إذا أردتم صلاح الدين فكونوا نور الدين زنكي
منذ 2009-08-14
إننا إذا قدمنا القدوة الصالحة لأبنائنا؛ نكون بحق قد حافظنا على فطرتهم الطاهرة وساهمنا في بنائهم إيمانيًّا وأخلاقيًّا وروحيًّا.
"قال عمرو بن عتبة يوصي مؤدب ولده:
"يا أبا عبد الصمد ليكن أول إصلاحك بنيَّ إصلاحك نفسك؛ فإن عيوبهم
معقودة بعيبك، فالحسن عندهم ما فعلت والقبيح ما تركت، علمهم كتاب الله
ولا تملهم منه فيكرهوه ولا تدعهم منه فيهجروه، روِّهم من الشعر أعفَّه
ومن الكلام أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإن ازدحام
الكلام في السمع مضلة للفهم، تهددهم بي وأدبهم دوني وكن كالطبيب الذي
لا يعجل بالدواء قبل معرفة الداء، وجنبهم محادثة النساء وروّهم سير
الحكماء، ولا تتكل على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك واستزدني
بزيادة منهم أزدك" (الدراري في ذكر
الذراري، كمال الدين عمرو بن أحمد بن هبة الله، ص 56).
إن الخطة تبدأ من أن نحدد لطفلنا رسالة في الحياة وهدفًا يعيش لأجله، إن البداية بأن نرسم لأطفالنا الطريق الذي يمشون عليه حتى يحققون الانتصارات للإسلام، ويُخلِّدون ذكره في العالمين كما فعل الأبطال الأوائل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولابد أيضًا أن يرى الطفل فينا نموذج القدوة في وضوح الهدف، والسعي نحو تحقيق الرسالة بجانب رسم الخطة له، ونصحه بسلوك الطريق.
ولكن قد يقول البعض كيف نفعل هذا مع الأطفال الصغار، وكيف نحملهم هذه المسئولية الكبيرة؟
فنقول لك" "إن إسناد بعض الأعمال للصغار يجعل هؤلاء الصغار يتعلمون من الكبار، ويجعل طاقاتهم الكبيرة تلتقط ألوان السلوك الذي ينتهجه الكبار" (اللمسة الإنسانية د.محمد محمد بدري، ص(250)).
وإليك هذا المثال لتعرف كيف يمكن أن يتحمل الأطفال المسئولية:
"أطفال في الحضانة في الصين، متواضعة المباني، في جزء منها حجرة هي مصنع صغير، ليست فيه أجهزة تحتاج لأموال طائلة، ولا اتصالات كهربائية معقدة، فقط مجموعة لمبات كهربائية صغيرة تصلح للبطاريات، وجهاز أقل من حجم اليد يشير: ما إذا كانت هذه اللمبة سليمة أم فاسدة، ثم صندوق ورقي فيه ثقوب وورق لاصق، يدخل الأطفال ويختبرون كل لمبة، فإذا كانت صالحة؛ وضعها الطفل في مكان مثقوب بالصندوق أعد له، وإذا كانت فاسدة ألقاها في سلة مجاورة، وهكذا تتكون الاتجاهات والقيم بالعمل لا بالقول" (اللمسة الإنسانية، د.محمد محمد بدري، ص(251)).
فإذا كانت هذه هي همة من رسالتهم "الصين"!
فكيف تكون همتكم أنتم أيها المربون، يا من مهمتهم ورسالتهم "الإسلام"؟
ماذا ستقدمون للإسلام، هل ستقدمون الطبيب الحاذق كأبي بكر الرازي، أم ستقدمون العالم الخبير بالفلك والهندسة كالحسن بن الهيثم، أم ستقدمون العالم الزاهد العابد كالعز بن عبد السلام، أم ستقدمون القادة كصلاح الدين وكمحمد الفاتح وكسيف الدين قطز؟
إذا كنتم تريدون أن تقدموا صلاح الدين؛ فكونوا نور الدين زنكي، وإذا كنتم تريدون أن تقدموا محمد الفاتح؛ فكونوا آق شمس الدين، وهكذا، فهذا الشبل من ذاك الأسد.
قدِّموا أنفسكم كقدوات لأبنائكم، وارسموا لهم طريقهم، ولا تقولوا صغارًا، فلا أصغر من الهمة الدنية.
ولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير قدوة في البذل، وخير قدوة أيضًا في تربية أصحابه عليه.
كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على البذل والتضحية للإسلام؟
إن هذا الجانب تحديدًا من جوانب التربية، لم أستطع أن أختصره أكثر من ذلك.
بل هو أغلب حديث السيرة، وأجمل ما جادت به الأقلام في الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم عندما كانوا أطفالًا.
كيف كان حبهم للإسلام؟
كيف كانت تضحيتهم من أجله؟
كيف كان حب الشهادة يروي قلوبهم ويغذيها؟
أتعرف لماذا عزيزي المربي؟
لأنهم شاهدوا خير قدوة في التضحية من أجل الإسلام؛ محمد صلى الله عليه وسلم:
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس من قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو يقول: (لم تراعوا، لم تراعوا)، قال: وجدناه بحرًا أو إنه لبحر، قال: وكان فرسًا يبطأ) [متفق عليه].
وعندما رأى الصحابة رضوان الله عليهم هذه القدوة المتمثلة في النبي صلى الله عليه وسلم؛ كانوا هم أيضًا خير القدوات في التضحية من أجل الإسلام وهم أطفال.
سعد بن أبي وقاص يضحي بأنفاس أمه:
كان سعد رضي الله عنه يقول: "ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام" [رواه البخاري].
عن أبي عثمان أن سعدًا قال: نزلت هذه الآية فيَّ {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: ٨].
قال: "كنت برًّا بأمي فلما أسلمت، قالت: يا سعد، ما هذا الدين الذي أحدثت؟ لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيُقَال: يا قاتل أمه، قلت: لا تفعلي يا أمه، إني لا أدع هذا لشيء. فمكثت يومًا لا تأكل ولا تشرب، وأصبحت وقد جهدت، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه، تعلمين والله، لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني، إن شئتِ فكلي أو لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت" (تفسير ابن كثير، (6/337)).
زيد بن ثابت يتعلم لغة يهود:
زيد بن ثابت كاتب الوحي وجامع القرآن، قتل أبوه قبل الهجرة يوم بعاث، فتربى زيد يتيمًا، وكان أحد الأذكياء، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أسلم زيد وهو ابن إحدى عشرة سنة.
وفي غزوة بدر أراد هذا الفتى الصغير أن ينال شرف الجهاد والشهادة في سبيل الله، فأقبل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "جُعلت فداك يا رسول الله، ائذن لي أن أكون معك وأجاهد أعداء الله تحت رايتك"، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة سرور وإعجاب، وطيَّب خاطره ورده لصغر سنه.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "كانت وقعة بُعاث وأنا ابن ست سنين، وكانت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن إحدى عشرة سنة، وأُتي بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: غلام من الخزرج. فقرأت ست عشرة سورة فلم أُجَزْ في بدر ولا أُحُد، وأُجِزْتُ في الخندق" (تاريخ دمشق، ابن عساكر، (19/313)).
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال زيد: ذُهب بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأُعجب بي، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأَعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «يا زيد، تعلَّم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي»، قال زيد: "فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب" [رواه أحمد في مسنده، وإسناده صحيح].
معاذ ومعوذ وعبد الله بن مسعود يقتلان فرعون هذه الأمة:
قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبِرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك.
فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه.
ثم انصرفا إلى رسول الله r فأخبراه فقال: «أيكما قتله؟»، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟»، قالا: لا، فنظر إلى السيفين، فقال: «كلاكما قتله، سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح»، وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح [متفق عليه].
وفي حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟»، فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبا جهل، قال: وهل فوق رجل قتله قومه [متفق عليه].
"فلابد لنا من وقفة مع هذا الجيل الفاضل الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا على أعلى مستوى من الدين والخلق والإخلاص والتفانيفي سبيل نصرة هذا الدين فاستحقوا بذلك رضا الله عز وجل ورضا رسوله صلى الله عليهوسلم، وفتح الله عز وجل بهم البلاد وقلوب العباد، وتكونت الدولةالإسلامية بالمدينة المنورة في فترة كأنها لحظات من عمر الدنيا بعد ثلاثة عشر عاماًمن ابتداء البعثة النبوية المباركة، ثم توالت الانتصارات وانتشر الضوء وعم الخير، فجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً في السنة الثامنة من الهجرة، وما فارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا حتى عم الإسلام جزيرة العرب ثم سطع النور بعد ذلك في المشارق والمغارب حتى دق المسلمون أبواب فينا في أوربا ووصلوا إلى حدود الصين فلا شك فأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس وكان الراجح في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، أنها عامة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن الصحابة رضي الله عنهم هم خير هذا الخير.
فالواجب على الدعاة والمربين أن يدرسوا المؤهلات التي أهلت الصحابة رضي الله عنهم لتبوأ أعلى المنازل والوصول إلى أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة، حتى يجعلوا خصائصهم ومؤهلاتهم نصب أعينهم وهم يقومون بواجب تربية أجيال الصحوة الإسلامية، فغاية المربين إنشاء جيل على نمط الصحابة رضي الله عنهم، في عقيدتهم وفهمهم للكتاب والسنة وطاعتهم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة، وبذلهم في الله عز وجل طلبا لمرضاته، ورغبة في إعزاز دينه ونشر رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم" (كيف ربى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه، كمال بن مختار إسماعيل).
إننا إذا قدمنا القدوة الصالحة لأبنائنا؛ نكون بحق قد حافظنا على فطرتهم الطاهرة وساهمنا في بنائهم إيمانيًّا وأخلاقيًّا وروحيًّا.
فإذا كنا نريد أن نصنع محمد الفاتح من جديد؛ فلابد أن نكون نحن الشيخ "آق شمس الدين"، الذي علم محمد الفاتح القرآن، والذي كان يأخذ بيده ويشير إلى القسطنطينية، فيذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتفتحن القسطنطينية؛ فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش» [رواه أحمد في مسنده ، وإسناده صحيح].
"الأطفال هم زينة الحياة الدنيا، يولدون كصفحةٍ بيضاء ، وعلى الآباء والمربين مسؤولية ملء هذه الصفحة بالعقيدة الصحيحة، والأفكار الإسلامية، التي تؤهلهم ليكونوا شبابا ذوي إنتاجية فعّالة في المجتمع، وسبباً من أسباب رُقيّه وتقدمه ، فهم نواة المجتمع الذي سوف يأتي بعدنا -إن شاء الله- ليكمل مسيرة الاستخلاف في الأرض" (تربية الطفل النفسية في الإسلام، سيما راتب عدنان أبو رموز).
واعلم ـ عزيزي المربي ـ أن بناء طفلك إيمانيًّا ليس من نافلة الأعمال التي يمكنك أن تعطيها فضلة وقتك، ولكنه عمل قد يكون من أثمر وأنفع الأعمال التي قمت بها في حياتك، ليبقى كتاب حسناتك عامرًا حتى بعد موتك بصلاح أبنائك وقربهم من الله تعالى، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا مات الإنسان؛ انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [رواه مسلم].
_________________________
أهم المراجع:
1. اللمسة الإنسانية، د.محمد محمد بدري.
2. كيف ربى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه، كمال بن مختار إسماعيل.
3. تربية الطفل النفسية في الإسلام، سيما راتب عدنان أبو رموز.
4. الدراري في ذكر الذراري، الإمام الشيخ كمال الدين عمرو بن أحمد بن هبة الله بن العديم.
مفكرة الإسلام
عمر إبراهيم
إن الخطة تبدأ من أن نحدد لطفلنا رسالة في الحياة وهدفًا يعيش لأجله، إن البداية بأن نرسم لأطفالنا الطريق الذي يمشون عليه حتى يحققون الانتصارات للإسلام، ويُخلِّدون ذكره في العالمين كما فعل الأبطال الأوائل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولابد أيضًا أن يرى الطفل فينا نموذج القدوة في وضوح الهدف، والسعي نحو تحقيق الرسالة بجانب رسم الخطة له، ونصحه بسلوك الطريق.
ولكن قد يقول البعض كيف نفعل هذا مع الأطفال الصغار، وكيف نحملهم هذه المسئولية الكبيرة؟
فنقول لك" "إن إسناد بعض الأعمال للصغار يجعل هؤلاء الصغار يتعلمون من الكبار، ويجعل طاقاتهم الكبيرة تلتقط ألوان السلوك الذي ينتهجه الكبار" (اللمسة الإنسانية د.محمد محمد بدري، ص(250)).
وإليك هذا المثال لتعرف كيف يمكن أن يتحمل الأطفال المسئولية:
"أطفال في الحضانة في الصين، متواضعة المباني، في جزء منها حجرة هي مصنع صغير، ليست فيه أجهزة تحتاج لأموال طائلة، ولا اتصالات كهربائية معقدة، فقط مجموعة لمبات كهربائية صغيرة تصلح للبطاريات، وجهاز أقل من حجم اليد يشير: ما إذا كانت هذه اللمبة سليمة أم فاسدة، ثم صندوق ورقي فيه ثقوب وورق لاصق، يدخل الأطفال ويختبرون كل لمبة، فإذا كانت صالحة؛ وضعها الطفل في مكان مثقوب بالصندوق أعد له، وإذا كانت فاسدة ألقاها في سلة مجاورة، وهكذا تتكون الاتجاهات والقيم بالعمل لا بالقول" (اللمسة الإنسانية، د.محمد محمد بدري، ص(251)).
فإذا كانت هذه هي همة من رسالتهم "الصين"!
فكيف تكون همتكم أنتم أيها المربون، يا من مهمتهم ورسالتهم "الإسلام"؟
ماذا ستقدمون للإسلام، هل ستقدمون الطبيب الحاذق كأبي بكر الرازي، أم ستقدمون العالم الخبير بالفلك والهندسة كالحسن بن الهيثم، أم ستقدمون العالم الزاهد العابد كالعز بن عبد السلام، أم ستقدمون القادة كصلاح الدين وكمحمد الفاتح وكسيف الدين قطز؟
إذا كنتم تريدون أن تقدموا صلاح الدين؛ فكونوا نور الدين زنكي، وإذا كنتم تريدون أن تقدموا محمد الفاتح؛ فكونوا آق شمس الدين، وهكذا، فهذا الشبل من ذاك الأسد.
قدِّموا أنفسكم كقدوات لأبنائكم، وارسموا لهم طريقهم، ولا تقولوا صغارًا، فلا أصغر من الهمة الدنية.
ولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير قدوة في البذل، وخير قدوة أيضًا في تربية أصحابه عليه.
كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على البذل والتضحية للإسلام؟
إن هذا الجانب تحديدًا من جوانب التربية، لم أستطع أن أختصره أكثر من ذلك.
بل هو أغلب حديث السيرة، وأجمل ما جادت به الأقلام في الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم عندما كانوا أطفالًا.
كيف كان حبهم للإسلام؟
كيف كانت تضحيتهم من أجله؟
كيف كان حب الشهادة يروي قلوبهم ويغذيها؟
أتعرف لماذا عزيزي المربي؟
لأنهم شاهدوا خير قدوة في التضحية من أجل الإسلام؛ محمد صلى الله عليه وسلم:
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس من قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو يقول: (لم تراعوا، لم تراعوا)، قال: وجدناه بحرًا أو إنه لبحر، قال: وكان فرسًا يبطأ) [متفق عليه].
وعندما رأى الصحابة رضوان الله عليهم هذه القدوة المتمثلة في النبي صلى الله عليه وسلم؛ كانوا هم أيضًا خير القدوات في التضحية من أجل الإسلام وهم أطفال.
سعد بن أبي وقاص يضحي بأنفاس أمه:
كان سعد رضي الله عنه يقول: "ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام" [رواه البخاري].
عن أبي عثمان أن سعدًا قال: نزلت هذه الآية فيَّ {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: ٨].
قال: "كنت برًّا بأمي فلما أسلمت، قالت: يا سعد، ما هذا الدين الذي أحدثت؟ لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيُقَال: يا قاتل أمه، قلت: لا تفعلي يا أمه، إني لا أدع هذا لشيء. فمكثت يومًا لا تأكل ولا تشرب، وأصبحت وقد جهدت، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه، تعلمين والله، لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني، إن شئتِ فكلي أو لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت" (تفسير ابن كثير، (6/337)).
زيد بن ثابت يتعلم لغة يهود:
زيد بن ثابت كاتب الوحي وجامع القرآن، قتل أبوه قبل الهجرة يوم بعاث، فتربى زيد يتيمًا، وكان أحد الأذكياء، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أسلم زيد وهو ابن إحدى عشرة سنة.
وفي غزوة بدر أراد هذا الفتى الصغير أن ينال شرف الجهاد والشهادة في سبيل الله، فأقبل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "جُعلت فداك يا رسول الله، ائذن لي أن أكون معك وأجاهد أعداء الله تحت رايتك"، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة سرور وإعجاب، وطيَّب خاطره ورده لصغر سنه.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "كانت وقعة بُعاث وأنا ابن ست سنين، وكانت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن إحدى عشرة سنة، وأُتي بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: غلام من الخزرج. فقرأت ست عشرة سورة فلم أُجَزْ في بدر ولا أُحُد، وأُجِزْتُ في الخندق" (تاريخ دمشق، ابن عساكر، (19/313)).
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال زيد: ذُهب بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأُعجب بي، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأَعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «يا زيد، تعلَّم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي»، قال زيد: "فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب" [رواه أحمد في مسنده، وإسناده صحيح].
معاذ ومعوذ وعبد الله بن مسعود يقتلان فرعون هذه الأمة:
قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبِرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك.
فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه.
ثم انصرفا إلى رسول الله r فأخبراه فقال: «أيكما قتله؟»، فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟»، قالا: لا، فنظر إلى السيفين، فقال: «كلاكما قتله، سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح»، وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح [متفق عليه].
وفي حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟»، فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبا جهل، قال: وهل فوق رجل قتله قومه [متفق عليه].
"فلابد لنا من وقفة مع هذا الجيل الفاضل الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا على أعلى مستوى من الدين والخلق والإخلاص والتفانيفي سبيل نصرة هذا الدين فاستحقوا بذلك رضا الله عز وجل ورضا رسوله صلى الله عليهوسلم، وفتح الله عز وجل بهم البلاد وقلوب العباد، وتكونت الدولةالإسلامية بالمدينة المنورة في فترة كأنها لحظات من عمر الدنيا بعد ثلاثة عشر عاماًمن ابتداء البعثة النبوية المباركة، ثم توالت الانتصارات وانتشر الضوء وعم الخير، فجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً في السنة الثامنة من الهجرة، وما فارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا حتى عم الإسلام جزيرة العرب ثم سطع النور بعد ذلك في المشارق والمغارب حتى دق المسلمون أبواب فينا في أوربا ووصلوا إلى حدود الصين فلا شك فأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس وكان الراجح في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، أنها عامة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن الصحابة رضي الله عنهم هم خير هذا الخير.
فالواجب على الدعاة والمربين أن يدرسوا المؤهلات التي أهلت الصحابة رضي الله عنهم لتبوأ أعلى المنازل والوصول إلى أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة، حتى يجعلوا خصائصهم ومؤهلاتهم نصب أعينهم وهم يقومون بواجب تربية أجيال الصحوة الإسلامية، فغاية المربين إنشاء جيل على نمط الصحابة رضي الله عنهم، في عقيدتهم وفهمهم للكتاب والسنة وطاعتهم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة، وبذلهم في الله عز وجل طلبا لمرضاته، ورغبة في إعزاز دينه ونشر رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم" (كيف ربى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه، كمال بن مختار إسماعيل).
إننا إذا قدمنا القدوة الصالحة لأبنائنا؛ نكون بحق قد حافظنا على فطرتهم الطاهرة وساهمنا في بنائهم إيمانيًّا وأخلاقيًّا وروحيًّا.
فإذا كنا نريد أن نصنع محمد الفاتح من جديد؛ فلابد أن نكون نحن الشيخ "آق شمس الدين"، الذي علم محمد الفاتح القرآن، والذي كان يأخذ بيده ويشير إلى القسطنطينية، فيذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتفتحن القسطنطينية؛ فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش» [رواه أحمد في مسنده ، وإسناده صحيح].
"الأطفال هم زينة الحياة الدنيا، يولدون كصفحةٍ بيضاء ، وعلى الآباء والمربين مسؤولية ملء هذه الصفحة بالعقيدة الصحيحة، والأفكار الإسلامية، التي تؤهلهم ليكونوا شبابا ذوي إنتاجية فعّالة في المجتمع، وسبباً من أسباب رُقيّه وتقدمه ، فهم نواة المجتمع الذي سوف يأتي بعدنا -إن شاء الله- ليكمل مسيرة الاستخلاف في الأرض" (تربية الطفل النفسية في الإسلام، سيما راتب عدنان أبو رموز).
واعلم ـ عزيزي المربي ـ أن بناء طفلك إيمانيًّا ليس من نافلة الأعمال التي يمكنك أن تعطيها فضلة وقتك، ولكنه عمل قد يكون من أثمر وأنفع الأعمال التي قمت بها في حياتك، ليبقى كتاب حسناتك عامرًا حتى بعد موتك بصلاح أبنائك وقربهم من الله تعالى، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا مات الإنسان؛ انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [رواه مسلم].
_________________________
أهم المراجع:
1. اللمسة الإنسانية، د.محمد محمد بدري.
2. كيف ربى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه، كمال بن مختار إسماعيل.
3. تربية الطفل النفسية في الإسلام، سيما راتب عدنان أبو رموز.
4. الدراري في ذكر الذراري، الإمام الشيخ كمال الدين عمرو بن أحمد بن هبة الله بن العديم.
مفكرة الإسلام
عمر إبراهيم
المصدر: مفكرة الإسلام
- التصنيف: