ورحل صاحب "الواضح"

منذ 2009-11-17

(الواضح في أصول الفقه)، كتابٌ لا تكاد تخلو منه مكتبة طالب علم في العقود الأخيرة ...



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

(الواضح في أصول الفقه) ، كتابٌ لا تكاد تخلو منه مكتبة طالب علم في العقود الأخيرة بعد أن أصبح هذا الكتاب المبارك لبنة أساسية في كثير من المناهج العلمية المقرَّرة في العالم الإسلامي.

ولم تقتصر البركة على هذا الكتاب من بين مؤلفات صاحبه فضيلة الشيخ العلامة الأصولي "محمد سليمان الأشقر"؛ بل امتدت لتشمل عددًا كبيرًا من مؤلفاته.

وقد أنعم الله -عز وجل- عليه من فضله؛ ففضلاً عن رسوخ القدم في العلم والتميز في تحرير المسائل، ومعالجة النوازل؛ فقد كُتب لمؤلفاته القبول هو وأخوه الأصغر الشيخ عمر سليمان الأشقر -حفظه الله- صاحب سلسلة (العقيدة في ضوء الكتاب والسنة) وغيرها من المؤلفات، فكانت هذه العائلة المباركة نبراسًا على طريق العلم لشباب الصحوة.


وفي يوم الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة لعام (1430هـ) فقدت الأمة هذا العالم الأصولي الجليل، فكان حقًّا عليها أن تسترجع ربها في مصيبتها؛ فإنَّ من أعظم المصائب التي تنزل بالناس موت علمائهم، فالعلماء ورثة الأنبياء، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّه لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ اِنْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُك عَالِمًا اِتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» [متفق عليه]، وبوَّب عليه البخاري -رحمه الله-: "باب كيف يُقبض العلم".

قال النووي -رحمه الله-: "هذا الحديث يُبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حُفَّاظه؛ ولكن معناه أنه يموت حملته، ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالاتهم، فيَضلُّون ويُضلِّون" (شرح النووي على مسلم).


وقد قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "يموت العلم بموت حملته" [رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه، وحسَّنه].

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "عليكم بالعلم قبل أن يُرفع، ورفعُه هلاك العلماء" [رواه الدارمي].

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار" [رواه الدارمي].



وأنشد أحمد بن غزال -رحمه الله-:

الأرض تـحـيَا إذا مـا عَاش عالمها *** مَتَى يمُتْ عَالمٌ منها يمُت طَرفُ
كالأرض تحْيَا إذا ما الغيث حَل بها *** وإن أبـى عَـاد في أكنافهَا التَّلَفُ


فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا، وأخلف لنا خيرًا منها.

وهذا طرفٌ من سيرة الشيخ "محمد الأشقر" -رحمه الله-، وذكر طرفٍ من إنجازاته العلمية ومؤلفاته، مستفاد من عدة مصادر، منها موقعه الشخصي، وبعض الحوارات المُجراة معه، وكذا بعض مؤلفاته نفسها:


مولده وأسرته:


وُلد -رحمه الله- ببرقة في السادس عشر من سبتمبر سنة (1930م), ونشأ في كنف والده، وكان والده -رحمه الله- أميًّا، إلا أنه كان يحب أهل العلم والإيمان ويبرُّهم، وحرص على تعليم أولاده وحملهم على مكارم الأخلاق، وكان أغلب عمله في الزراعة، وكانت والدته حريصة على تربية بنيها على حب العلم والدين، وقد قرأت القرآن دون معلِّم.

دراسته الابتدائية والثانوية:

التحق بالمدرسة الابتدائية في قريته، وتخرج منها عام (1944م)، ثم التحق بالدراسة الثانوية بمدرسة الصلاحية بنابلس, حيث مكث أربع سنين.

الرحلة إلى المملكة العربية السعودية:

ذهب بعد ذلك -رحمه الله- إلى المملكة العربية السعودية، فعمل في التدريس الابتدائي سنة في المدرسة الفيصلية في مدينة بريدة (سنة 1369هـ)، وعمل في التجارة بالرياض سنة (1370هـ)، وعندما افتتح معهد الرياض الديني الثانوي سنة (1371هـ) بادر إلى الالتحاق به.

وفي سنة (1372هـ) أُسندت إليه أمانة مكتبة دار الإفتاء, ومقرها خلف مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- في منطقة دخنة، وحافظ مع ذلك على الدراسة بالمعهد, ثم بالكلية الشرعية في الرياض، إلى أن تخرج منها سنة (1376هـ) في الفوج الأول من خريجيها.


عمله في التدريس:


ثم عمل في التدريس بمعهد شقراء العلمي, وأُسندت إليه إدارته عام (1377هـ)، ثم نُقل بعدها للتدريس بالكلية الشرعية بالرياض, وكان أول من درَّس بها من خريجيها، فبقي كذلك من عام (1378هـ) إلى (1383 هـ).

ثم التحق بالتدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة, فبقي فيها سنتين، ثم انتقل إلى الكويت.


شيوخه في السعودية:


أخذ الشيخ محمد الأشقر -رحمه الله- العلم عن مشايخ أجلاء، فأخذ التفسير وأصول الفقه على الشيخ محمد أمين الشنقيطي, والفقه والعقيدة على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز, والفرائض على الشيخ عبد العزيز بن رشيد, والحديث على الشيخ عبد الرحمن الإفريقي, والنحو على الشيخ عبد اللطيف سرحان والشيخ يوسف الضبع, وغيرهم.

من السعودية إلى الكويت، وحصوله على الماجستير والدكتوراه من الأزهر:

وفي الكويت أُسندت إليه أمانة مكتبة وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية اثني عشر عامًا من سنة (1385هـ) إلى (1397هـ)، وحصل في أثناء ذلك على درجتي الماجستير والدكتوراه من كلية الشريعة بجامعة الأزهر، وكانت رسالته للدكتوراه بعنوان: "أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- و دلالتها على الأحكام الشرعية"، وهي فيما يتعلق من علم أصول الفقه بالسنن الفعلية، وكانت بإشراف الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله-.

ولما استأنفت وزارة الأوقاف بالكويت مشروع الموسوعة الفقهية انتقل للعمل مع العاملين فيه.

وشارك في لجنة الفتوى الشرعية بالكويت كعضو من أعضائها من سنة (1969م) إلى أن وقعت أحداث الخليج عام (1990م).


من الكويت إلى الأردن:


بعد أحداث الخليج رجع الشيخ إلى وطنه الأردن، و ابتنى له مسكنًا في منطقة الجندويل من مناطق مدينة عمان، وتفرَّغ فيها للبحث والتأليف، وأُقعد في آخر حياته، إلا أن ذلك لم يحجزه عن التصنيف والبحث، فرحمه الله -تعالى-.

من مساهماته العلمية:

شارك -رحمه الله- في عدد من المؤتمرات العلمية، وأُسندت إليه مهمة مراجعة الجزء الأكبر من معجم الفقه الحنبلي المستخلص من كتاب المغني، وهو المختصر الذي قامت بإعداده ونشره وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، وقام على ترتيبه وتصحيحه، حتى يسَّر الله إخراجه نموذجًا للمعاجم الفقهية، كوسيلة مهمة من وسائل تسهيل الرجوع إلى التراث الفقهي الإسلامي.

وقد كتب أبحاثًا كثيرة ظهرت في المجلدات التي صدرت في موسوعة الفقه الإسلامي.

هذا فضلاً عن عدد كبير من المؤلفات، نذكر أهمها.


مؤلفاته:


أثرى الشيخ -رحمه الله- المكتبة الإسلامية بعدد من المؤلفات المتميِّزة، منها:

في التفسير:

1- زبدة التفسير من فتح القدير (وهو مختصر تفسير الشوكاني).

2- نفحة العبير من زبدة التفسير.

في الفقه وأصوله:

3- أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودلالتها في الأدلة الشرعية "أطروحة الدكتوراه في مجلدين".

4- الواضح في أصول الفقه للمبتدئين.

5- الفتيا ومناهج الإفتاء.

6- معجم المغني لابن قدامة، بالاشتراك مع آخرين.

7- المجلّى في الفقه الحنبلي.

8- أبحاث اجتهادية في الفقه الطبي.


9- أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة "مع آخرين" (ط. النفائس)، للشيخ -رحمه الله- منها:

(1) الأصول المحاسبية للتقويم في الأموال الزكوية.

(2) أحكام المال الحرام، وحكم إخراج زكاته.

(3) الإلزام بالزكاة في الظاهر والباطن من الأموال، ومشمولات كل منهما في العصر الحديث.


10- بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة (مع آخرين)، -رحمه الله- فيها:

(1) التأمين على الحياة، وإعادة التأمين.

(2) بدل الخلوِّ.

(3) بيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية.

(4) الأسس والقواعد التي تحكم النظام التجاري في الإسلام.

(5) الامتيازات الاتفاقية على الديون.

(6) عقد السَّلَم.

(7) عقد الاستصناع.

(8) آداب الاستقراض.

(9) النقود وتقلب قيمة العملات.

(10) صيانة الأعيان المؤجرة، وتبعية ذلك على المؤجر والمستأجر.


11- أبحاث فقهية متعددة ظهرت في الموسوعة الفقهية منها: تصوير، دعوة، ذكر، بيت المال، مصحف، لحية، رِقّ، أرض الحَوز.

في الفهرسة:

12- الفهرسة الهجائية والترتيب المعجمي.

13- فهرس المغني في الفقه الحنبلي لابن قدامة.

14- فهرس البداية والنهاية، ونهاية البداية، لابن كثير.

في الدعوة والتزكية:

15- كيف تدخل في الإسلام؟ (مختصر للدُّعاة).

16- فقه العمل للآخرة، وجزاء الأعمال وموازنتها في الكتاب والسنة.


في اللغة:

17- معجم علوم اللغة العربية.

تحقيقاته لكتب التراث:

1- نيل المآرب شرح دليل الطالب في الفقه، للشيخ عبد القادر التغلبيّ الشيبانيّ الحنبلي (مجلدان).

2- حاشية الشيخ عبد الغني اللبدي على نيل المآرب.

3- رسالتان في الصحابة للحافظ العلائي، وهما:

أ- إجمال الإصابة في أقوال الصحابة.

ب- منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة.

4- مجموع بالمناقلة والاستبدال بالأوقاف، لابن قاضي الجبل الحنبلي وآخرين.

5- المستصفى من علم الأصول، للغزالي (مجلدان).


مؤلفات مخطوطة:

1- الجامع العزيز في الحديث.

2- الأربعون حديثاً الطوال، جمع ودراسة وشرح.

3- لهجة برقة ووادي الشعير من قرى فلسطين (معجم مصنّف).

4- مجموعة أبحاث أصولية.

5- ترميز كتب الحديث (بحث مقدم إلى مؤتمر السّنّة في قطر 1410 هـ).

6- مشاركة النساء في الولايات العامة والجزئية ومجالس الشورى والمجالس النيابية.

7- صحيح مسند الإمام أحمد على شرط البخاري.

8- التفسير المنير مختصر تفسير ابن كثير.


وفاته:


وافته المنية يوم الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة لعام (1430هـ) الموافق 15/11/2009م، ودُفن يوم الاثنين بعد صلاة الظهر بمسجد مقبرة سحاب في ضواحي مدينة عمان بالأردن.

رحمة الله على فضيلة الشيخ، وجزاه الله على ما قدَّم للأمة، وبارك الله في مؤلفاته ونفع بها خلقه، اللهم اغفر له وارحمه، وعافِهِ واعفُ عنه، وأكرِمْ نُزُلَه، ووسِّع مُدْخَلَه، اللهم أبدِله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وارزُقه الجنَّة، وأعِذْهُ من عذاب النَّار، وأعِذْهُ من عذاب القبر.

وصلِّ اللهم على محمد، وعلى آله وصحبه وسلِّم.

المصدر: محمد مصطفى - موقع صوت السلف