الوصايا الجامعة للحجاج والزوار

منذ 2009-11-11

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع »، وقال: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».


بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد: فإلى حجاج بيت الله الحرام أقدم هذه الوصايا عملا بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى} [المائدة: 2] وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [رواه مسلم].

الأولى: الوصية بتقوى الله تعالى في جميع الأحوال، والتقوى هي جماع الخير وهي وصية الله سبحانه ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَـأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفسٍ وَ‌حِدَةٍ} [النساء:1] وقال سبحانه: {وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَـبَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي في خطبه كثيرا بتقوى الله. و حقيقة التقوى أداء ما افترض الله على العبد وترك ما حرم الله عليه عن إخلاص لله ومحبة له ورغبة في ثوابه وحذر من عقابه على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وهو أحد علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم- : "تقوى الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر".
وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ليست تقوى الله بصيام النهار ولا قيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير".
وقال طلق بن حبيب التابعي الجليل رحمه الله: "تقوى الله سبحانه هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله". وهذا كلام جيد، ومعناه أن الواجب على المسلم أن يتفقه في دين الله، وأن يتعلم ما لا يسعه جهله، حتى يعمل بطاعة الله على بصيرة ويدع محارم الله على بصيرة، وهذا هو تحقيق العمل بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن الشهادة الأولى تقتضي الإيمان بالله وحده، وتخصيصه بالعبادة دون كل ما سواه، وإخلاص جميع الأعمال لوجهه الكريم، رجاء رحمته وخشية عقابه.

والشهادة الثانية تقتضي الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله إلى جميع الجن والإنس، وتصديق أخباره واتباع شريعته والحذر مما خالفها. وهاتان الشهادتان هما أصل الدين وأساس الملة ، كما قال الله تعالى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَآ إِلَـهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَـئِكَةُ وَأُولوا العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطِ لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [آل عمران:18]، وقال سبحانه: {وَإِلَـهُكُم إِلَـه وَ‌حِد لَّا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ الرَّحمَـنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، وقال عز وجل: {قُل يَـأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيكُم جَمِيعًا الَّذِى لَه مُلكُ السَّمَـوَ‌تِ وَالأَرضِ لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ يُحىِ وَيُمِيتُ فَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَـتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ} [الأعراف:158]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.


الثانية: أوصي جميع الحجاج والزوار وكل مسلم يطلع على هذه الكلمة بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها والعناية بها وتعظيم شأنها والطمأنينة فيها؛ لأنها الركن الأعظم بعد الشهادتين، ولأنها عمود الإسلام، ولأنها أول شيء يحاسب عنه المسلم من عمله يوم القيامة، ولأن من تركها فقد كفر؛ قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ} [النور:56]، وقال عز وجل: {حَـفِظُوا عَلَى الصَّلَوَ‌تِ وَالصَّلَوةِ الوُسطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَـنِتِينَ} [البقرة:238] وقال جل شأنه: {قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُم فِى صَلَاتِهِم خَـشِعُونَ} [المؤمنون:1-2]..إلى أن قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُم عَلَى صَلَوَتِهم يُحَافِظُونَ(9) أولئِكَ هُمُ الوَارثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوسَ هُم فِيهَا خَـلِدُونَ} [المؤمنون:9-11]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» [رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (82)]، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» [رواه الترمذي في ( الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2621)وخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، وخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن] عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حافظ على الصلاة كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف». [رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (6540) ]
قال بعض أهل العلم في شرح هذا الحديث: وإنما يحشر من ضيع الصلاة مع هؤلاء الكفرة؛ لأنه إما أن يضيعها تشاغلا بالرياسة والملك والزعامة، فيكون شبيها بفرعون، وإما أن يضيعها تشاغلا بأعمال الوزارة والوظيفة، فيكون شبيها بهامان وزير فرعون، وإما أن يضيعها تشاغلا بالشهوات وحب المال والتكبر على الفقراء، فيكون شبيها بقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض، وإما أن يضيعها تشاغلا بالتجارة والمعاملات الدنيوية، فيكون شبيها بأبي بن خلف تاجر كفار مكة، فنسأل الله العافية من مشابهة أعدائه.


ومن أهم أركان الصلاة التي يجب على المسلم رعايتها والعناية بها الطمأنينة في ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها، وكثير من الناس يصلي صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها، ولا شك أن الطمأنينة من أهم أركان الصلاة، فمن لم يطمئن في صلاته فهي باطلة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع استوى في ركوعه وأمكن يديه من ركبتيه وهصر ظهره وجعل رأسه حياله، ولم يرفع رأسه حتى يعود كل فقار إلى مكانه، وإذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وإذا جلس اطمأن في سجوده حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وإذا جلس بين السجدتين اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، ولما رأى صلى الله عليه وسلم بعض الناس لا يطمئن في صلاته أمره بالإعادة، وقال له: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، وافعل ذلك في صلاتك كلها» [صححه الألباني]. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الواجب على المسلم أن يعظم هذه الصلاة ويعتني بها ويطمئن فيها حتى يؤديها على الوجه الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن تكون الصلاة للمؤمن راحة قلب، ونعيم روح، وقرة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «وجعلت قرة عيني في الصلاة» .

ومن أهم واجبات الصلاة في حق الرجال أداؤها في الجماعة؛ لأن ذلك من أعظم شعائر الإسلام، وقد أمر الله بذلك ورسوله، كما قال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَاركَعُوا مَعَ الرَّ‌كِعِينَ} [البقرة: 43]، وقال سبحانه في صلاة الخوف: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِم فَأَقَمتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلتَقُم طَائِفَة مِّنهُم مَّعَكَ وَليَأخُذُوا أَسلِحَتَهُم فَإِذَا سَجَدُوا فَليَكُونُوا مِن وَرَائِكُم وَلتَأتِ طَائِفَة أخرَى لَم يُصَلّوا فَليُصَلّوا مَعَكَ وَليَأخُذُوا حِذرَهُم وَأَسلِحَتَهُم} [النساء:102]. فأوجب الله سبحانه على المسلمين أداء الصلاة في الجماعة في حال الخوف، فيكون وجوبها عليهم في حال الأمن أشد وآكد. وتدل الآية المذكورة على وجوب الإعداد للعدو والحذر من مكائده.

فالإسلام دين العزة والكرامة والقوة والحذر والجهاد الصادق، كما أنه دين الرحمة والإحسان والأخلاق الكريمة والصفات الحميدة. ولما جمع سلفنا الصالح بين هذه الأمور مكن الله لهم في الأرض ورفع شأنهم، وملكهم رقاب أعدائهم، وجعل لهم السيادة والقيادة، فلما غير من بعدهم غير الله عليهم، كما قال عز وجل: {إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِم} [الرعد:11].


وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» [رواه البخاري في (الخصومات) باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت برقم ( 2420)، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها برقم (651)، وأبو داود في (الصلاة) باب في التشديد في ترك الجماعة برقم (548) واللفظ له] وقال عليه الصلاة والسلام : «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر». [رواه ابن ماجه في (المساجد والجماعات) باب التغليظ في التخلف عن الجماعة برقم (793 ) ]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه رواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء برقم (653). «أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي، قال: هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال:نعم، قال: فأجب» خرجه مسلم في صحيحه.


أما النساء فصلاتهن في بيوتهن خير لهن، كما جاء بذلك الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لأنهن عورة وفتنة، ولكن لا يمنعن من المساجد إذا طلبن ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله». [رواه البخاري في (الجمعة) باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل برقم (900)، ومسلم في (الصلاة) باب خروج النساء إلى المساجد برقم(442)] وقد دلت الآيات والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يجب عليهن التستر والتحجب من الرجال، وترك إظهار الزينة، والحذر من التعطر حين خروجهن؛ لأن ذلك يسبب الفتنة بهن؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) باقي مسند أبي هريرة برقم (9362). «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات». ومعنى تفلات: أي لا رائحة لهن تفتن الناس وقال صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء» [رواه مسلم في (الصلاة) باب خروج النساء إلى المساجد برقم (444)]. وقالت عائشة رضي الله عنها: "لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء اليوم لمنعهن الخروج". فالواجب على النساء أن يتقين الله وأن يحذرن أسباب الفتنة من الزينة والطيب وإبراز بعض المحاسن، كالوجه واليدين والقدمين حين اجتماعهن بالرجال وخروجهن إلى الأسواق، وهكذا في وقت الطواف والسعي، وأشد من ذلك وأعظم في المنكر كشفهن الرءوس، ولبس الثياب القصيرة التي تقصر عن الذراع والساق؛ لأن ذلك من أعظم الفتنة بهن؛ ولهذا قال الله عز وجل: {وَقَرنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَـهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب: 33]، والتبرج إظهار بعض محاسنهن. وقال عز وجل: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّأَزوَ‌جِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤمِنِينَ يُدنِينَ عَلَيهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].

والجلباب هو الثوب الذي تغطي به المرأة رأسها ووجهها وصدرها وسائر بدنها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة".
وقال تعالى: {وَإذَا سأَلتُمُوهُنَّ مَتَـعًا فَسـئَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَ‌لِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهنَّ} [الأحزاب:53].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رءوسهن مثل أسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها؛ ورجال بأيديهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها الناس» [رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أبي هريرة برقم (8451)، ومسلم في (اللباس والزينة) باب النساء الكاسيات العاريات برقم (2128)]. وقوله: كاسيات عاريات، فسر بأنهن كاسيات من نعم الله عاريات من شكرها، وفسر بأن عليهن كسوة رقيقة أو قصيرة لا تسترهن، فهن كاسيات بالاسم والدعوى عاريات في الحقيقة. ولا ريب أن هذا الحديث الصحيح يوجب على النساء العناية بالتستر والتحجب والحذر من أسباب غضب الله وعقابه، والله المستعان.


الوصية الثالثة: أوصي جميع الحجاج والزوار وكل مسلم بإخراج زكاة ماله إذا كان لديه مال تجب الزكاة فيه؛ لأن الزكاة من أعظم فرائض الدين، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. فالله سبحانه وتعالى شرعها طهرة للمسلم وزكاة له ولماله وإحسانا للفقراء وغيرهم من أصناف أهل الزكاة، كما قال عز وجل: {خُذ مِن أَموَ‌لِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهم بِهَا} [التوبة: 103].

وهي من شكر الله على نعمة المال، والشاكر موعود بالأجر والزيادة، كما قال سبحانه: {وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لَأَزِيدَنكُم وَلَئِن كَفَرتُم إنَّ عَذَابِى لَشَدِيد} [إبراهيم:7]، وقال عز وجل: {فاذكُرُونِى أَذكُركُم وَاشكُرُوا لِى وَلَا تَكفُرُونِ} [البقرة:102]
وقد توعد الله من لم يؤد الزكاة بالعذاب الأليم، كما توعده سبحانه بأنه يعذبه بماله يوم القيامة، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]
{يَومَ يُحمَى عَلَيهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم هَـذَا مَا كَنَزتُم لِأَنفُسِكُم فَذُوقُوا مَا كُنتُم تَكنِزُونَ} [التوبة:35]
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة: أن كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.

فالواجب على كل مسلم له مال تجب فيه الزكاة أن يتقي الله ويبادر بإخراج زكاته في وقتها في أهلها المستحقين لها، طاعة لله ولرسوله، وحذرا من غضب الله وعقابه. والله سبحانه وعد المنفقين بالخلف والأجر الكبير، كما قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقتُم مِّن شَىءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّ‌ٰزِقِينَ} [سبأ:39]
وقال تعالى : {امِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُستَخلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَأَنفَقُوا لَهُم أَجر كَبِير} [الحديد: 7].


الوصية الرابعة: صيام رمضان، وهو من أعظم الفرائض على جميع المكلفين من الرجال والنساء، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام، قال الله سبحانه: {يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} [البقرة:183] {أَيَّامًا مَّعدُودَ‌تٍ} [البقرة: 184]، ثم فسر هذه الأيام المعدودات بعد ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ القُرءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـتٍ مِّنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّن أيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» [رواه البخاري في (الإيمان) باب بني الإسلام على خمس برقم (8)، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم (16)] فهذا الحديث الصحيح يدل على جميع الوصايا المتقدمة وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم، وأنها كلها من أركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه إلا عليها؛ فالواجب على كل مسلم ومسلمة تعظيم هذه الأركان والمحافظة عليها والحذر من كل ما يبطلها أو ينقص أجرها. والله سبحانه إنما خلق الثقلين ليعبدوه سبحانه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل ذلك. وعبادته هي توحيده وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم عن إخلاص لله سبحانه، ومحبة له، وإيمان به وبرسله، ورغبة في ثواب الله، وحذر من عقابه؛ وبذلك يفوز العبد بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. وإنما أصيب المسلمون في هذه العصور الأخيرة بالذل والتفرق وتسليط الأعداء بسبب تفريطهم في أمر الله وعدم تعاونهم على البر والتقوى، كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَـبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

فنسأل الله أن يجمعهم على الحق ويوفقهم للتوبة النصوح، وأن يهديهم للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويوفق حكامهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، وإلزام شعوبهم بما أوجب الله، ومنعهم عن محارم الله؛ حتى يمكن لهم في الأرض كما مكن لأسلافهم، ويعينهم على عدوهم، إنه سميع قريب.

الوصية الخامسة: حج بيت الله الحرام، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، كما تقدم في الحديث الصحيح، وهو فرض على كل مسلم ومسلمة يستطيع السبيل إليه في العمر مرة واحدة، كما قال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع » [رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبد الله بن العباس برقم (2637)، والدارمي في (المناسك) باب كيف وجوب الحج برقم (1788)]. وقال صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [رواه البخاري في (الحج) باب وجوب العمرة وفضلها برقم (1773)، ومسلم في (الحج) باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم (1349)]. وقال عليه الصلاة والسلام: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» [رواه البخاري في (الحج) باب فضل الحج المبرور، برقم (1521)، ومسلم في (الحج) باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم (1350)]. فالواجب على حجاج بيت الله الحرام أن يصونوا حجهم عما حرم الله عليهم من الرفث والفسوق، وأن يستقيموا على طاعة الله، ويتعاونوا على البر والتقوى، حتى يكون حجهم مبرورا وسعيهم مشكورا. و الحج المبرور هو الذي سلم من الرفث والفسوق والجدال بغير حق، كما قال الله سبحانه: {الحَجُّ أَشهُرٌ مَّعلُومَـت فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الحَج} [البقرة:197].


ويدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» [صحيح البخاري الحج (1449)، صحيح مسلم الحج (1350)، سنن الترمذي الحج (811)، سنن النسائي مناسك الحج (2627)، سنن ابن ماجه المناسك (2889)، مسند أحمد بن حنبل (2/248)، سنن الدارمي المناسك (1796)]. والرفث: هو الجماع في حال الإحرام، ويدخل فيه النطق بالفحش ورديء الكلام. والفسوق يشمل المعاصي كلها.

فنسأل الله أن يوفق حجاج بيت الله الحرام للاستقامة على دينهم وحفظ حجهم مما يبطله أو ينقص أجره، وأن يمن علينا وعليهم بالفقه في دينه والتواصي بحقه والصبر عليه، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.

المصدر: دار ابن الأثير