يا للعجب: كلمة جرت على لسان العرب
الأسف ليس كلمة اعتذار باللسان، بل يلزمه قناعة بالجنان. فكيف تكسر لعبة متعمدًا، وتسرع للتأسف باللسان
باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
أبدأ مستعينةً بالله سائلته التوفيق والسداد
من منا لم يُخطِئ يومًا من الدهر، ثمّ يُتبِع ذلك بأسفٍ يقدمه بين يدي اعتذاره عن هذا الأمر؟ مـــــــن ؟
فلا أحد يمكن أن يُعصم من هذا، ولو مرة واحدة في عمره، لماذا؟ لأنه ما من معصوم إلا مَن عَصَمَهُ اللهُ تعالى.
هذه المعلومة كانت عندي راسخةً، كذا كان عندي اعتقاد أن المُعْتَذِر المُتَأَسِّف على ما بَدَرَ مِنْهُ آسِفٌ على الحقيقة، معتذر عن قناعة شديدة، فكل من يقول كلمةً يعنيها، بلسانه عن قلبه يرويها، حتى رزقني الله بالأولاد، وهنا تَبَدَّل عندي الاعتقاد فيما ظننته قبلُ أنهُ السداد؛ حينما أخطأ صغيري يومًا -ولم يكن يكفُّ عن الخطأ على مدار الساعة- فقلتُ لَهُ معاتبةً: لِمَ فعلتَ ذلك؟! ففاجأني بقوله: إنني السبب، فما كان مني إلا أني تعجبت من قوله بشدة! لا لا ليس من قوله، بل من شديد جُرْأَتِهِ على إلقاء المسئولية عليّ؛ دفعه لذلك حب التنصل من تحمل تبعة خطئه، وفزعت لهذا أشد الفزع، فالخطأ -وبخاصة من الصغار- شيء ليس بمستغرب ، أما إلقاء التبعة على الآخرين فهذا من البهتان والظلم والافتراء!
وكان من أمرنا هذا شأن وأي شأن، سبق مِنَّا التفصيل في موضوعٍ تحتَ عُنْوان: (ابني وأنا... !!!). وخلاصة ما حدث: أني قصصتُ عليه قصة بدء الخلق؛ لأعلمه ألا يُلقِي تبعة خَطَئِهِ على غيره، وأن يعترف بالحق وبذنبه خشية أن يشابه إبليس -شر الخلق- و في المقابل حضضته على أن يتشبه بآدم -عليه السلام أبي البشر وأول الأنبياء والأنام- في جميلِ اعترافِهِ بذنبه، وطلبه السماح من ربِّه. والحق أني نلت المراد بفضلٍ عليّ من ربّ العباد، فصار ولدي إلى التأسف والاعتذارإذا أخطأ سريع القال.
كنت أظنه يرجو بأسفه الفلاح لسرعته في طلب السماح. وحينها بدأت النازلة والرزأة المعضلة، ودليل دعواي في تفصيل قصتي و شكواي، فكان صغيري كلما أخطأ يُسارِع بالاعتذار متأسفًا في الحال، فصار لقرنائه مضرب الأمثال، وداخلني لذلك السرور وكثير من الحبور، فنال بذلك كثيرًا من الدعاء والعطف والثناء. ومَرَّت الأيام وكان على الدوام يقدم الاعتذار عن سيء الفِعَال. ومع كثرة التكرار لاحظت اعوجاج الحال، يتأسف بالمقال مستريح البال، وانتابني القلق من فعله والفرق -فالله المستعان- خرجت من مصيبة لفتنة عصيبة :-
كان يخطئ فيقول: (يا أمي سامحيني -من فضلك- لا توبخيني) وكأنه مسرور من قبيح فعله غير مخذول، فكأنما اكتفى بطلب السماح وتقديم الاعتذار مع استماتةٍ منهُ على دوام الحال!. يقول بقاله ما يكذبه حاله، خِلْتُ ألفاظَهُ من المعنى المراد، فأصبح كلٌ من قاله وفعله في شتات. أصبحت من أمره في حيرةٍ أفكر ماذا أصنع و ليس باليد من حيلة فاللهم اجعل لي بصيرة.
فهداني الله إلى موضع الخلل ، فشرعت في اصلاحه بالعمل:
- قلت له يا بني: يلزم للاعتذار تغَيّر في الحال، فكيف تتأسف ثم تقيم على فعل القبيح ذاته ولا تتعفف ؟! الأسف ليس كلمة اعتذار باللسان، بل يلزمه قناعة بالجنان. فكيف تكسر لعبة متعمدًا، وتسرع للتأسف باللسان، وأنت سعيد القلب والجنان!. فالأسف هو الندم وشعورٌ في القلب بالألم، و تَمنِّي لو أن ما صدر من قبيح فعلك كان كالعدم.
والسعي إلى الاصلاح بكل سبيل ما أمكن.
هذا ما كان من شأن الصغير، فماذا يا تُرى حال الكبير؟ كم من الكلام نقول بالحروف مبناه غير قاصدين -حقيقةً- معناه؟!
وألفتني أقول: يا للعجب ((كلمة جرت على لسان العرب))
كلمة قرأتها في شروح أهل العلم ما نسيتها، حضرتني في هذا المقام كأنسب تعبير عن مقتضى الكلام:
(كلمة جرت على لسان العرب) فأخذت أجتر لها أمثلة من عميق ذاكرتي و المخيلة:
مثل: تربت يداك
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
«تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (صحيح البخاري: الفتح رقم 5090).
ومثل: ثكلتك أمك يا …
لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (صليت خلف شيخ في مكة، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) (صحيح البخاري : الفتح رقم 788).
ومثل: حلقى عقرى
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (حاضت صفية ليلة النفر، فقالت: "ما أراني حابستكم"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عقرى حلقى، أطافت يوم النحر». قيل: نعم، قال: «فانفري» (صحيح البخاري: الفتح رقم 1771)
ومثل: أفلح وأبيه إن صدق
لحديث طلحة بن عبيدالله التيمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أفلح، وأبيه، إن صدق أو دخل الجنة، وأبيه، إن صدق» (صحيح مسلم :شرح النووي رقم11)
حضرتني هذه الأمثلة، ولكن مهلاً كم بينها وبين أفعالنا من فارق كما بين المغارب والمشارق؟!! ومع ذلك البون الشاسع ألفتني استعيرها وفي كثير من المواقف أقولها: (كلمة جرت على لسان العرب) فصارت كلمتي المفضلة لها في حياتي الكثير والكثير من الأمثلة، أسلي بها نفسي عند المصاب، إذا خالف مقتضى الحال لسان القال من الأهل والأحباب والأصحاب فضلاً عن الأغراب. وتواترت على ذهني ذكريات، كثير من الكلمات قيلت مبانيها لم تُقصد معانيها؛ وحضرني قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون . كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [سورة الصف: 2-3] فكلما وعد أحدهم وأخلف أعقب خلفه هذا -لِزامًا- بكثيرٍ من التأسف، ولكنه لا يلبث إلا قليلًا ويعاود ذات الفعل مكررًا ذات التأسف والتعليل؛ فأسلي نفسي قائلة في عجب: لا ضير وعده كلمة جرت على لسان العرب !).
وكلما طلبنا من يقوم لنا بعمل، يؤكد علينا بعزمةٍ على أنه آتٍ -بلا شك- في البكور إلا أنه يأتي -كعادته- عند الزوال هذا إن لم يعتذر -غالبًا- عن الحضور. فأقول لنفسي مع شديد العجب: إن موعده (كلمة جرت على لسان العرب !).
وكلما أحبك أحدهم في الله، أخذ يقسم لك: إن قربك ورضاك عنه غاية منتهاه، وكلما لقيك فداك بالنفس والعين، هذا بلا شك بلسان قالِهِ، والله أعلم بحالِ قلبه، وعند أول اختبار تجد الحب المزعوم قد طار، انقلب حاله إلى عداوة وقسا القلب وخلا من الحب والنداوة، وبعد الود والأشعار يكون أول من يُصْلِيكَ -إن استطاع- بالنار، فكيف تحوَّل الحب والكلف إلى دعاء عليك بالهلاك والتلف ؟!
وكأنما عاين شاعرنا الحال فوصفه بدقيق المقال:
وإخوان حسبتهم دروعا *** فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهام صائبات *** فكانوها ولكن في فؤادي
وهنا تجري الدموع ، ولا ينتهي من النفس العجب حتى الحب في الله (كلمة جرت على لسان العرب).
ومع طول الأمد ما عاد للعجب على نفسي سبيل، قلما أسمع لصغير أو كبير إلا حدثت نفسي: تُرى هل يعني ما يقول؟ ويعي أنه عن كلامه -أمام ربه- مسئول؟ أم تُراني سأقول: (( كلمة جرت على لسان العرب))؟.
اللهم إنا نسألك العافية.
-----------------------------------------
منقول الحلقة السابعة من تأملات أم .
- التصنيف:
- المصدر: