وقفة مع هلال أول الشهر

منذ 2009-08-20

فانظر ـ يا أيها الإنسان ـ في حال عمرك، وتحسس جسدك، وانظر في أي المراحل أنت تسير: هل أنت في الهلال ما زلت؟ أم أنك قاب قوسين أو أدنى من العرجون القديم؟


بسم الله الرحمن الرحيم


هلاَّ وقف أحدنا يوماً بعد صلاة المغرب يتأمل هلال أول الشهر بجماله البراق ونحفه المتواضع: بياض باهت وسط ذلك الظلام الدامس تجاوره نجومٌ متواضعة ترصع السماء فتعطيها روعة وجمالاً..كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الهلال قال: «الله أكبر، اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله» أخرجه الدارمي، وخرج الترمذي أخصر منه..


في هذا الحديث يطلب خير البرية - صلى الله عليه وسلم - من ربه أن يدخل علينا شهرنا ونحن ننعم بالأمن من الآفات والمصائب، وأن نكون ثابتي الإيمان، وأن يكون حالنا في سلامة من آفات الدنيا والدين، بل ضمَّن - صلى الله عليه وسلم - الدعاء سؤال ربه التوفيق والهداية لكل ما يحبه ربنا ويرضاه من الأقوال والأعمال بل والمقاصد، ثم ختم دعاءه - صلى الله عليه وسلم - بحقيقة واضحة يجب أن لا تغيب عن الأذهان أبداً، هذه الحقيقة هي أننا كلنا عبيدٌ مربوبون لله ـ - جل وعلا - ـ: الإنسان منا والحيوان بل والجماد، وأرجو ـ يا أخي الكريم ـ أن لا تنسى وأنت تُردد هذا الدعاء وتنظر إلى هلال أول الشهر إلى أن تتأمل مرة أخرى في هذا الدعاء لتلمح شيئاً من هديه وخُلُقه - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أنه جعل الدعاء عامّاً له ولأمته - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم ينسها، وصدق ربنا حين قال عنه: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].


أخي! وأنت تنظر إلى هلال أول الشهر كأني بك وقد استدار بك الزمان والمكان، وقد أخذتك الذاكرة إلى قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؛ لتلقي نظرة على ذلك البيت الطيني الذي كان يمر عليه الهلال والهلال ولا توقد فيه نار للطهي، بل كان التمر والماء هما طعامهم كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. يقول الحسن البصري: «كنت أدخل بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سُقُفها بيدي».
«إنه بيت متواضع وحُجَر صغيرة... لكنها عامرة بالإيمان والطاعة، وبالوحي والرسالة» (يوم في بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عبد الملك القاسم، 13.).


بيت من الطين بالقرآن تعمره

***

تباً لقصر منيف بات في نغم


 
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلف طعاماً أبداً، ولا يعيب طعاماً: إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه. ومات ـ - عليه الصلاة والسلام - ـ «وما شبع آل محمد ـ منذ قدم المدينة ـ من طعام بُر ثلاث ليال تباعاً» كما في الصحيحين. وأرع سمعك لما رواه الترمذي عن ابن عباس ـ - رضي الله عنهما - ـ وهو يقول: «وكان أكثر خبزهم خبز الشعير».

طعامك التمر والخبز الشعير وما

***

عيناك تعدو إلى اللذات والنعم

تبيت والجوع يلقي فيك بغيته

***

إن بات غيرك عبد الشحم والتخم




وهذا الهلال الماثل أمام عينيك ما هو إلا مرحلة تنقضي، ثم يتبعها مرحلة أخرى.. هكذا دواليك حتى يكون عرجوناً كهلال أول الشهر {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39].


وهكذا أنت أيها الإنسان: طفل رضيع، ثم صبي، فغلام، فشاب، فرجل، فكهل، ثم شـيخ، حالك كحال ذلك الطفـل الرضيـع لا تعلم شيئاً ولا تحرك شيئاً {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5].


فانظر ـ يا أيها الإنسان ـ في حال عمرك، وتحسس جسدك، وانظر في أي المراحل أنت تسير: هل أنت في الهلال ما زلت؟ أم أنك قاب قوسين أو أدنى من العرجون القديم؟ وما هي إلا أيام أو لحظات ثم تفارق هذه الحياة.


واحذر ثم احذر يا أخي! أن يباغتك الموت فجأة وأنت لا زلت في ريعان الشباب لم تأخذ أُهبتك، ولم تستعد لهذا الطارق الذي لا يُرد أبداً؛ فالحذر ثم الحذر! فإن الخسوف لا يقع إلا للبدر.

المصدر: الشيخ/ زياد بن أحمد خمبشي - موقع مداد