محرقة غزة والتطبيع النفسي مع المحن والأزمات
منذ 2009-01-04
هذه الدموع والزفرات ـ لو كانت صادقة - فلابد أن يصنع الله بها شيئًا، وسوف تشعل الحماس في قلب صاحبه؛ ليبحث له عن دور وسوف يجده لا محالة...
المحن دائمًا تكشف عن جوهر الأشياء،
لا يماري في هذا أحد.
والمحنة أو المحرقة التي تمر بالمسلمين في غزة الآن فاعلة إلى حد كبير في تعرية الواقع الإسلامي، وفي الكشف عنه إلى الحد الذي دفع البعض للتساؤل عن الحكمة من تسمية إحتلال فلسطين بالنكبة، والأمة تتوالى عليها النكبات يوما بعد يوم.
وتتابع المحن على أمتنا حتى أصبحت إحدى لوازمها، فلا يكاد يمر يوم دون أزمة خانقة أو محنة عظيمة أو بلاء ثقيل.
وأصبح مألوفا لدى كل محنة ومجزرة أن يتكلم البعض ويرثي لما حدث ثم يمضي آمنا مطمئنا ليعيش حياته الروتينية كأن شيئا لم يحدث.
هذا التجاهل سببه الأساس هو الخوف من الفضيحة أمام الذات، والخوف من حساب النفس للنفس، والخوف من النظر في صفحات سوداء تجلب العار على أهلها.
الكثير يخشى من مواجهة ذاته بالسؤال الشائك: ماذا قدمت لإخواني في هذه المحنة العظيمة؟
ولهذا فان أخطر ملامح محرقة غزة الآن هو التطبيع النفسي مع الأزمات والمحن، والتي لم تسلم منه الأمة بأسرها، فهي الآن تعيش حالة من التكيف النفسي مع الأزمات، ورد فعلها الأم تجاه الأزمات بات معدومًا إلا فيما ندر. وهذا القليل أصبح في أغلبه باهتًا لا فائدة منه، إنما هو للتنفيس وتخدير الضمير فقط.
لم تفارق المحرقة فلسطين يومًا، ففي كل يوم نكبة ومجزرة.
لكن الجديد الذي رأيناه في محرقة غزة اليوم هو الصمت العربي والإسلامي الذي لم تفلح بعض الأصوات الضعيفة هنا وهناك في أن تخفف من وطأته. بل إن الأمر تعدى الصمت إلى اللامبالاة، وانعدام الاكتراث بالمرة.
وتعداه في بعض الأحيان إلى ما يمكن تسميته بالدياثة الشعورية، حين راح البعض يتحدث عن أخطاء حماس أو السيادة المصرية على حدودها أو القوانين الدولية، وهي محاولة فاشلة للهروب من المسئولة عما يحدث.
وحتى لا نوغل في ظلمة الحدث، نحاول أن نقف مع المشكلة بإيجابية، فنقول: إن الأمة الآن لا تملك من ثرواتها إلا الإنسان.
تلك البقايا التي نهش الطغاة إنسانيتها وشرفها ثم ألقت كيانًا محطمًا وتائهًا وتعيسًا.
وإذا كان وجود الإنسان مرهون بالتحدي الذي يواجهه كما يقول أرلوند توينبي، فإن التحدي الذي يواجهه كل إنسان مسلم اليوم، هو تحدي وجود وبقاء، لا تحدي سيادة أو نزاع مصالح وتقاطع إرادات.
ولهذا تصبح المعركة معركة مصير، لابد فيها من توعية الجاهل، وتنبيه الغافل، وبث روح المقاومة في نفوس الضعفاء، والبحث عن أساليب جديدة يستطيع كل فرد من خلالها أن يشعر بأهمية ذاته وتأثير دوره.
لا بد من معالجة أسباب هذا التطبيع النفسي مع المحنة، وأهم الأسباب هو ضعف الإيمان الذي يميت الغيرة في القلب ويشغل النفس عن التفاعل مع الأمة لكونها مشغولة بالتفاعل مع الشهوات، ويصرف الهم بعيدًا عن الواقع العام إلى الرغبة الشخصية الضيقة التي تهوي بالشعور الإنساني إلى مصاف الغريزة الحيوانية.
الثاني: هو اليأس من التأثير في الواقع، وذلك لأن الساحة الإسلامية باتت مفتقدة إلى نظرية فاعلة للمواجهة البعيدة مع المحن، مما أدى إلى شيوع وسائل أخرى لا نراها تغني أو تسمن في التفاعل مع قضية الأمة مثل المظاهرات العامة وحرق الأعلام وأخيرًا الرقص والغناء.
الثالث: التشويش الفكري الواقع على الناس بسب الحرب الإعلامية المصاحبة دائمًا لكل نكبة ومجزرة والتي لا يتفرد بها العدو وحده، بل تشاركه العزف جوقة العلمانية والليبراليون ومثقفو المارينز: ففي العدوان على أفغانستان سمعنا مقطوعة بن لادن والقاعدة، وفي العراق كانت صدام والدمار الشامل، وفي غزة صواريخ القسام، وهكذا.. لكن ما رأيناه هنا وهناك لم يكن سوى خسف وتنكيل بالمستضعفين الأبرياء من المسلمين العزل.
الكثير من المسلمين أيضًا يظن أن الانفعال بمحنة الأمة وأزماتها من دون عمل هو حرق للنفس وتحميل للذات فوق ما تطيق، وهذا انحراف خطير في التعامل مع المحن والأزمات، ففقدان التألم بالمحنة يعني بالضرورة فقدان الشعور بها، والانشغال بما دونها مما يعني لها الموت على الأقل داخلنا.
إن الانفصال عن واقع التفاعل مع محن الأمة يعني الانفصال الكياني والنفسي عنها. وعندما يحدث هذا لأحد أعضائها فهو يعني موت هذا العضو.
«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» [رواه مسلم].
إن الدمع لا يكفي، والآهات لا تجدي، والتحسر لا يفيد، لكن هذا الهم هو عنوان التفاعل النفسي مع المحنة والولاء الفعلي لضحاياها.
لن نكتفي بالبكاء، لكننا نحتاج إلى دمعة حارة في جوف الليل ترثي أمة تلعق دمائها ليل نهار؛ لأن هذه الدمعة هي التي تنتشل القلب من لجة الدنيا؛ لتضعه في واقع أمته.
لا بد من زفرة محزون تحرق في القلب تعلقه بالدنيا وتذيب تبلد إحساسه بإخوانه.
البعض يقول: إنه يتألم ويحترق لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا.
هذه الدموع والزفرات ـ لو كانت صادقة - فلابد أن يصنع الله بها شيئًا، وسوف تشعل الحماس في قلب صاحبه؛ ليبحث له عن دور وسوف يجده لا محالة.
قد نعجز عن الأدوار الكبيرة، لكننا لن نعجز عن خدمة هذه الأدوار ودعمها بالدعاء الصادق وتذكير الناس وتوعيتهم بها والدعاية والتنظير العلمي والدعوى لها.
كل الأدوار الكبيرة تقوم على عدة أدوار صغيرة تتضافر لدعمها وتقويتها، ولولا دور الهدهد ما أسلمت ملكة سبأ وقومها، فأنزل الله ذكره في القرآن.
وإمام التابعين "سعيد بن المسيب" كانت إحدى عينيه بها عور، وكان يخرج مع الغزاة، فقال أحدهم له يومًا: "يا إمام قد عذر الله لك"، فقال: "إن لم أقاتل أحفظ المتاع لكم"، فذكرها له التاريخ حتى اليوم.
و"صاحبة الشكال "التي لم تجد ما تساعد به الغزاة والمجاهدين سوى ضفيرة رأسها صنعتها لجام للخيل، فصارت مضرب الأمثال في أمة بأسرها.
وعلى العكس من ذلك، فحين ينشغل الناس عن هم دينهم، ويتنصلون من مواجهة مسئولياتهم تجاهها في المحن والخطوب، يسلط الله عليهم من الذل والصغار وتشتت القلب والتيه في الدنيا ما لا يقاس بما يهربون منه من تكليف شرعي، وواجب ديني، كل هذا مع الإثم والخزي في الدنيا والآخرة .
والمحنة أو المحرقة التي تمر بالمسلمين في غزة الآن فاعلة إلى حد كبير في تعرية الواقع الإسلامي، وفي الكشف عنه إلى الحد الذي دفع البعض للتساؤل عن الحكمة من تسمية إحتلال فلسطين بالنكبة، والأمة تتوالى عليها النكبات يوما بعد يوم.
وتتابع المحن على أمتنا حتى أصبحت إحدى لوازمها، فلا يكاد يمر يوم دون أزمة خانقة أو محنة عظيمة أو بلاء ثقيل.
وأصبح مألوفا لدى كل محنة ومجزرة أن يتكلم البعض ويرثي لما حدث ثم يمضي آمنا مطمئنا ليعيش حياته الروتينية كأن شيئا لم يحدث.
هذا التجاهل سببه الأساس هو الخوف من الفضيحة أمام الذات، والخوف من حساب النفس للنفس، والخوف من النظر في صفحات سوداء تجلب العار على أهلها.
الكثير يخشى من مواجهة ذاته بالسؤال الشائك: ماذا قدمت لإخواني في هذه المحنة العظيمة؟
ولهذا فان أخطر ملامح محرقة غزة الآن هو التطبيع النفسي مع الأزمات والمحن، والتي لم تسلم منه الأمة بأسرها، فهي الآن تعيش حالة من التكيف النفسي مع الأزمات، ورد فعلها الأم تجاه الأزمات بات معدومًا إلا فيما ندر. وهذا القليل أصبح في أغلبه باهتًا لا فائدة منه، إنما هو للتنفيس وتخدير الضمير فقط.
لم تفارق المحرقة فلسطين يومًا، ففي كل يوم نكبة ومجزرة.
لكن الجديد الذي رأيناه في محرقة غزة اليوم هو الصمت العربي والإسلامي الذي لم تفلح بعض الأصوات الضعيفة هنا وهناك في أن تخفف من وطأته. بل إن الأمر تعدى الصمت إلى اللامبالاة، وانعدام الاكتراث بالمرة.
وتعداه في بعض الأحيان إلى ما يمكن تسميته بالدياثة الشعورية، حين راح البعض يتحدث عن أخطاء حماس أو السيادة المصرية على حدودها أو القوانين الدولية، وهي محاولة فاشلة للهروب من المسئولة عما يحدث.
وحتى لا نوغل في ظلمة الحدث، نحاول أن نقف مع المشكلة بإيجابية، فنقول: إن الأمة الآن لا تملك من ثرواتها إلا الإنسان.
تلك البقايا التي نهش الطغاة إنسانيتها وشرفها ثم ألقت كيانًا محطمًا وتائهًا وتعيسًا.
وإذا كان وجود الإنسان مرهون بالتحدي الذي يواجهه كما يقول أرلوند توينبي، فإن التحدي الذي يواجهه كل إنسان مسلم اليوم، هو تحدي وجود وبقاء، لا تحدي سيادة أو نزاع مصالح وتقاطع إرادات.
ولهذا تصبح المعركة معركة مصير، لابد فيها من توعية الجاهل، وتنبيه الغافل، وبث روح المقاومة في نفوس الضعفاء، والبحث عن أساليب جديدة يستطيع كل فرد من خلالها أن يشعر بأهمية ذاته وتأثير دوره.
لا بد من معالجة أسباب هذا التطبيع النفسي مع المحنة، وأهم الأسباب هو ضعف الإيمان الذي يميت الغيرة في القلب ويشغل النفس عن التفاعل مع الأمة لكونها مشغولة بالتفاعل مع الشهوات، ويصرف الهم بعيدًا عن الواقع العام إلى الرغبة الشخصية الضيقة التي تهوي بالشعور الإنساني إلى مصاف الغريزة الحيوانية.
الثاني: هو اليأس من التأثير في الواقع، وذلك لأن الساحة الإسلامية باتت مفتقدة إلى نظرية فاعلة للمواجهة البعيدة مع المحن، مما أدى إلى شيوع وسائل أخرى لا نراها تغني أو تسمن في التفاعل مع قضية الأمة مثل المظاهرات العامة وحرق الأعلام وأخيرًا الرقص والغناء.
الثالث: التشويش الفكري الواقع على الناس بسب الحرب الإعلامية المصاحبة دائمًا لكل نكبة ومجزرة والتي لا يتفرد بها العدو وحده، بل تشاركه العزف جوقة العلمانية والليبراليون ومثقفو المارينز: ففي العدوان على أفغانستان سمعنا مقطوعة بن لادن والقاعدة، وفي العراق كانت صدام والدمار الشامل، وفي غزة صواريخ القسام، وهكذا.. لكن ما رأيناه هنا وهناك لم يكن سوى خسف وتنكيل بالمستضعفين الأبرياء من المسلمين العزل.
الكثير من المسلمين أيضًا يظن أن الانفعال بمحنة الأمة وأزماتها من دون عمل هو حرق للنفس وتحميل للذات فوق ما تطيق، وهذا انحراف خطير في التعامل مع المحن والأزمات، ففقدان التألم بالمحنة يعني بالضرورة فقدان الشعور بها، والانشغال بما دونها مما يعني لها الموت على الأقل داخلنا.
إن الانفصال عن واقع التفاعل مع محن الأمة يعني الانفصال الكياني والنفسي عنها. وعندما يحدث هذا لأحد أعضائها فهو يعني موت هذا العضو.
«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» [رواه مسلم].
إن الدمع لا يكفي، والآهات لا تجدي، والتحسر لا يفيد، لكن هذا الهم هو عنوان التفاعل النفسي مع المحنة والولاء الفعلي لضحاياها.
لن نكتفي بالبكاء، لكننا نحتاج إلى دمعة حارة في جوف الليل ترثي أمة تلعق دمائها ليل نهار؛ لأن هذه الدمعة هي التي تنتشل القلب من لجة الدنيا؛ لتضعه في واقع أمته.
لا بد من زفرة محزون تحرق في القلب تعلقه بالدنيا وتذيب تبلد إحساسه بإخوانه.
البعض يقول: إنه يتألم ويحترق لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا.
هذه الدموع والزفرات ـ لو كانت صادقة - فلابد أن يصنع الله بها شيئًا، وسوف تشعل الحماس في قلب صاحبه؛ ليبحث له عن دور وسوف يجده لا محالة.
قد نعجز عن الأدوار الكبيرة، لكننا لن نعجز عن خدمة هذه الأدوار ودعمها بالدعاء الصادق وتذكير الناس وتوعيتهم بها والدعاية والتنظير العلمي والدعوى لها.
كل الأدوار الكبيرة تقوم على عدة أدوار صغيرة تتضافر لدعمها وتقويتها، ولولا دور الهدهد ما أسلمت ملكة سبأ وقومها، فأنزل الله ذكره في القرآن.
وإمام التابعين "سعيد بن المسيب" كانت إحدى عينيه بها عور، وكان يخرج مع الغزاة، فقال أحدهم له يومًا: "يا إمام قد عذر الله لك"، فقال: "إن لم أقاتل أحفظ المتاع لكم"، فذكرها له التاريخ حتى اليوم.
و"صاحبة الشكال "التي لم تجد ما تساعد به الغزاة والمجاهدين سوى ضفيرة رأسها صنعتها لجام للخيل، فصارت مضرب الأمثال في أمة بأسرها.
وعلى العكس من ذلك، فحين ينشغل الناس عن هم دينهم، ويتنصلون من مواجهة مسئولياتهم تجاهها في المحن والخطوب، يسلط الله عليهم من الذل والصغار وتشتت القلب والتيه في الدنيا ما لا يقاس بما يهربون منه من تكليف شرعي، وواجب ديني، كل هذا مع الإثم والخزي في الدنيا والآخرة .
المصدر: طريق الإسلام
خالد حربي
كاتب وباحث وخاصة في مجال الرد على النصاري.
- التصنيف: