولا قوة لهم، بل حكامهم مجموعات لصوص وجماعات مصالح.. ثم يُتهم أهل السنة بالتكفير! وإذا دافعوا عن أنفسهم هبّ المتحضرون ليبكوا على ضحايا العنف الإسلامي والإرهاب السني! ويصدّق الناس، حتى أهل السنة أنفسهم! أنهم إرهابيون! ويدعم الجميع القضاء عليهم ومنع أي بادرة امتلاك قوة.
يمتلك طواغيت بلادنا القوة والسيطرة، فبكى الناس على القاتل ولعنوا المغتصَبة والمنتهَك عرضه والمقتول والمسحول والمحروق.. بكى الناس دموعًا على حامل السلاح (الغلبان)! وتجهّموا و(جعّروا) وانتفضوا سخطًا وسحقًا للأعزل بأسرته وزوجته وأطفاله الصغار حين أعلنوا أنهم رفضوا اغتصاب رأيهم وشرفهم ودينهم وبلادهم!
يحذّرهم ناصح فيقتلونه! ويخدّرهم مخادع فيسجدون له! نعم هناك الكثير يفقدونه من المفاهيم العقدية والقيم والحقائق السياسية والتربوية.. لكن هناك من يمتلك القوة فعرض ما أراد -ويستطيع- أن يعرضه.
ومن هنا نقول أن المفهوم العقدي والقيم التربوية والحضارية الشرعية، التي تقتضي الامتناع عن الاستخفاف والتضليل، وتمنع التنازل عن الحرية.. كل هذه قوة وهي أمن قومي للمسلمين، وهي مفتقدة.
كما أن امتلاك القوة والقدرة والخروج السريع والعاجل من الاستضعاف أمر ضروري وأمن قومي للمسلمين وإلا أبُيدوا.. إنه منذ العام الرابع للبعثة -بعد عام واحد من الجهر بالدعوة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن قوة تحمي الدعوة وسيوف تؤمّنها وينادي « » (السلسلة الصحيحة؛ برقم: [1/133]).
إن استمرار الناس تحت الفتنة والضغوط.. يفتنهم عن الدين ويُفقدهم الثقة.
سيظل العالم يبكي على القاتل ويلعن الضحية، وسيظل شعبنا يلعن أبناءه ويلفظهم ويحتضن القتلة والشياطين والذئاب إلى صدره، ويحتضن العقارب تحت ثيابه ليبقى نازفًا أو يُلدغ لدغة الموت.. ما لم يمتلك أصحاب الحق طريقا للخروج الحقيقي والجاد من وضع استضعاف طويل ومهين ومُفقد للثقة.
طريق يكف الناس فيه عن ترديد أناشيد الاستضعاف التي مجّدها الناس، وأصبح تأثيرها سلبيًا وخطأ جسيمًا.. لا يصحّ أن يبقى الناس يترنمون بـ(ضع في يديّ القيد ألهِب أضلعي *** ضع عنقي على السكين) إلى آخره.. إن ترديدها الآن جريمة؛ إن الإسلام لم يأت ليبقى مستضعَفًا، إنما جاء ليحكم ويغيّر ويرتب الواقع والنفوس والمجتمعات وفق منهجه.. أما استضعافه فهي فترة عابرة تعتريه في البداية أو في بعض مراحل غربته بسبب تفريط سابق على الغربة.
لن تستطيع أن تقدم الصورة الحقيقية للواقع المُعاش، ولا لنفسك، ولا لمشروعك وما تأمُل، ما دمت مقهورًا تتناوب عليك القوى المختلفة لتحدد مدى ما تنهشه من جسدك.
إن القوة الحمقاء واستخدام القوة بالهوى والطيش هو خطأ فادح وتصرّف منفّر وصادّ عن سبيل الله طبقا لمعادلة: أنه من حيث النتائج (الحمق = العمالة).. لكن الرزوح تحت أقدام الاستضعاف ورضا البعض بالذيل والمشاركة الديكورية والحياء من البوح بالمشروع الاسلامي والتلعثم فيه والتلجلج أمامه هو جريمة أفدح وأفحش..
حتى جاءت مصيبة أكبر من هذا، وهي أن بعض أبناء هذا المشروع لا يفهمونه! ومن تنازلاتهم العجيبة ينقضون مشروعهم بأنفسهم ويتماهون مع مشاريع مناقضة، وأخذوا يدفعون عن أنفسهم تهمة مشروعهم المستقل..
إنهم لا يستطيعون تحديد هل عدوهم سرق وظلم، أم قتل وهتك، أم بدّل الشرائع ووالى الكفار وصال على الدين ورسّخ الإباحية واستحل المحارم واعتدى على العقائد! وبالتالي لا يدرون حكمه، ثم انبروا يدافعون عنه من حيث لا يتوقع هو!
لا يستحيي الشيعي المخرّف والصفوي الدموي من خزعبلاته، ولا يستحيي المسيحي المتطرف من بجاحته بأن هذه بلاده تستضيف المسلمين وعلى الضيف أن يراعي آداب الضيافة! وإلا طرده المضيف!
لا يستحيي الصهاينة من خزعبلات ما قبل التاريخ، ولا يستحيي الهنود الوثنيون من وثنيتهم المشينة والحمقاء، وبقوّتهم واقتصادهم بل وبفنّهم رسخوا أن الوثن يجيب دعاء المضطر، ويبثون هذا للمسلمين الذين تقنعهم الحبكة الدرامية ووجه امرأة حسناء تذرف الدمع بجانب التمثال فإذا به يفرّج كربها..! بإرادة المخرِج!
لقد بقي أصحاب الحق والمنتسبون إليه بين مجاهد مقموع صاحب غربة، أو وحيدًا في الصف ترفسه حوافر هائجة وتنطحه قرون طائشة وتنكره وتنساه قلوب جاحدة.. أو مستضعف يضرع لربه ينتظر استجابة السماء وفيئة الجموع..
أو متخاذل متراجع يلعب في ملعب آمن! يبتعد عن النفير في الحر والقر.. أو متلعثم يتعثر في ثيابه.. أو بائع في صفقة كتاجر خسيس يأكل بدينه، وماكر منافق يعلن دياثته ولا يستحيي..
من يملك القوة يملك تقديم الحقيقة التي يعتنقها والصورة التي يريدها والقيم التي يحملها، بل على الأقل يملك أن يقدم الواقع كما هو، فيقدم الظالم ظالمًا والمظلوم مظلومًا.. في عصرنا هذه معجزة .. ومن ثم تبقى القاعدة أنه من يملك القوة يملك الحقيقة!
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: