سر الأسرار عند السادة الكبار
معنى الإيمان، ومعنى الإخلاص، ومعنى أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، ومعنى أن تقدم الله ورسوله على نفسك وأهلك ومالك
أسلم أبو قحافة (والد أبي بكر) في آخر عمره، بعد فتح مكة، وجاء يبايع النبي وقد ابيض شعر رأسه كله. ساعتئذ بكى أبو بكر رضي الله عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا أبا بكر؟ فقال كلمته المذهلة: وددت يا رسول الله لو كانت يد عمك (أبي طالب) وكان قد أسلم فتفرح به، خيرًا من أبي!!
هنا بحث أبو بكر عن فرحة النبي قبل فرحته هو، فلما وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان سيفرح بإسلام أبي طالب أكثر من فرحه بإسلام أبي بكر بكى هو، وتمنى لو كان هذا الذي يبايعه هو عمه لا أبي قحافة!!
من هذا الموقف تفهم معنى الإيمان، ومعنى الإخلاص، ومعنى أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، ومعنى أن تقدم الله ورسوله على نفسك وأهلك ومالك؟!
من منَّا الآن يمكن أن يقف هذا الموقف، ويتمنى هذا التمني؟!
ومثل ذلك عمر.. وقف يومًا أمام العباس واختلفا في أمر أبي سفيان، كان العباس يحرص على إسلام أبي سفيان ويتلطف له، وكان عمر يعامل أبا سفيان كعدو بالمقام الأول، فما لبث أن غضب العباس على عمر وقال له: مهلا يا عمر والله لو كان من بني عدي (قبيلة عمر) ما قلتَ هذا. فقال له عمر: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلى من إسلام الخطاب (والد عمر)، وما هذا إلا لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب.
بمثل هذه المواقف تفهم معنى قول بعض السلف الصالح: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه".
وقول ابن مسعود للتابعين: أنتم أطول صلاة وأكثر اجتهادا من أصحاب محمد، وهم كانوا خيرًا منكم. فقيل له: بأي شيء؟ فقال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة.
الأمر في النهاية أمر قلوب، بل إن الإكثار من الصلاة والصيام مقصود منه تربية القلوب وترقيقها ورفعها لتكون أقرب إلى الله والآخرة. ولقد بلغت قلوب السادة الأوائل أن كانت قلوبهم تبحث عن فرحة رسول الله قبل أن تبحث عن فرحة أنفسهم، وتعمل لذلك وتحرص عليه!
فكم منا يبذل من نفسه وماله وجهده للآخرة مثل ما يبذل للدنيا؟ وكم منا حريص على الصلاة كحرصه على موعد صفقة؟ وكم منا سعى إلى الوقوف بين يدي الله كسعيه إلى لقاء ملك أو مسؤول؟ وكم منا يعامل كلام الله بالتقديس ومحاولة الفهم كما يتعامل مع تصريحات الساسة وصناع القرار؟ وكم منا يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه فيما بين يديه؟!
فإذا علمنا هذا، علمنا في أي مستنقع نحن الآن.
محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
- التصنيف: