لا تغشوا الفقراء والمحتاجين!!

منذ 2015-12-26

وأسألُ، واسألْ معي،:كم تنفق القرية، أو الحي، أو المدينة الصغيرة (ذات المئة ألف) في أطعمةٍ وأشربةٍ إن لم تضر فلا تنفع، كالشيبسي والببسي، وما أشبه؟!!

بعد أن كثرت الأمراض في الأبدان، واثَّاقلت إلى الأرض من المرض ونفقات المرض، تنادى الصالحون المصلحون والمغرضون الباحثون عن ذواتهم إلى خدمة الناس.

وكل يدَّعي الصلاح والإصلاح... كلٌ عند نفسه صالح مصلح. ولكن: لا تكفي النظرة الداخلية لتصويب الفعل، فمن قبل ادعى قوم الإيمان والصلاح وكُذِّبوا، قال الله تعالى ذكره:{ {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ} }(البقرة:8)، { {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} } (البقرة : 11 ، 12)، { {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} } (النساء : 62)، ؛ وادعى فرعونُ الصلاح واتهم موسى -عليه السلام- بالفساد: { {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} } (غافر : 26)!!.
لذا لا يكفي حسن النية لتصويب الفعل وتمريره!!

أين مصلحة الناس؟

في أن نعالج أصحاب الأمراض المزمنة؟
 في أن نقف بجوار المحتاجين؟


إن هذا لخير عظيم، وباب مودة ورحمة بين الناس، ونشر للمروءة والتراحم بين أفراد المجتمع. ولكن علينا أن نفكر، وخاصة أن تجربة العمل الخيري تتقهقر أو تتعثر، أو: كلما شبت واشتدت جاءها من يكسر رجليها وساقيها ويأخذها حيث لا تشاء!!

ثمة ثلاثة ملاحظات: إحداهن تتعلق بالفاعلين، والثانية بالفعل نفسه، والثالثة تتعلق بالسياق؛ فالعاقل ينظر حواليه ليعلم أين يقف؟، هل في أرضه أم في أرض غيره؟، وهل  يحصل على ما يحصده، أم يجمع في سلة غيره؟!

جزء من الفاعلين يبحثون عن ذواتهم، فالمشاريع الخدمية في الغالب وسيلة للترقي السياسي في المجتمع، سواءً أكان القائم عليها فردًا أم جهة "خيرية". بل إن أكثر المشاريع الخيرية الحالية إدعاء، ولا تؤدي عملًا حقيقيًا، أو تمشي قليلًا ثم تهمد وتتعثر وقد تنحرف.

والمشاريع الخيرية نوع تسكين وليست أبدًا علاجًا لمشاكل المجتمع، فالمجتمع ينفق الكثير فيما لا فائدة من ورائه، فمثلًا: لو أن عندنا قرية أو حيًّا سكنيًا تعداده مئة ألف، فإن به عشرون ألفًا يدخون كل يوم ( على اعتبار أن خمس الناس يدخنون كما معلن في الإحصاءات)، أي ينفقون- كمتوسط معتدل-ما يعادل عشرين جنيهًا للفرد، أي تنفق هذه القرية أو الحي 400.000 ألف يوميًا، ما يعادل (144مليون جنيه) سنويًا فيما يضرها ولا ينفعها. والسؤال: ماذا لو أُنفق ما ينفق على التدخين والمخدرات (حشيش وأدوية) في في العلاج؟، علمًا بأن كثيرًا من الأمراض سببها التدخين؟!
شهر واحد من بندٍ واحد (التدخين) يكفي لأن يعالج المرضى.. وللأبد، بمعنى أن يؤسس لهم مؤسسات طبية تعالج المرضى الحاليين، وتعالج من يمرض مستقبلًا.


والحي أو القرية أو المدينة الصغيرة (ذات المئة ألف) بها خمسة آلاف طالب فيما دون الدراسة الجامعية، ينفق كل واحدٍ منهم متوسط مئتي جنيه على التعليم  كل شهر، ما يعني أن مجموع ما ينفق في هذا المجال(200×5000=1.000.000) ، أي 12مليون كل عام. وهي تكفي لتطوير قطاع التعليم كله في هذا الحي لو وجد الناسُ مخلصين حقيقيين يقفون بوجه هذه الظاهرة التي عطلت المدارس التي بنيت بأموال الناس وفيها من يتقاضى راتبًا من أموال الناس.. يقفون بوجه هذه الظاهرة التي تعلم الطلاب فيما يشبه الغرز أو زرائب المواشي، فأهدوا الأموال، وأهدروا العملية التربوية، وأهدروا أوقات الطلاب وأرهقوهم، وأثروا على دورة رأس المال في الأحياء والقرى فنزعوا المال من الفقراء وركزوه في يد قلة من "المعلمين"، أنفقوا هذه الأموال بعد ذلك في شراء العقارات فارتفع سعرها وخاصة العقارات التي ينافس عليها. أين من يأخذ على يد العابثين بأطفالنا وشبابنا ومقدرات أمتنا ويصرفهم .. ويأخذ ما يهدر من أموال وينفقها حيث ينتفع الناس؟

وأسألُ، واسألْ معي،:كم تنفق القرية، أو الحي، أو المدينة الصغيرة (ذات المئة ألف) في أطعمةٍ وأشربةٍ إن لم تضر فلا تنفع، كالشيبسي والببسي، وما أشبه؟!!
وكم تتضيع القرية، أو الحي، أو المدينة الصغيرة (ذات المئة ألف) من الأوقات كل يوم فيما لا ينفعها. بل قد يضرها، أمام التلفاز ومجالس النميمية... ؟، وما يتبع ذلك من نزع للبركة ونشر للشر بين الناس؟!

من يرحم الناس يسعى لأن يصرف عنهم السوء، وأن يصلح من حالهم.. أن يتجه لهذه الظواهر السلبية ويحاول علاجها، أما علاج المرضى وإعطاء المحتاجين، ففي أفضل أحواله تسكين.. ولا يمكن أن يؤدي للسيطرة على الأمراض والقضاء على الفقر، بل هو في جوهره صرف للناس عن أسباب شقاؤهم الحقيقي.. في جوهره تأخير للعلاج الحقيقي لهذه الظواهر السلبية.. في جوهره تكسب سياسي وبحث عن نفوذ اجتماعي على حساب الفقراء والمحتاجين.

إن للفقراء والمساكين، والمرضى وكل المحتاجين نفقةٌ قد أخذت منهم، أخذها من أهمل تطوير القطاع الصحي، ومن أهمل ضبط الخدمات العامة فانتشرت الأمراض المزمنة.. وأخذها "النواب".. أولئك الذين اختارهم الناس لينوبوا عنهم في قضاء حوائجهم. اختارهم الفقراء والمحتاجون.. ليسنوا لهم من القوانين ما يصلح به حالهم، ويراقبوا الجهات المختصة في تنفيذ تلك القوانين، فانصرفوا لقضاء حوائج أنفسهم.

إن المعالجة بهذه الطريقة أخذ من محتاج لمحتاجٍ آخر، كمن يرقع بعضه ببعضه.. يجرح مكانًا ليداوي آخرًا.  وإن المعالجة بهذه الطريقة تقوية للمجرم المستبد.. نحمل عنه-بأقواتنا وأوقاتنا- همَّ الفقراء والمرضى الذين هم ضحيته وعليه أن ينوء بهمهم، أن يقيم العدل ليأخذ كل ذي حقٍ حقه. فإلى متى؟!، وحتى متى؟!


أولى بنا أن نتجه للمشاريع التثقيفية، وهو ما يفعله المجرمون، فإنهم لا يشيدون مستشفيات ولا رعاية للأرامل والأيتام_ إلا نفاقًا اجتماعيًا وفي إطار السيطرة على ما ينفق اضطرارًا في هذا المجال-، وإنما "يجاهدون" في وسائل الإعلام.. ويسيطرون على رؤوس الأموال، والسلطة والنفوذ .. وأولى بنا أن نبصِّر الناس بمن قد أضرهم.. بمن قد منع الخير عنهم.. بمن أركسهم في هذا المستنقع الآسن والظلام البهيم. نبصرهم بأن الخير كثير.. بأن ثمة من يعبث بأرزاقهم وأبدانهم وأمنهم.. بأن خلف هذه الظلمات الموحشة والمستنقعات الآسنة رياض خضرة، عطرة، مضيئة، لن نصل إليها بتضميد الجراح، وإنما بكسر يد من استحل واستباح.

محمد جلال القصاص
13 ربيع أول 1437هـ
24/12/2015