أقد فرغت يا أبا الوليد؟!
منذ 2009-06-16
ولقد ظن أبو لهب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو رجل واحد يكفي في زجره أن يقول له سيد من سادات قريش: "تبًا لك" لينتهي الأمر!!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله، أما بعد؛
فقد أرسل الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فجاهد في الله حق جهاده، ومرت دعوته -صلى الله عليه وسلم- بأحوال وأطوار تصرَّف فيها -صلى الله عليه وسلم- بتأييد من الله -تعالى- سطر بعضه في القرآن وبعضه في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يغني أتباعه إلى يوم القيامة من تلمُّس التصرف الأمثل في كل ما يعرض لهم؛ فسوف يجدون مثله في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن المعلوم أن أول ما وُوجـه به النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته العلنية كان ذلك الخطاب الطاغوتي المتعجرف من أبي لهب -لعنه الله- الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟!"، فتولى الله -تعالى- الإجابة عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ونزلت الآيات تخصه بالذم والتقريع، وإن كان غالب أحوال آي القرآن أن تنزل بالوعيد العام لمن أعرض عن الحق, ولكن لما بالغ أبو لهب في الإيذاء نزل القرآن فيه خاصة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾ سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿٣﴾ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿٤﴾ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [سورة المسد] (1).
ولقد ظن أبو لهب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو رجل واحد يكفي في زجره أن يقول له سيد من سادات قريش: "تبًا لك" لينتهي الأمر!!
ولكن الأمر لم ينتهِ؛ لأنه من عند الله، وهذا ما أبى أبو لهب أو غيره من صناديد قريش أن يتأملوا فيه، أو تأملوا وأصرُّوا على الإعراض، واتسع الأمر رغم الكلمات الجوفاء التي خرجت من أبي لهب، حتى لجأت قريش (2) إلى حيلة أخرى، وذلك أنها انتدبت منهم رجلاً عاقلاً بليغـًا لم يكن قد صدر منه إلى تلك اللحظة أي أذى تجاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذهب إليه مفاوضـًا أو مساومًا، وكان بوسع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُعرضَ عنه من باب أنه صَمَتَ صَمْتَ المقرِّ عن قول أبي لهب، وأن مبادرته قد تأخرت سنوات قـُتلت فيها "سمية" -رضي الله عنها- بغير ذنب إلا أن تقول ربي الله، ووضعت الحجارة العظيمة على صدر "بلال" -رضي الله عنه-، وفعل وفعل...
ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأخلاقه الكريمة حتى مع الكفار استقبله وسمع منه، وخاطبه بكنيته، كان هذا الرجل هو "عتبة بن ربيعة"، وكنيته "أبو الوليد"، ودار بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحوار:
"قال عتبة: يَا ابْنَ أَخِي، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْت مِنْ السّطَةِ -الشرف- فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النّسَبِ، وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفّهْت بِهِ أَحْلامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنّي أَعْرِضْ عَلَيْك أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلّك تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: (قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعُ)، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْتَ إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ مَالاَ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاك عَلَيْنَا حَتّى لا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَك، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيك رَئِيّا تَرَاهُ لا تَسْتَطِيعُ رَدّهُ عَنْ نَفْسِكَ طَلَبْنَا لَكَ الطّبّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنّهُ رُبّمَا غَلَبَ التّابِعُ عَلَى الرّجُلِ حَتّى يُدَاوَى مِنْهُ.
وفَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ: «أَقَدْ فَرَغْت يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟»، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: «فَاسْمَعْ مِنّي»، قَالَ: "أَفْعَلُ"، فَقَالَ الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ {حم ﴿١﴾ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1-2]، ومَضَى رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يقرأ وقد َأَلْقَى عتبة يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ منصتـًا حتى انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى السّجْدَةِ(3)، فَسَجَدَ، ثُمّ قَالَ: «قَدْ سَمِعْت يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْت، فَأَنْتَ وَذَاكَ»"(4).
وهذا الجواب النبوي القرآني ينبغي أن يكون جوابنا لكل "أبي وليد"، عربيًّا كان أو أعجميًا؛ لأننا معشر المسلمين نؤمن بأنه: "لا فضل لعربي على عجمي، ولعجمي على عربي إلا بالتقوى"، وليس المعيار الذي نزن به الأشخاص والأقوال والأفعال القومية والعصبية، بل الدين، وقد جاءنا أبو الوليد الفرنسي قبل ثلاثة قرون من الآن، فحصل على نفس الجواب ورجع(5).
ولا بأس أن نقف عند بعض الآيات التي قرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- على "أبي الوليد العربي" ليكون منها "أبو الوليد الأمريكي" على بينة:
- {حم ﴿١﴾ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1-2].
أي أن هذا الدين من عند الله رحمة للعالمين من ظلم بعضهم لبعض، ومن استعباد بعضهم بعضًا، وأبو الوليد من أدرى الناس بذلك، وهو تنزيل من الله لا يملك منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئًا حتى "يفاوضوه"، أو إن شئنا أن نسمي الأشياء بأسمائها حتى "يساوموه"، وهذا القدر وحده هو الرد بتمامه، وكل ما بعده كان عرضًا لهذه الدعوة كما عرض أبو الوليد دعوته.
- ومما جاء في هذه التلاوة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴿٦﴾ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6-7]، وهي دعوة إلى السبيل الوحيد؛ إلى الطهارة والزكاة والمثل العليا، وهو الإيمان والتوحيد.
- ومما جاء فيها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]، فأما وقد وعد الله المؤمنين بأجر غير منقطع فلا حاجة لهم إلى وعود تنقطع بانقطاع الدنيا، وربما انقطعت قبل ذلك بانقطاع الدول، وربما انقطعت مثل ذلك بانقطاع صاحب الوعد عن دنياه أو عن سلطانه، وربما ذهب "أبو الوليد" فجاء بعده "أبو جهل".
- ومما جاء فيها: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15].
- ومما جاء فيها: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿٣٣﴾ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿٣٤﴾ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٣٥﴾ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 33-36].
ولا يمكننا أن نترك هذا المقام إلا بعد أن نشير إلى أن محاولة أخرى أخف من هذه المحاولات بكثير تمت فيما بعدُ حينما طلبت قريش من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخص كبراءهم بمجلس يتميزون فيه عن الضعفاء، فتردَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- في قبول ذلك، فأنزل الله في ذلك قرآنـًا يبيِّن أن هذا يمثله افتراء قرآن آخر على الله، كما قال -تعالى-: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴿٧٣﴾ وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴿٧٤﴾ إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73-75].
فاللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا به حتى نلقاك عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقريب من هذا ما حدث من "بندكت" الذي تعرض للنبي -صلى الله عليه وسلم- في خطاب، فما لبث أيامًا حتى قام بعض بني دينه برفع دعاوى ضده هو وأساقفته عن قضايا "تحرش جنسي" منذ عشرات السنين، وذكر الشاكُون أن "بندكت" كان له دورًا كبيرًا في التستر عليها وإرهاب الضحايا حتى لا يحرِّكون قضايا، وما يعلم جنود ربك إلا هو.
(2) قريش هي أشرف قبائل العرب نسبًا، ولكنها مثـَّلت في المرحلة الأولى للدعوة الإسلامية دور: "شرطي العرب" في مواجهة خط "الدين الجديد"، ومازالت تلك المرحلة من مراحل التاريخ القرشي تمثل النموذج الذي يلهم به الشيطان كل من يقوده "حظه العاثر" لـ"يمثل دور الشرطي" في "محاربة الإسلام".
(3) السجدة في قوله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ . فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 37-38]، وقد ورد في هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بلغ في قراءته: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]، جعل عتبة يضع يده في فم النبي -صلى الله عليه وسلم- ويناشده الله والرحم خشية أن تنزل عليه صاعقة؛ لما يعلمه من صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
(4) وتبع هذا العرض عرض آخر من وفد من قريش، وفي هذه المرة أجابهم الوحي بهذه الآيات: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا ﴿٢٣﴾ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 23-24]، ثم تلا ذلك نكوص عن لغة الحوار إلى لغة البطش مرة ثانية عن طريق أبي جهل الذي أخذ حجرًا كبيرًا وقال:
"لأفلقن به رأس محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي"، وتحيَّن عدو الله الفرصة، فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي حول الكعبة بين الركنين مستقبل البيت؛ جاء أبو جهل -لعنه الله-، وتقدم نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليضربه بالحجر، ورجالات قريش في أنديتهم ينتظرون ما يفعله طاغيتهم -عليه لعائن الله-، فلما دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولَّى هاربًا منتقع -أي متغير الوجه- اللون مرعوبًا، قد يبست يداه على الحجر، وقام إليه رجالات قريش يقولون: "ما لك أبا الحكم؟ ما أصابك؟".
قال: "قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوتُ منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته -ضخامة رأسه- ولا مثل قـَصَره -أصل العنق- ولا أنيابه لفحل قط، فهمَّ بي ليأكلني!!". وفي هذه الحادثة نزل قول الله -تعالى-: {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴿١٥﴾ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴿١٦﴾ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴿١٧﴾ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴿١٨﴾ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} [العلق: 15-19].
(5) في الواقع أن "أبا الوليد الفرنسي" نابليون بونابرت كان معجبًا بالإسلام إعجابًا حقيقيًّا، دينـًا وحضارة، وليس حضارة فقط كحال صاحبه الأمريكي حتى صرح تصريحًا اندهش منه "برنارد شو" والذي تساءل في كتابه "المسيح ليس مسيحيًّا" عن هذا السر الذي دفع بونابرت لكي يصرح بأنه لو قدِّر له حكم العالم فسيحكمه بـ"شريعة الإسلام"، ولقد فعل بونابرت شيئًا من ذلك عندما نقل كثيرًا من أبواب الفقه الإسلامي في القانون الفرنسي، بيد أنه لم يستطع أن يفرض على قومه حرمة الربا والميسر في المعاملات المالية، وحرمة الزنا في نظام الأسرة، وحرمة الخمر والخنزير في الأطعمة والأشربة، مما جعل المجتمع الأوروبي لم يستفد الاستفادة الكاملة من فعل نابليون من الشرع الإسلامي، ولكن نابليون كان كغيره من الساسة "ميكافيلي" لا يعترف إلا بمصلحة قومه إن لم تكن مصلحته هو الشخصية فحسب، ولذلك لما فشلت حيلته في ارتداء ثوب "أبي الوليد" ارتدى ثوب "أبي جهل" فلم يفلح هذا ولا ذاك -بفضل الله-، وإليك ما ذكره العلامة "محمود شاكر" في رسالة: "الطريق إلى ثقافتنا" ملخصًا حال هذه الحملة:
"فلما دخل نابليون القاهرة، وأصدر أمره بتكوين "الديوان" من "تسعة من المشايخ الكبار"؛ استجاب ستة منهم لدعوة نابليون، ثم استجاب أيضًا ثلاثة آخرون لتمام التسعة، بعد رفض "السادات" و"عمر مكرم" و"محمد الأمير" أن يستجيبوا لدعوته، والذي دعا هؤلاء الأشخاص للاستجابة خوفهم على مصير القاهرة التي تركت بلا حامٍ يحميها، بعد أن خذلها حماتها من صناديد الحرب والقتال، وهم المماليك المصرية، فلم يرَ المشايخ سبيلاً إلى حقن دماء العامة رجالاً ونساءً إلا المهادنة، وإلا الصبر والسكينة حتى يكشف الله هذه الغمة بما شاء -سبحانه-.
فكانت استجابة هؤلاء المشايخ التسعة لتكوين "الديوان" منهم أول زلة، وكانت هذه الاستجابة أيضًا أول نجاح حازه "الاستشراق" في "تدجين" بعض المشايخ الكبار، ولكن لم تلبث الأمة خاصتها وعامتها أن رفضت الاستماع إلى هؤلاء المشايخ "المدجنين"، واستمعت إلى آخرين من المشايخ، وإلى صغار طلبة العلم بالأزهر الذين رفضوا نصيحة المشايخ التسعة الكبار، وقامت "ثورة القاهرة" وثورات الأقاليم بعد ثلاثة أشهر من "تدجين" التسعة الكبار، ومن دخول جزَّار القاهرة أرضًا لم تطأها من قبل قدم غازٍ صليبي محترق كالميكافلي "نابليون" الذي غرَّ هؤلاء التسعة، وخدعهم حُسن استقباله لهم، وتوقيرهم؛ خِداعًا لهم بمداهنته ومكره ودهائه.
وكان بعد ذلك ما كان من سفك الدماء ليلاً ونهارًا، جهرة وخفية، لم يستثن الجزار ولا خلفاؤه شيخـًا فانيًا ولا طفلاً رضيعًا، ولا امرأة عاجزة، حتى انكشح هو وجنوده من أرض مصر بعد ثلاث سنوات خزايا مقهورين.
فقد أرسل الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فجاهد في الله حق جهاده، ومرت دعوته -صلى الله عليه وسلم- بأحوال وأطوار تصرَّف فيها -صلى الله عليه وسلم- بتأييد من الله -تعالى- سطر بعضه في القرآن وبعضه في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يغني أتباعه إلى يوم القيامة من تلمُّس التصرف الأمثل في كل ما يعرض لهم؛ فسوف يجدون مثله في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن المعلوم أن أول ما وُوجـه به النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته العلنية كان ذلك الخطاب الطاغوتي المتعجرف من أبي لهب -لعنه الله- الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟!"، فتولى الله -تعالى- الإجابة عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ونزلت الآيات تخصه بالذم والتقريع، وإن كان غالب أحوال آي القرآن أن تنزل بالوعيد العام لمن أعرض عن الحق, ولكن لما بالغ أبو لهب في الإيذاء نزل القرآن فيه خاصة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿١﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿٢﴾ سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿٣﴾ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿٤﴾ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [سورة المسد] (1).
ولقد ظن أبو لهب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو رجل واحد يكفي في زجره أن يقول له سيد من سادات قريش: "تبًا لك" لينتهي الأمر!!
ولكن الأمر لم ينتهِ؛ لأنه من عند الله، وهذا ما أبى أبو لهب أو غيره من صناديد قريش أن يتأملوا فيه، أو تأملوا وأصرُّوا على الإعراض، واتسع الأمر رغم الكلمات الجوفاء التي خرجت من أبي لهب، حتى لجأت قريش (2) إلى حيلة أخرى، وذلك أنها انتدبت منهم رجلاً عاقلاً بليغـًا لم يكن قد صدر منه إلى تلك اللحظة أي أذى تجاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذهب إليه مفاوضـًا أو مساومًا، وكان بوسع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُعرضَ عنه من باب أنه صَمَتَ صَمْتَ المقرِّ عن قول أبي لهب، وأن مبادرته قد تأخرت سنوات قـُتلت فيها "سمية" -رضي الله عنها- بغير ذنب إلا أن تقول ربي الله، ووضعت الحجارة العظيمة على صدر "بلال" -رضي الله عنه-، وفعل وفعل...
ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأخلاقه الكريمة حتى مع الكفار استقبله وسمع منه، وخاطبه بكنيته، كان هذا الرجل هو "عتبة بن ربيعة"، وكنيته "أبو الوليد"، ودار بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحوار:
"قال عتبة: يَا ابْنَ أَخِي، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْت مِنْ السّطَةِ -الشرف- فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النّسَبِ، وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفّهْت بِهِ أَحْلامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنّي أَعْرِضْ عَلَيْك أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلّك تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: (قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعُ)، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْتَ إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ مَالاَ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاك عَلَيْنَا حَتّى لا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَك، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيك رَئِيّا تَرَاهُ لا تَسْتَطِيعُ رَدّهُ عَنْ نَفْسِكَ طَلَبْنَا لَكَ الطّبّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنّهُ رُبّمَا غَلَبَ التّابِعُ عَلَى الرّجُلِ حَتّى يُدَاوَى مِنْهُ.
وفَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ: «أَقَدْ فَرَغْت يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟»، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: «فَاسْمَعْ مِنّي»، قَالَ: "أَفْعَلُ"، فَقَالَ الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ {حم ﴿١﴾ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1-2]، ومَضَى رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يقرأ وقد َأَلْقَى عتبة يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ منصتـًا حتى انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى السّجْدَةِ(3)، فَسَجَدَ، ثُمّ قَالَ: «قَدْ سَمِعْت يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْت، فَأَنْتَ وَذَاكَ»"(4).
وهذا الجواب النبوي القرآني ينبغي أن يكون جوابنا لكل "أبي وليد"، عربيًّا كان أو أعجميًا؛ لأننا معشر المسلمين نؤمن بأنه: "لا فضل لعربي على عجمي، ولعجمي على عربي إلا بالتقوى"، وليس المعيار الذي نزن به الأشخاص والأقوال والأفعال القومية والعصبية، بل الدين، وقد جاءنا أبو الوليد الفرنسي قبل ثلاثة قرون من الآن، فحصل على نفس الجواب ورجع(5).
ولا بأس أن نقف عند بعض الآيات التي قرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- على "أبي الوليد العربي" ليكون منها "أبو الوليد الأمريكي" على بينة:
- {حم ﴿١﴾ تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1-2].
أي أن هذا الدين من عند الله رحمة للعالمين من ظلم بعضهم لبعض، ومن استعباد بعضهم بعضًا، وأبو الوليد من أدرى الناس بذلك، وهو تنزيل من الله لا يملك منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئًا حتى "يفاوضوه"، أو إن شئنا أن نسمي الأشياء بأسمائها حتى "يساوموه"، وهذا القدر وحده هو الرد بتمامه، وكل ما بعده كان عرضًا لهذه الدعوة كما عرض أبو الوليد دعوته.
- ومما جاء في هذه التلاوة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴿٦﴾ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6-7]، وهي دعوة إلى السبيل الوحيد؛ إلى الطهارة والزكاة والمثل العليا، وهو الإيمان والتوحيد.
- ومما جاء فيها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]، فأما وقد وعد الله المؤمنين بأجر غير منقطع فلا حاجة لهم إلى وعود تنقطع بانقطاع الدنيا، وربما انقطعت قبل ذلك بانقطاع الدول، وربما انقطعت مثل ذلك بانقطاع صاحب الوعد عن دنياه أو عن سلطانه، وربما ذهب "أبو الوليد" فجاء بعده "أبو جهل".
- ومما جاء فيها: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15].
- ومما جاء فيها: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿٣٣﴾ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿٣٤﴾ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٣٥﴾ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 33-36].
ولا يمكننا أن نترك هذا المقام إلا بعد أن نشير إلى أن محاولة أخرى أخف من هذه المحاولات بكثير تمت فيما بعدُ حينما طلبت قريش من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخص كبراءهم بمجلس يتميزون فيه عن الضعفاء، فتردَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- في قبول ذلك، فأنزل الله في ذلك قرآنـًا يبيِّن أن هذا يمثله افتراء قرآن آخر على الله، كما قال -تعالى-: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ﴿٧٣﴾ وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴿٧٤﴾ إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73-75].
فاللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا به حتى نلقاك عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقريب من هذا ما حدث من "بندكت" الذي تعرض للنبي -صلى الله عليه وسلم- في خطاب، فما لبث أيامًا حتى قام بعض بني دينه برفع دعاوى ضده هو وأساقفته عن قضايا "تحرش جنسي" منذ عشرات السنين، وذكر الشاكُون أن "بندكت" كان له دورًا كبيرًا في التستر عليها وإرهاب الضحايا حتى لا يحرِّكون قضايا، وما يعلم جنود ربك إلا هو.
(2) قريش هي أشرف قبائل العرب نسبًا، ولكنها مثـَّلت في المرحلة الأولى للدعوة الإسلامية دور: "شرطي العرب" في مواجهة خط "الدين الجديد"، ومازالت تلك المرحلة من مراحل التاريخ القرشي تمثل النموذج الذي يلهم به الشيطان كل من يقوده "حظه العاثر" لـ"يمثل دور الشرطي" في "محاربة الإسلام".
(3) السجدة في قوله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ . فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 37-38]، وقد ورد في هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بلغ في قراءته: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]، جعل عتبة يضع يده في فم النبي -صلى الله عليه وسلم- ويناشده الله والرحم خشية أن تنزل عليه صاعقة؛ لما يعلمه من صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
(4) وتبع هذا العرض عرض آخر من وفد من قريش، وفي هذه المرة أجابهم الوحي بهذه الآيات: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا ﴿٢٣﴾ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 23-24]، ثم تلا ذلك نكوص عن لغة الحوار إلى لغة البطش مرة ثانية عن طريق أبي جهل الذي أخذ حجرًا كبيرًا وقال:
"لأفلقن به رأس محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي"، وتحيَّن عدو الله الفرصة، فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي حول الكعبة بين الركنين مستقبل البيت؛ جاء أبو جهل -لعنه الله-، وتقدم نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليضربه بالحجر، ورجالات قريش في أنديتهم ينتظرون ما يفعله طاغيتهم -عليه لعائن الله-، فلما دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولَّى هاربًا منتقع -أي متغير الوجه- اللون مرعوبًا، قد يبست يداه على الحجر، وقام إليه رجالات قريش يقولون: "ما لك أبا الحكم؟ ما أصابك؟".
قال: "قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوتُ منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته -ضخامة رأسه- ولا مثل قـَصَره -أصل العنق- ولا أنيابه لفحل قط، فهمَّ بي ليأكلني!!". وفي هذه الحادثة نزل قول الله -تعالى-: {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴿١٥﴾ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴿١٦﴾ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴿١٧﴾ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴿١٨﴾ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} [العلق: 15-19].
(5) في الواقع أن "أبا الوليد الفرنسي" نابليون بونابرت كان معجبًا بالإسلام إعجابًا حقيقيًّا، دينـًا وحضارة، وليس حضارة فقط كحال صاحبه الأمريكي حتى صرح تصريحًا اندهش منه "برنارد شو" والذي تساءل في كتابه "المسيح ليس مسيحيًّا" عن هذا السر الذي دفع بونابرت لكي يصرح بأنه لو قدِّر له حكم العالم فسيحكمه بـ"شريعة الإسلام"، ولقد فعل بونابرت شيئًا من ذلك عندما نقل كثيرًا من أبواب الفقه الإسلامي في القانون الفرنسي، بيد أنه لم يستطع أن يفرض على قومه حرمة الربا والميسر في المعاملات المالية، وحرمة الزنا في نظام الأسرة، وحرمة الخمر والخنزير في الأطعمة والأشربة، مما جعل المجتمع الأوروبي لم يستفد الاستفادة الكاملة من فعل نابليون من الشرع الإسلامي، ولكن نابليون كان كغيره من الساسة "ميكافيلي" لا يعترف إلا بمصلحة قومه إن لم تكن مصلحته هو الشخصية فحسب، ولذلك لما فشلت حيلته في ارتداء ثوب "أبي الوليد" ارتدى ثوب "أبي جهل" فلم يفلح هذا ولا ذاك -بفضل الله-، وإليك ما ذكره العلامة "محمود شاكر" في رسالة: "الطريق إلى ثقافتنا" ملخصًا حال هذه الحملة:
"فلما دخل نابليون القاهرة، وأصدر أمره بتكوين "الديوان" من "تسعة من المشايخ الكبار"؛ استجاب ستة منهم لدعوة نابليون، ثم استجاب أيضًا ثلاثة آخرون لتمام التسعة، بعد رفض "السادات" و"عمر مكرم" و"محمد الأمير" أن يستجيبوا لدعوته، والذي دعا هؤلاء الأشخاص للاستجابة خوفهم على مصير القاهرة التي تركت بلا حامٍ يحميها، بعد أن خذلها حماتها من صناديد الحرب والقتال، وهم المماليك المصرية، فلم يرَ المشايخ سبيلاً إلى حقن دماء العامة رجالاً ونساءً إلا المهادنة، وإلا الصبر والسكينة حتى يكشف الله هذه الغمة بما شاء -سبحانه-.
فكانت استجابة هؤلاء المشايخ التسعة لتكوين "الديوان" منهم أول زلة، وكانت هذه الاستجابة أيضًا أول نجاح حازه "الاستشراق" في "تدجين" بعض المشايخ الكبار، ولكن لم تلبث الأمة خاصتها وعامتها أن رفضت الاستماع إلى هؤلاء المشايخ "المدجنين"، واستمعت إلى آخرين من المشايخ، وإلى صغار طلبة العلم بالأزهر الذين رفضوا نصيحة المشايخ التسعة الكبار، وقامت "ثورة القاهرة" وثورات الأقاليم بعد ثلاثة أشهر من "تدجين" التسعة الكبار، ومن دخول جزَّار القاهرة أرضًا لم تطأها من قبل قدم غازٍ صليبي محترق كالميكافلي "نابليون" الذي غرَّ هؤلاء التسعة، وخدعهم حُسن استقباله لهم، وتوقيرهم؛ خِداعًا لهم بمداهنته ومكره ودهائه.
وكان بعد ذلك ما كان من سفك الدماء ليلاً ونهارًا، جهرة وخفية، لم يستثن الجزار ولا خلفاؤه شيخـًا فانيًا ولا طفلاً رضيعًا، ولا امرأة عاجزة، حتى انكشح هو وجنوده من أرض مصر بعد ثلاث سنوات خزايا مقهورين.
المصدر: صوت السلف
عبد المنعم الشحات
أحد المشايخ البارزين بمسجد أولياء الرحمن بالاسكندرية للدعوة السلفية و منهجه منهج أهل السنة و الجماعه و سلف الأمة من الصحابة و التابعين لهم باحسان
- التصنيف: