طريق الإسلام

بدعية إمارة التغلب

منذ 2015-12-23

فقهاء الشريعة في مواجهة الاستبداد (2)
-------------------------------------------------
المقرر أن البدعة طريقة مخترعة في الدين لا تستند إلى دليل شرعي، والبدع إذا أحييت تموت أمامها السنن. فمن عمل ببدعة ترك في مقابلها سنة.
فحين تركت سنة الخلفاء الراشدين في الولاية القائمة على الشورى وتولي شئون الأمة برضا منها، قامت بدعة التغلب، والاستيلاء على السلطة بالقهر عنوة بغير رضا.
يقول ابن تيمية : الواجب خلافة النبوة لقوله ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها؛ وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فكل بدعة ضلالة»  بعد قوله: «من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا»  فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء وأمر بالاستمساك بها وتحذير من المحدثات المخالفة لها. وهذا الأمر منه والنهي: دليل بين في الوجوب. مجموع الفتاوى (35/ 22).
ويقول أيضا: ففي هذا الحديث أمر المسلمين باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى عنها ما خالف ذلك.
قال ابن رجب : في أمره صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، وسنة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة، كاتباع سنته، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور.أهـ
إذن فأفعال غيرهم من ولاة الأمور ليست بسنة، ولا محل لها في الاحتجاج، فيسقط قول القائل بجواز التغلب احتجاجا بتغلب عبد الملك بن مروان على ابن الزبير .
قال الإمام مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، وقوة على دين الله، وليس لأحد تبديلها، ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا.
إذن فكل ما خالف طريقة الخلفاء الراشدين هو اتباع لغير سبيل المؤمنين، وأمر محدث ضلالة، ومنه إهدار أمر البيعة القائم على الرضا، والتحول لرئاسة التغلب على الأمة وقهرها. إذ أن خلافة الراشدين جاءت بالمشاورة والرضا، ولم يكن فيها تسلط أو غلبة.
فخلافة أبو بكر تمت بعد تداول ومشاورة، كما ثبت في حديث السقيفة وغيره، وللحاكم وأحمد في فضائل الصحابة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (قد رأى الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه). وهو أمر أشهر من أن يستدل له.
وكذا جاءت إمامة عمر رضي الله عنه، ولم يأت هذا بدلالة الفعل وحسب. لكنه ثابت من أقوالهم. 
أخرج البخاري وغيره عن عبد الرحمن بن عوف أن: رجلا قال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، ... فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.
وفي رواية عبد الرزاق : فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين أمرهم.
قال الحافظ في الفتح : والمراد أنه يثبون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة، وقد وقع ذلك بعد علي وفق ما حذره عمر رضي الله عنه.أهـ
فوصف عمر المتغلب بالغاصب للأمة شأنها، وهذا يقتضى عدم شرعيته، إذ (ليس لعرق ظالم حق).
وقال أيضا: (من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتل). وفي رواية : (من دعي إلى إمارة من غير مشورة فلا يحل له أن يقبل).
قال الحافظ: والذي يظهر من سياق القصة أن إنكار عمر إنما هو على من أراد مبايعة شخص على غير مشورة من المسلمين.
وللنسائي عن عبد الرحمن بن عوف، قال: خطبنا عمر فقال:" إنه لا خلافة إلا عن مشورة، وأيما رجل بايع رجلا عن غير مشورة، لا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا " قال شعبة: قلت لسعد: ما تغرة أن يقتلا؟ قال: عقوبتهما أن لا يؤمر واحد منهما .. "
ولذلك لم يستخلف أبو بكر عمر إلا بعد مشورة، فعن أنس قال: طفنا بغرفة فيها أبو بكر حين أصابه وجعه الذي قبض فيه، فاطلع علينا اطلاعة فقال: " أليس ترضون بما أصنع؟ قلنا: بلى يا خليفة رسول الله ﷺ . و علل لهم اختياره لعمر بعدم وجود القرابة. ليؤكد انتفاء المصلحة. في جملة أسباب أخرى ذكرها مما يؤكد أن الاستخلاف تم بعد المشاورة.
قال ابن تيمية أن : عمر لما عهد إليه أبو بكر، إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما.
وكذا كان الأمر في ولاية عثمان ؛ قال ابن كثير: ثم نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، ومجتمعين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان.
وهكذا كان الأمر أيضا في ولاية على ، فروى الخلال، وابن جرير عن محمد بن الحنفية أنهم حين أرادوا بيعته قال: (لا ينبغي بيعتي أن تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا من المسلمين ... فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس).وإسناده صحيح.
وفي رواية قال: (أخرج للمسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني) فخرج للمسجد فبايعه الناس.
ووري أنه لما صعد المنبر قال : (يا أيها الناس – عن ملأ وإذن – إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد. فقالوا : نحن على ما فارقناك بالأمس). وإسناده ضعيف.
وروى الطبري (4/433) عن الشعبي، قال: لما قتل عثمان أتى الناس عليا وهو في سوق المدينة، وقالوا له: ابسط يدك نبايعك، قال: لا تعجلوا فإن عمر كان رجلا مباركا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون.
ويأتي ذلك الموقف من الخلفاء الأربعة وتمسكهم بالشورى وحرصهم على تولي الأمر عبر رضا الناس واختيارهم الحر، في ظل ظروف بالغة الحرج تمر بها الدولة، فولاية أبي بكر جاءت بعد وفاة النبي ﷺ وبداية استفحال أمر المرتدين، وتهديدات خارجية للدولة من قبل الروم، وتأتي خلافة عثمان بعد مقتل الخليفة عمر ، وكذا خلافة على تأتي على إثر انتشار حركة التمرد حتى تمكنت من قتل رأس الدولة، وعلى الرغم من حساسية الظرف، لم يلجئوا إلى حدث استثنائي، وإنما صاروا وفق هدي النبوة.
فإن سيد ولد آدم ﷺ، ما أقام دولته بالمدينة وولي أمر المؤمنين بها إلا عبر الرضا منهم فلم يدخلها ﷺ غازيا فاتحا، وإنما دخلها وأقام الدولة بها بعد أن فتح قلوب أهلها بالإيمان، فبايعوه على السمع والطاعة في المنشط والمكره.
فتلك هي السنة المجمع عليها، فمن خالف ذلك وقال بجواز تولي السلطة شرعا عبر القهر والتغلب، فقد أتي بأمر لم يكن عليه النبي ﷺ وأصحابه.
قال ﷺ: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» ، [ أخرجه البخاري ] في باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، فإن كانت الأمة سكنت في فترة ما أمام سلطان المتغلب ضرورة، فهذا لا يعنى تصحيح ولايته شرعا. وإن قامت واقعا فتم التعامل معه وفق مقتضيات الضرورة.
يقول ابن تيمية: والملك: هل هو جائز في الأصل والخلافة مستحبة؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة بدونه؟ فنحتج بأنه ليس بجائز في الأصل بل الواجب خلافة النبوة. مجموع الفتاوى (35/ 22).
ويضيف : وأيضا فكون النبي صلى الله عليه وسلم استاء للملك بعد خلافة النبوة دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين الواجب.
وهذا واضح من قوله ﷺ: «لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة فأولهن نقضا الحكم» .
وقال أحمد : كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة نبوة. 
ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة وكذلك بيعة علي كانت بالمدينة ثم خرج منها وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة بيعة.
قال الخطابي : (في قوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولاً، وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى).أهـ فما بالك إن كان هذا عمل الخلفاء الراشدين كلهم وسنة النبي ﷺ، وعمل أهل المدينة في الصدر الأول حيث اجتماع أصحاب النبي ﷺ.
وإضافة لم تقدم فإن خلافة الصحابة غير الأربعة لم تعتبر إلا بعد تحقق رضا الأمة يقول صاحب العقيدة الطحاوية : وأول ملوك المسلمين معاوية رضي الله عنه، وهو خير ملوك المسلمين، لكنه إنما صار إماما حقا لما فوض إليه الحسن بن علي رضي الله عنهم الخلافة.أهـ
وبهذا أصبحت خلافة معاوية رضي الله عنه على وفق هدي الراشدين، وكذا كل من وصل إلى الملك عبر طريقتهم فهو خليفة، ومن وصل عبر الوراثة كان ملكا عضوضا، ومن وصل عبر الغلبة والقهر كان ملكا جبريا.
وعليه فما جرى بعد بيعة الخلفاء الراشدين لا يصح اعتباره شرعا، أو تأصيل أحكام عليه. وما يجرى وفق هديهم هو السنة، وما خلاف ذلك من تغلب وغيره هو أمر محدث بدعي. تعاملت الأمة معه كسلطة أمر واقع، لا أنها سلطة شرعية وعلى هذا جاءت أقول كثير من الفقهاء، وهو ما سنعرض له لا حقا إن شاء الله تعالي.

حاتم أبوزيد