قراءة هادئة في ثورة الجماهير
منذ 2009-01-13
نحتاج نماذج جديدة كأحمد ابن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب تقود هذه الجماهير الثائرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ـ تَفَاعُلُ عامةِ أهلِ العلم جاء بعد نشر الرسوم الدينماركية المسيئة لمقام خير البرية ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدّة شهور ، وكذلك جاء بعد ثورة الجماهير، وكان تصاعدياً ولم يكن دفعة واحدة، وانتهى بأن شارك الجميع، كلٌّ بما يحسن.. بقلمه أو بلسانه أو من خلال مشروعة الدعوي (موقع)، (مجلة)، (قناة فضائية)... وبدا جيداً وقتها أن ثورة الجماهير هي التي دفعت الجميع للمشاركة. ثم خمد الجميع بعد فترة قصيرة، ولم تكن هناك متابعة، ولا تفعيل للحدث، إلا قليلاً جداً لم يظهر على الساحة ولم يؤثر في الحدث.
وفي هذه الأزمة (غزو غزة) أيضاً جاء التصعيد من الجماهير بداية، ومن نفرٍ قليل من أهل العلم، ثم جاءت مشاركة الجميع بعد ذلك. والجماهير هي الأبرز في الساحة.
لا يمكن حساب تحرك الجماهير ـ في الشارع أو في الشبكة العنكبوتية ـ لصالح قيادات العمل الدعوي أو غيرهم من جماعات (الإصلاح). فالحركة ذاتية في بدايتها وخلال سيرها وإن اشتملت على بعض أفراد الدعوة.
ـ حركة الجماهير في أزمة الدينمارك وحرب لبنان وفي أزمة غزة لها دلالة إيجابية، يعرفها الجميع، ويفرح بها، ويتكلم عنها، وهي أن الأمة يقظة يتفاعل بعضها مع بعض، ولها دلالات سلبية لا يمكن غض الطرف عنها، أبرز هذه الدلالات السلبية هو غياب الوعي الديني الصحيح عند الجماهير، فالجماهير ثارت بذات الحماسة مع حسن نصر في حربه مع اليهود، وركب في ركابهم عامة المثقفين، وبعضهم استدار على أهل السنة والجماعة يتراشق معهم يردهم عن الروافض، أو يطالبهم بالانزواء والخروج من الساحة الفكرية الإسلامية!!
ومن هذه الدلالات السيئة للأزمات المتتالية (الرسوم، وحرب حسن نصر، وغزو غزة) أن زمام الجماهير ليس بأيدي العلماء الربانيين.
حال الجماهير اليوم، يُذكِّر بحال الجماهير في العقد الخامس والسادس من القرن الماضي في مصر والشام والمغرب العربي، كانت الجماهير مع الطرح الإسلامي، وكان يومها جهادي يقاتل اليهود في فلسطين، ويقاتل الصليبيين في المغرب الأقصى (عبد الكريم الخطابي) وفي المغرب الأدنى (الجزائر)، ومنتصر على القوة (العظمى) بريطانيا في أفغانستان، وكانت القوة (العظمى) يومها مُهزومة تستعد للرحيل، كانت الجماهير يومها ثائرة أهدافها دينية، ويبدوا المحرك لها أو المؤثر على حركتها هو (رجل الدين)، ثم صارت الجماهير بذات الحماسة مع لصوص الثمرة.. أعني (الثوار الأحرار) (العرب الأمجاد)!!
لم يكن أحد قبل الثورة يقول أن الدول محتلة، إذ كان بمصر حكومة وجيشاً، ووزراء، ومجلس نواب يمثل الشعب!!، وكانت الثورة على الملك ولم تكن على الإنجليز، وكانت لضبط بعض الأمور وليس لطرد الملك بداية، ثم قيل للجماهير بعد ذلك كان احتلال، وكانت ثورة على الاحتلال، وكان وكان.. وصدَّقت الجماهير ما يتلى عليها، وحفظت وراحت تتلو سراً وعلانية!!
الجماهير تحركها مناظر القتل والتشريد، الجماهير تحركها معاني الظلم والاضطهاد، الجماهير يُجلب عليها بالصوت والرجال فتخرج ثائرة. فلا ينبغي أبداً أن نخدع بصحوة الجماهير ونحسب أن هذه الصحوة من ثمار دعوتنا (الصحوية)، وأننا نحن الذين أشعلناها (يوم الدينمارك) و(يوم غزة)، بل سبقت الجماهير وكنا نحن المتأخرين، وبعضهم يقول: وكنتم من أطفأها، ويستشهد بمؤتمر البحرين.
الصحوة الإسلامية بعيدة تماماً عن الحدث أو تدخل في سياق آخر، والسبب من وجهة نظري هو طبيعة الخطاب الصحوي الآن، فالخطاب الصحوي مع انتشاره وظهوره على الساحة إلا أنه خفيف يطفو على السطح ولا يؤثر في جريان النهر.
الخطاب الصحوي الآن وعظي لا يُعنى بشيء من قضايا الأمة القائمة أو من مشاكلها العقدية المترسبة إلا ادعاءاً، فهو يتراجع عن معالجة ما يحدث في العراق والأفغان والصومال وحتى فلسطين، ولا يقف موقفاً واضحاً من المد النصراني (التنصير) المتصاعد، ولا ينثني على من بين يديه من أصحاب البدع العملية (كالمتصوفة) أو الفكرية (المعتزلة.. العقلانيين الليبراليين)، وكل ما يقدمه هو عرض للنماذج الطيبة الطاهرة التي مضت في التاريخ، وعظاً عاماً يحوم حول الحمى ولا يقع فيه.
فإذا كان الطرح السلفي المنتشر للجماهير لا يرد النصارى عن حرمات الدين بعد أن تجرؤوا عليه بما لم يسبق له مثيل، وإذا كان الطرح السلفي (أو الصحوي المُصدر للجماهير) لا يتصدى لليبراليين والمتحررين، وإذا كان الطرح السلفي (أو الصحوي المُصدر للجماهير) لا يتصدى للمنحرفين عقدياً ويظهرون بدعاً عملية بين الناس ويدعون إليها، وإذا كان الطرح السلفي (أو الصحوي المُصدر للجماهير) يهيج حيناً على الرافضة ويخمد حيناً مع أن دواعي (الهيجان) على الروافض قائمة على الدوام، وإذا علمت أنه يُسمح لقومٍ ولا يسمح لآخرين بالتحدث للناس، علمت أن الطرح السلفي (أو الصحوي) المصدر للجماهير يسير في ركاب غيره، يُصنع به الحدث.
وما أفهمه أن الانحرافات الفكرية التي تتبعها الانحرافات العقدية تأتي دائماً من تيار الوسط، فقديماً احتدم الخلاف بين السلف الصالح القائلين بأن الإيمان اعتقاد (قول القلب وعمله) وعمل (قول اللسان وعمل الجوارح) وبين أهل التعطيل، وجاء أهل الكلام فكانوا وسطاً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ـ والوسط بين الحق والباطل باطل ـ فقبلتهم العامة، وهم منحرفون، وهم معطلون في الحقيقة، ولكن هذه هي الجماهير تميل دائماً لكل من توسط بين طرفين!!
واشتد الخلاف بين السلف الصالح والخوارج في مرتكب الكبيرة فجاءت المعتزلة وسطاً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ووجدت مكاناً عالياً فسيحاً جلست فيه ولا زالت بيننا إلى يومنا هذا!!
واشتد الخلاف بين حواري (تلاميذ) المسيح عليه السلام وبين الوثنيين من الرومان فاستُدعى بولس من تحت ركام الأيام ليكون وسطاً مقبولاً عند عامة الناس، ولم يكن ذا أمرٍ يوم مات!!
واليوم اشتد الخلاف بين الصحوة الإسلامية والعلمانية بشقيها: السياسي (الديمقراطية)، والفكري (الليبرالية)، وما حوت تحت جناحها من المنحرفين الضالين، فمَكَرَ القومُ مكراً كباراً، مارسوا ضغطاً على الصحوة حتى رضي فصيل منها بالخروج المشروط، أو بالاستفادة من المتاح بدعوى المصالح والمفاسد، وبعد أن خرج هؤلاء واستقروا جيء بما يسمى بالدعاة الجدد وسطاً بين هؤلاء وبين المنحرفين عقدياً وسلوكياً، ولذا راجت بضاعة (الدعاة الجدد) وصار هؤلاء ـ المنتخبون من التيار السلفي ـ متشددون بجوار (الدعاة الجدد)، وبعد قليل سيتم نصب أحد هؤلاء الدعاة الجدد على أنه متشدد، ويخرج آخر أكثر انحلالاً على أنه وسطاً... وهكذا تنتقل الجماهير مرحلة بعد مرحلة حتى تحل أو قريباً من ديارهم.
وذات الشيء يقام في (الخليج)، فبعد أن احتدم الصدام بين الـمُمَسكين بالكتاب والمنحلين، جاء قوم وتوسطوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، خرجوا من بين الـمُمَسكين بالكتاب، وأصبح من كانوا على ما كانت عليه الأمة (الخليجية) من عشرين عاماً متشددين، وصار من تخذ طريقاً وسطاً هو المعتدل، وصار الغريب البغيض مقبولاً، أو طرفاً في الطرح على الأقل، وبعد قليل ينصب ميزان جديد يكون فيه (وسطيو) اليوم متشددون...!!
وما الحل؟
المتتبع للتغيرات الفكرية التي حدثت في مصر تحديداً ـ وقد أثرت على الجميع بعد ذلك ـ في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وثلثي القرن العشرين يجد أن كلَّ خروج على الشريعة قابله ردٌّ شديد من العلماء، ولك أن تطالع ـ على سبيل المثال ـ ردود العلماء على قاسم أمين في زمانه أعني والردود التي واجهها طه حسين تجد أنها كانت قوية وكثيرة حتى أن طه حسين مع بجاحته وجرأته اضطر إلى الخروج من مصر في بعض المرات هرباً من قوة الردود، وأحيط به مرة في مكتبه من تلاميذه وكادوا يقتلوه!!
وتجد أن عامة الناس كانوا مع الطرح الإسلامي المحافظ في البدايات، وتجد أن هؤلاء المنحرفين كانوا قلة بالنسبة للمنتسبين للعلم، ثم ماذا؟
مضى ركب الغواية، وحط رحاله، وبذر بذوره، وأثمرت شجيراته.
لم يقف مد المنحرفين (الوسطيين) و(المتطرفين) في الماضي والحاضر إلا بعمل.. بقدوة عملية.. بواقع جديد يفرض نفسه على الجاهلية. وأقرب شهيد على ذلك هو الأمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فقد أتى على البدع بواقع جديد فرضه على الجميع، وكذا الإمام أحمد حين صبر وصمد، وسيد قطب أفشل الله به مكرهم، مع أنهم لم يكتب عشر ما كتبه الرادَون على المنحرفين، ولكنه رد وعمل على إنشاء واقع جديد وقد أذن الله له في ذلك، فكان الواقع الجديد هو الرد العملي على المنحرفين.
بل لم يقف ركبُ الشيطان إلا حين واجه من يعملون، من أوجدوا واقعاً جديداً. أو قل قدوة عملية تصبر، وتقدم فعالها، فالجماهير ترى وتحب ما ترى وتتبعه وتنصره. والتاريخ ـ لمن يهوى دخول التاريخ ـ أصم لا يسمع.. يسجل الفعال لا الكلمات.
أهل الرخص لا مكان لهم في قيادة الأمة.
نحتاج نماذج جديدة كأحمد ابن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب تقود هذه الجماهير الثائرة.
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ـ تَفَاعُلُ عامةِ أهلِ العلم جاء بعد نشر الرسوم الدينماركية المسيئة لمقام خير البرية ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعدّة شهور ، وكذلك جاء بعد ثورة الجماهير، وكان تصاعدياً ولم يكن دفعة واحدة، وانتهى بأن شارك الجميع، كلٌّ بما يحسن.. بقلمه أو بلسانه أو من خلال مشروعة الدعوي (موقع)، (مجلة)، (قناة فضائية)... وبدا جيداً وقتها أن ثورة الجماهير هي التي دفعت الجميع للمشاركة. ثم خمد الجميع بعد فترة قصيرة، ولم تكن هناك متابعة، ولا تفعيل للحدث، إلا قليلاً جداً لم يظهر على الساحة ولم يؤثر في الحدث.
وفي هذه الأزمة (غزو غزة) أيضاً جاء التصعيد من الجماهير بداية، ومن نفرٍ قليل من أهل العلم، ثم جاءت مشاركة الجميع بعد ذلك. والجماهير هي الأبرز في الساحة.
لا يمكن حساب تحرك الجماهير ـ في الشارع أو في الشبكة العنكبوتية ـ لصالح قيادات العمل الدعوي أو غيرهم من جماعات (الإصلاح). فالحركة ذاتية في بدايتها وخلال سيرها وإن اشتملت على بعض أفراد الدعوة.
ـ حركة الجماهير في أزمة الدينمارك وحرب لبنان وفي أزمة غزة لها دلالة إيجابية، يعرفها الجميع، ويفرح بها، ويتكلم عنها، وهي أن الأمة يقظة يتفاعل بعضها مع بعض، ولها دلالات سلبية لا يمكن غض الطرف عنها، أبرز هذه الدلالات السلبية هو غياب الوعي الديني الصحيح عند الجماهير، فالجماهير ثارت بذات الحماسة مع حسن نصر في حربه مع اليهود، وركب في ركابهم عامة المثقفين، وبعضهم استدار على أهل السنة والجماعة يتراشق معهم يردهم عن الروافض، أو يطالبهم بالانزواء والخروج من الساحة الفكرية الإسلامية!!
ومن هذه الدلالات السيئة للأزمات المتتالية (الرسوم، وحرب حسن نصر، وغزو غزة) أن زمام الجماهير ليس بأيدي العلماء الربانيين.
حال الجماهير اليوم، يُذكِّر بحال الجماهير في العقد الخامس والسادس من القرن الماضي في مصر والشام والمغرب العربي، كانت الجماهير مع الطرح الإسلامي، وكان يومها جهادي يقاتل اليهود في فلسطين، ويقاتل الصليبيين في المغرب الأقصى (عبد الكريم الخطابي) وفي المغرب الأدنى (الجزائر)، ومنتصر على القوة (العظمى) بريطانيا في أفغانستان، وكانت القوة (العظمى) يومها مُهزومة تستعد للرحيل، كانت الجماهير يومها ثائرة أهدافها دينية، ويبدوا المحرك لها أو المؤثر على حركتها هو (رجل الدين)، ثم صارت الجماهير بذات الحماسة مع لصوص الثمرة.. أعني (الثوار الأحرار) (العرب الأمجاد)!!
لم يكن أحد قبل الثورة يقول أن الدول محتلة، إذ كان بمصر حكومة وجيشاً، ووزراء، ومجلس نواب يمثل الشعب!!، وكانت الثورة على الملك ولم تكن على الإنجليز، وكانت لضبط بعض الأمور وليس لطرد الملك بداية، ثم قيل للجماهير بعد ذلك كان احتلال، وكانت ثورة على الاحتلال، وكان وكان.. وصدَّقت الجماهير ما يتلى عليها، وحفظت وراحت تتلو سراً وعلانية!!
الجماهير تحركها مناظر القتل والتشريد، الجماهير تحركها معاني الظلم والاضطهاد، الجماهير يُجلب عليها بالصوت والرجال فتخرج ثائرة. فلا ينبغي أبداً أن نخدع بصحوة الجماهير ونحسب أن هذه الصحوة من ثمار دعوتنا (الصحوية)، وأننا نحن الذين أشعلناها (يوم الدينمارك) و(يوم غزة)، بل سبقت الجماهير وكنا نحن المتأخرين، وبعضهم يقول: وكنتم من أطفأها، ويستشهد بمؤتمر البحرين.
الصحوة الإسلامية بعيدة تماماً عن الحدث أو تدخل في سياق آخر، والسبب من وجهة نظري هو طبيعة الخطاب الصحوي الآن، فالخطاب الصحوي مع انتشاره وظهوره على الساحة إلا أنه خفيف يطفو على السطح ولا يؤثر في جريان النهر.
الخطاب الصحوي الآن وعظي لا يُعنى بشيء من قضايا الأمة القائمة أو من مشاكلها العقدية المترسبة إلا ادعاءاً، فهو يتراجع عن معالجة ما يحدث في العراق والأفغان والصومال وحتى فلسطين، ولا يقف موقفاً واضحاً من المد النصراني (التنصير) المتصاعد، ولا ينثني على من بين يديه من أصحاب البدع العملية (كالمتصوفة) أو الفكرية (المعتزلة.. العقلانيين الليبراليين)، وكل ما يقدمه هو عرض للنماذج الطيبة الطاهرة التي مضت في التاريخ، وعظاً عاماً يحوم حول الحمى ولا يقع فيه.
فإذا كان الطرح السلفي المنتشر للجماهير لا يرد النصارى عن حرمات الدين بعد أن تجرؤوا عليه بما لم يسبق له مثيل، وإذا كان الطرح السلفي (أو الصحوي المُصدر للجماهير) لا يتصدى لليبراليين والمتحررين، وإذا كان الطرح السلفي (أو الصحوي المُصدر للجماهير) لا يتصدى للمنحرفين عقدياً ويظهرون بدعاً عملية بين الناس ويدعون إليها، وإذا كان الطرح السلفي (أو الصحوي المُصدر للجماهير) يهيج حيناً على الرافضة ويخمد حيناً مع أن دواعي (الهيجان) على الروافض قائمة على الدوام، وإذا علمت أنه يُسمح لقومٍ ولا يسمح لآخرين بالتحدث للناس، علمت أن الطرح السلفي (أو الصحوي) المصدر للجماهير يسير في ركاب غيره، يُصنع به الحدث.
وما أفهمه أن الانحرافات الفكرية التي تتبعها الانحرافات العقدية تأتي دائماً من تيار الوسط، فقديماً احتدم الخلاف بين السلف الصالح القائلين بأن الإيمان اعتقاد (قول القلب وعمله) وعمل (قول اللسان وعمل الجوارح) وبين أهل التعطيل، وجاء أهل الكلام فكانوا وسطاً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ـ والوسط بين الحق والباطل باطل ـ فقبلتهم العامة، وهم منحرفون، وهم معطلون في الحقيقة، ولكن هذه هي الجماهير تميل دائماً لكل من توسط بين طرفين!!
واشتد الخلاف بين السلف الصالح والخوارج في مرتكب الكبيرة فجاءت المعتزلة وسطاً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ووجدت مكاناً عالياً فسيحاً جلست فيه ولا زالت بيننا إلى يومنا هذا!!
واشتد الخلاف بين حواري (تلاميذ) المسيح عليه السلام وبين الوثنيين من الرومان فاستُدعى بولس من تحت ركام الأيام ليكون وسطاً مقبولاً عند عامة الناس، ولم يكن ذا أمرٍ يوم مات!!
واليوم اشتد الخلاف بين الصحوة الإسلامية والعلمانية بشقيها: السياسي (الديمقراطية)، والفكري (الليبرالية)، وما حوت تحت جناحها من المنحرفين الضالين، فمَكَرَ القومُ مكراً كباراً، مارسوا ضغطاً على الصحوة حتى رضي فصيل منها بالخروج المشروط، أو بالاستفادة من المتاح بدعوى المصالح والمفاسد، وبعد أن خرج هؤلاء واستقروا جيء بما يسمى بالدعاة الجدد وسطاً بين هؤلاء وبين المنحرفين عقدياً وسلوكياً، ولذا راجت بضاعة (الدعاة الجدد) وصار هؤلاء ـ المنتخبون من التيار السلفي ـ متشددون بجوار (الدعاة الجدد)، وبعد قليل سيتم نصب أحد هؤلاء الدعاة الجدد على أنه متشدد، ويخرج آخر أكثر انحلالاً على أنه وسطاً... وهكذا تنتقل الجماهير مرحلة بعد مرحلة حتى تحل أو قريباً من ديارهم.
وذات الشيء يقام في (الخليج)، فبعد أن احتدم الصدام بين الـمُمَسكين بالكتاب والمنحلين، جاء قوم وتوسطوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، خرجوا من بين الـمُمَسكين بالكتاب، وأصبح من كانوا على ما كانت عليه الأمة (الخليجية) من عشرين عاماً متشددين، وصار من تخذ طريقاً وسطاً هو المعتدل، وصار الغريب البغيض مقبولاً، أو طرفاً في الطرح على الأقل، وبعد قليل ينصب ميزان جديد يكون فيه (وسطيو) اليوم متشددون...!!
وما الحل؟
المتتبع للتغيرات الفكرية التي حدثت في مصر تحديداً ـ وقد أثرت على الجميع بعد ذلك ـ في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وثلثي القرن العشرين يجد أن كلَّ خروج على الشريعة قابله ردٌّ شديد من العلماء، ولك أن تطالع ـ على سبيل المثال ـ ردود العلماء على قاسم أمين في زمانه أعني والردود التي واجهها طه حسين تجد أنها كانت قوية وكثيرة حتى أن طه حسين مع بجاحته وجرأته اضطر إلى الخروج من مصر في بعض المرات هرباً من قوة الردود، وأحيط به مرة في مكتبه من تلاميذه وكادوا يقتلوه!!
وتجد أن عامة الناس كانوا مع الطرح الإسلامي المحافظ في البدايات، وتجد أن هؤلاء المنحرفين كانوا قلة بالنسبة للمنتسبين للعلم، ثم ماذا؟
مضى ركب الغواية، وحط رحاله، وبذر بذوره، وأثمرت شجيراته.
لم يقف مد المنحرفين (الوسطيين) و(المتطرفين) في الماضي والحاضر إلا بعمل.. بقدوة عملية.. بواقع جديد يفرض نفسه على الجاهلية. وأقرب شهيد على ذلك هو الأمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فقد أتى على البدع بواقع جديد فرضه على الجميع، وكذا الإمام أحمد حين صبر وصمد، وسيد قطب أفشل الله به مكرهم، مع أنهم لم يكتب عشر ما كتبه الرادَون على المنحرفين، ولكنه رد وعمل على إنشاء واقع جديد وقد أذن الله له في ذلك، فكان الواقع الجديد هو الرد العملي على المنحرفين.
بل لم يقف ركبُ الشيطان إلا حين واجه من يعملون، من أوجدوا واقعاً جديداً. أو قل قدوة عملية تصبر، وتقدم فعالها، فالجماهير ترى وتحب ما ترى وتتبعه وتنصره. والتاريخ ـ لمن يهوى دخول التاريخ ـ أصم لا يسمع.. يسجل الفعال لا الكلمات.
أهل الرخص لا مكان لهم في قيادة الأمة.
نحتاج نماذج جديدة كأحمد ابن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب تقود هذه الجماهير الثائرة.
المصدر: طريق الإسلام
- التصنيف: