شكرًا لك يا بُني

منذ 2015-10-18

مرت الأيام وأنا أدور في دوامة عملي وكدي ونظام يومي المعتاد، وفي ضحى أحد الأيام فوجئت بمعاذ يأتي إلي مهرولًا بوجه يحمل كل السعادة والبشر وأخبرني بكل الفخر أنه قد تمكن بفضل الله من تحقيق المركز الأول ليس على مستوى المدرسة فقط بل على مستوى المحافظة كليًا فأسقط في يدي وأيقنت أنني تورطت في الوعد وصار لزاماً علي أن أفي به.

لست أدري سبب هذه القسوة وغلظة القلب التي تتملكني، فأنا أخشى الناس وأتجنبهم وأتوجس منهم خيفةً، ولا أظن بهم خيرًا، ولذا اتخذت من العزلة والقطيعة للمجتمع والمحيطين بي سبيلًا، أعانني على ذلك إقامتي مع أسرتي -زوجتي وابني الوحيد- في منزل بعيد، وعملي في مزرعتي الصغيرة المنعزلة، لست أدري أهو الفقر أم التنشئة غير السوية والبعيدة عن الرشد والخلق القويم، أم أنني قد جبلت على هذه الصفات وأصبحت ملازمةً لي.
ولكن ابني معاذ -وهو نجلي الوحيد- كان من طينة أخرى، كان هذا الولد الغريب رقيق القلب رفيقًا في طباعه يمتلئ بالتفاؤل والرقة والدعة إلى درجة كانت تفاقم من حنقي عليه وغضبي الدائم منه جراء رقته وحنوه التي لا أدري من أين اكتسبهما.

كم من مرة أضبطه متلبسًا بإطعام كلب صغير جائع يلوذ به، وتلك القطة التي لا ندري من أين أتت إلى كوخنا الصغير، بل اتخذت من ركن في جداره وكرًا تضع فيه صغارها وكأننا ينقصنا من ينال من قوتنا وطعامنا الذي لا يكاد يكفينا، تلك القطة وصغارها اكتشفت أن "المحروس" يقوم بتوفير نصف نصيبه من اللحم الذي لا نطعمه إلا مرةً في الشهر لإطعامها وصغارها، يا للولد الغريب! يدخر من طعامه الذي يحبه ويحرم نفسه من أجل إطعام قطة وصغارها، عندما اكتشفت هذا -وكان يفعله خلسة- غضبت أشد الغضب وعاقبته بالحرمان من اللحم لمدة طويلة حتى ينال عقاب فعلته النكراء هذه.

المهم أن معاذاً أتى إلي يومًا وكنت أكدح في المزرعة وهو يقدم قدمًا ويؤخر أخرى، أتاني متلعثمًا يذوب خجلًا وقد احتبست الحروف على لسانه، وعندما سألته عما يريد لم أتمالك نفسي عندما أخبرني بأنه يريد دراجة مثل زملائه يذهب بها إلى مدرسته ويلهو بها، حينئذٍ أظلمت الدنيا في وجهي من شدة الغضب ولم أتمالك نفسي فبطشت به وعنفته كثيرًا متهمًا إياه بغير المبالاة وعدم الإحساس بما نعانيه من شظف العيش والفقر، فانصرف آسفًا باكيًا حزينًا.

عندما عدت إلى المنزل لا أدري من أين أتاني هذا العطف على الولد فأقبلت عليه وعندما نظرت إليه لم أر عليه أي أثر من عتاب أو حزن جراء ما لاقاه مني، وكأن ذاكرته لا تسع أو تعي سوى الطيب من القول والفعل.
أخبرته بأنه إن كان يريد دراجة حقًا فعليه أن يحقق الترتيب الأول على مدرسته في امتحان الشهادة الابتدائية الذي لم يتبق عليه سوى شهرين، كنت أعرف أنها مهمة شبه مستحيلة بالنسبة له حيث لم يتبق سوى القليل على الامتحان كما أن زملاءه أكثر منه تفوقًا ويتلقون دروسًا خاصة تتيح لهم التفوق على من سواهم، هذا بالإضافة إلى أن معاذًا كان معتلًا نحيفًا منذ صغره نتيجة سوء التغذية وتنازله عن نصف طعامه تقريبًا لما يأوي إليه من قطط أو كلاب ضالة، لكل هذه الأسباب تأكدت أن مهمة ابني شبه مستحيلة ومن ثم كنت مطمئنًا لكوني لن أشتري له دراجة ولن أخلف الوعد لأنه لن يحقق شرط الوفاء به.

مرت الأيام وأنا أدور في دوامة عملي وكدي ونظام يومي المعتاد، وفي ضحى أحد الأيام فوجئت بمعاذ يأتي إلي مهرولًا بوجه يحمل كل السعادة والبشر وأخبرني بكل الفخر أنه قد تمكن بفضل الله من تحقيق المركز الأول ليس على مستوى المدرسة فقط بل على مستوى المحافظة كليًا فأسقط في يدي وأيقنت أنني تورطت في الوعد وصار لزاماً علي أن أفي به.

دبرت المبلغ بشق الأنفس من مدخر ضئيل وجانب من مصروفات كانت مخصصةً للطوارئ مع دعاء بالستر من المستقبل الذي أخشاه دومًا، ذهبنا إلى المدينة، وابتعت الدراجة لمعاذ الذي كاد أن يطير بها فرحًا وعرجنا على "العجلاتي" ليقوم بتربيط وتشحيم الدراجة لكي تصبح جاهزة للاستخدام غير أننا لم نجد الأسطى العجلاتي نفسه وإنما وجدنا صبيًا في مثل عمر معاذ أكد لنا أنه ماهر في صنعته وأن الأمر لن يستغرق سوى بضع دقائق.
انتحيت جانباً وأخذ معاذ يتابع عمل الصبي باهتمام ويتبادل الحديث معه، وبلغت دهشتي مداها عندما دار هذا الحديث بينهما:
الصبي: إنني أغبطك على هذه الدراجة الجميلة،ا شك أنك تستحقها.
معــــاذ: هل تتمنى أن يكون لك مثلها؟
- وأنى لي بمثل هذه الدراجة، إن ثمنها يفوق طاقتي بكثير.
- ماذا لو كان لديك مثلها؟ لعلك كنت تلهو بها وتسعد مع أصدقائك.
- ألهو بها؟ تلك أمنية لا يحلم بها مثلي، لو كان لديِ مثل هذه الدراجة لقمت بتأجيرها للأولاد ووفرت منها ما أشتري به الدواء لوالدتي المريضة وطعامٍا لإخوتي.
- وأين والدك؟
- توفي وتركني مسؤولًا عن والدتي المريضة وإخوتي الصغار لأني أكبرهم.
كنت أتابع الحديث بين الصغيرين دون أن يشعرا بي، وهنا حدثت المفاجأة التامة من نجلي معاذ عندما قال للصبي:
هذه الدراجة مني لك بورك لك فيها ولا تنس أن تلهو بها عندما يتاح لك ذلك.
كانت دهشة الصبي أشد من دهشتي ولم يصدق أن الدراجة أصبحت بالفعل ملكاً له.

لم يبق في المشهد سوى رد الفعل الذي صدر مني: كان هذا الحديث والحدث كأنه قد هزني من سبات عميق وتفكرت في نفسي وخجلت منها أمام ما يبديه هذا الولد من كرم وإيثار ورغبة عارمة في إسعاد غيره حتى لو كان على حساب رغباته وأمانيه التي بذل الكثير لينالها.

وكأني قد ولدت من جديد واغرورقت عيناي بالدموع، عندها احتضنت ولدي وقبلت جبينه ممتنًا لصنيعه واعداَ إياه بدراجة جديدة في أقرب وقت ممكن!

 

 حمدي لطفي حتيتة.

المصدر: مجلة البيان العدد: 339