لنسفعاً بالناصية
منذ 2009-12-03
.. لم تصدق أذني ما سمعته من الحاج أحمد أبو شادي ولكن قلبي قفز من مكانه حتى كاد الجالسون معي يسمعون نبضات قلبي..
«دخلت امرأة النار في هرة ربطتها»
[رواه البخاري]، ليست هذه مجرد
كلمات نسمعها ونتفاعل معها ونهز رؤوسنا من فرط التأثر بها ولكنها في
الحقيقة.. حقيقة.. قانون.. ناموس من النواميس التي أرادها الله
للكون.. وقد يظن بعض اليائسين أو الجاهلين لقوانين الله في خلقه أن
الظالم من الممكن أن يفلت بظلمه.. وقد كنتُ ذات يوم غافلا عن حتمية
هذه القوانين.. أؤمن بها إيمانا شكليا أو هامشيا لم يتغلغل في ضميري
أو يخالط العلم المستكن في فؤادي، إلى أن حدث ما أذهلني وزلزل مشاعري
وأيقظ ضميري، فإذا بي وكأن الحجب تكشفت، وكأنني أرى عيانا بيانا مصارع
الظالمين.
كانت البداية في أواخر السبعينات وفي أغلب الظن كنا في عام 1978 وكنت وقتها طالبا بكلية الحقوق جامعة عين شمس أسعى في مناكبها وأنشطتها ومدارجها، وقد جمعتني أروقة الجامعة بالعديد من الأصدقاء.. منهم من كان ينكب على مناهج الدراسة وحضور المحاضرات وهؤلاء كنا نطلق عليهم اسم (شلة البؤس)، ومنهم من كان مثلي يتنقل بكل كيانه بين الأنشطة ومجلات الحائط واللجان الطلابية والأسر والمظاهرات وقد كان الفريق الآخر يطلق علينا اسم (شلة الأنس)، أما الشلة بفريقيها فقد كانت مشهورة في الجامعة آنذاك باسم (شلة النمس)!!، ولا أعرف سببا لهذه التسمية التي جعلت شلتنا ذائعة الصيت، وعندما يدخل الصيف وننتهي من امتحاناتنا كنا نحمل أمتعتنا ونذهب سويا إلى مدينة الإسكندرية نقضي بها أسبوعا أو أسبوعين لا نحمل إلا قروشا قليلة ولكننا كنا بها نملك الدنيا بأسرها، وليس يهم بعد ذلك أن نتطفل على أحد الأصدقاء من أهل الإسكندرية فنبيت عنده ليلة ونقضي عنده يوما أو بعض يوم، ثم نتطفل على بعض الأقارب يوما أو بعض يوم.. المهم أننا كنا لا نحفل أين ننام فحيث ينتهي بنا المقام يكون نومنا.
وفي هذا الصيف الذي أحدثكم عنه حط بنا الرحال عند صديقنا مجدي الأسكندراني وهو أحد أصدقاء الشلة حيث كان سكنه الأصلي في منطقة سيدي بشر عند شارع خالد بن الوليد في عمارة صغيرة يمتلكها والده ـ رحمه الله ـ ، وكان أثناء العام الدراسي يقطن في منطقة الزيتون بالقاهرة في شقة تمتلكها أسرته حيث كان والده منذ عهد جمال عبد الناصر يشغل وظيفة حساسة بمؤسسة الرئاسة.
وفي شقة صغيرة من شقق العقار المملوك لأسرة صديقنا مجدي بسيدي بشر كانت إقامتنا، وكانت هذه الشقة في الأصل يقيم فيها محيي شقيق مجدي والذي كان طالبا وقتها في كلية طب الأسكندرية وكان قد أعد هذه الشقة ليستذكر فيها دروسه هو وأصدقاءه من طلبة الطب، وكنا نعلم أنه جعل من إحدى حجرات المنزل مشرحة متكاملة يستجلب فيها جثامين بشرية أو بعض أجزاء من جثث لغرض التشريح الطبي والاستذكار عليها.
وفي اليوم الأول لإقامتنا كانت هناك مباراة دولية في كرة القدم في نهائي كاس العالم وجلسنا نشاهد المباراة في الوقت الذي كان فيه محيي شقيق مجدي يصطاد كعادته ـ بعدة الصيد ولباس الغوص بحسب أنه كان محترفا في ذلك ـ السمك الذي سيكون طعامنا في الغداء والعشاء... كانت مباراة الكرة محتدمة وكانت الأنظار معلقة على جهاز التلفزيون وكان بعضنا شرها في شرب السجائر وكان لا يني يطفئ سيجارة في عقب سيجارة ويضع ما يتبقى من أعقاب السجائر في منفضة (مطفأة سجائر) غريبة الشكل والتكوين موضوعة على منضدة جانبية، ولسبب لا أعلمه حانت مني التفاتة لهذه الطفاية وأخذت أتفرس فيها ثم قفزت صارخا وجسدي يرتعش فقد كانت تلك المنفضة (المطفأة) قطعة من جمجمة بشرية.
نظر إليّ الأصدقاء وهم لا يفهمون سببا لصياحي فلم يكن أحد في المباراة قد أحرز هدفا أو أضاع هدفا، كما أنهم يعرفون أنني لست من الذين ينفعلون في مباريات الكرة، وبدون أن أتكلم أشرت لهم على مطفأة السجائر وعندما نظروا إليها بإمعان قفز صديق لنا يدعى عز الدين (وهو الآن مستشار بمحكمة النقض) وخرج من الغرفة فزعا مسرعا لا يلوي على شيء إلا أن مجدي أعاده مرة أخرى وقال لنا متعجبا من فزعنا: "ما الذي أصابكم؟!!، هذه مجرد جمجمة من جماجم محيي التي كان يستجلبها لدروس التشريح وقد قام بتوضيبها وقسمها قسمين حيث جعل من هذا القسم مطفأة للسجاير وأعطى النصف الآخر لصديق له جعلها إناء وضعه في قفص للعصافير!!".
كان من الطبيعي أن تتعكر أمزجتنا إذ كانت أعوادنا ما زالت طرية لم نألف الموت ولم نخبره لذلك كان من الطبيعي أن نغلظ لمجدي في القول وألزمناه أن يحمل تلك الجمجمة ويضعها في مكان آخر لا تقع عليه عيوننا.. ولم يكن من الغريب أن نُعرض عن السمك الشهي الذي كان محيي قد أحضره وقام بشيه بنفسه بطريقة اسكندرانية كانت محببة إلى نفوسنا .
وفي المساء انفردت بمحيي وكان الرفاق يقضون وقتهم في بعض ألعاب التسلية وسألته عن خبر هذه الجمجمة، فقال لي سأصدقك القول وسأخبرك بما لا يعرفه أحد من أهل البيت هنا.. "هذه جمجمة لأحد أكابر المجرمين الذين كانوا يعذبون الناس في السجون في الخمسينات والستينات وقد مات هذا الرجل منذ فترة ليست بالبعيدة وتم دفنه في قريته التابعة لإحدى مراكز محافظة الغربية، وكنت قد اتفقت مع المقاول الذي يقوم بتوريد الجثث لكلية الطب كي يستجلب لي جثة أذاكر عليها أنا وزملائي، فقال لي أن لديه جثة بالفعل، وكان قد عرضها على كلية الطب ولكنهم رفضوها لأنها ممزقة كل ممزق وتكاد رأسها ان تنفصل عن جسدها، فضلا عن فقدها لبعض الأجزاء بالإضافة إلى أن الجمجمة نفسها مليئة بالكسور، وعندما سألته عن صاحب هذه الجثة فقال لي أنه أحضرها من أحد رجاله الذين يُحضرون له الجثث من قرية تابعة لأحد المراكز بمحافظة الغربية، وأنه علم أنها لذلك الجبار الذي قصمه الله ومات في حادثة بشعة تحدثت مصر كلها عنها"...
واسترسل محيي قائلا: "بعد أن علمت أن هذه جمجمة هذا الطاغية جعلت من نصفها مطفأة سجائر كما ترى، أما صديقي فلان وهو من قيادات الطلاب بجامعة الإسكندرية فقد جعل من النصف الآخر إناء ماء وضعه في قفص للعصافير، إلا أن العصافير للعجب الشديد عزفت عن الشرب منه وجعلته موضعا تقضي حاجتها فيه بغير توجيه أو تدريب وسبحان الله ولله في خلقه شؤون"!!.
مرت سنوات وتخرجنا من كلية الحقوق وعمل بعضنا بالنيابة ثم تدرج في سلك القضاء وعمل بعضنا بالمحاماة، وكنت قد تمسكت بالمحاماة لا أروم غيرها ولا أبتغي سواها ثم افتتحت مكتبي للمحاماة حيث شاركني فيه أحد أخوالي الذين تقلدوا من قبل مناصب عديدة في القضاء هو المستشار خيري يوسف الذي كان رئيسا سابقا لمحكمة الاستئناف، وذات يوم عُرضت علينا قضية قتل خطأ وما أن قرأها خالي حتى قال لي: "إن هذه الحادثة تعيد إلى ذاكرتي حادثة بشعة وقعت على طريق القاهرة الأسكندرية الزراعي منذ سنوات"، واسترسل الخال خيري قائلا: "كانت حادثة مروعة وكنت وقتها رئيسا لنيابة إحدى النيابات في محكمة كلية، وخرجنا أنا وزميل لي في مهمة قضائية لمعاينة الحادث ومناظرة الجثة.. دلت المعاينة وشهادة الشهود على أن سائق السيارة القتيل كان يقود سيارته بسرعة غريبة، وكانت أمامه سيارة نقل مُحملة بأسياخ الحديد التي تتدلى من مؤخرة السيارة، ودون أن يتنبه استمر في سرعته حتى اصطدم بالسيارة النقل، وحينها اخترقت أسياخ الحديد ناصية القتيل ومزقت رقبته وقسمت جانبه الأيمن حتى انفصل كتفه عن باقي جسده"، وبتأثر واضح قال المستشار خيري: "لم أستطع مناظرة الجثة فقد وقعت في إغماءة من هول المنظر وقام زميلي باستكمال مناظرة الجثة... هل تعلم من كان القتيل؟، لقد كان اللواء فلان الذي كانت فرائص مصر كلها ترتعد من مجرد ذكر اسمه وكانوا يلقبونه بملك التعذيب في السجن الحربي".. سرت قشعريرة في جسدي ولم أستطع أن أنبس ببنت شفة، ولم تخرج من فمي إلا كلمة سبحان الله، وأقسم لكم أنني شعرت وقتها بالمكان كله وكأنه يشاركني في تسبيحي وكأنه أيضا يرتجف فرقا وخوفا من الله الذي لا يُظلم عنده أحد.
مر عام على القصة التي رواها لي المستشار خيري وبعد هذا العام سنحت لي الظروف أن أجلس مع الحاج أحمد أبو شادي، وهو رجل إن لم تكونوا تعرفونه يشع النور من وجهه..
تجلس معه وكأنما تجلس مع رجل من جيل الصحابة.. فطرته نقية وقلبه ندي.. يحمل على كتفه حكمة السنين.. كان الحاج أحمد أبو شادي من الذين قضوا جزءا من أعمارهم في السجون أثناء الستينات بسبب انتماءه الفكري للإخوان وكان قد تعرض في السجن لتعذيب بشع رأيت بنفسي آثاره التي ما زالت باقية في جسده لم تبرحه بعد وكأنها وسام شرف.. وفي داخل السجن حفظ الحاج أحمد القرآن الكريم.... وفي فترة الثمانينات وجزء من التسعينات ظل إماما لنا في عدة مساجد بمدينة نصر في صلاة القيام.. وفي إحدى الجلسات الخاصة التي جمعت بيننا حكي لي الحاج أحمد عن فترة من فتراته في المعتقل فقال: "كان الطاغية مدير السجن الحربي قد نهانا في رمضان أحد الأعوام عن صلاة القيام وإلا تعرضنا للتعذيب والتنكيل، ولكننا كنا نحتال عليه وعلى السجانين فكنا نصلي كل مجموعة في زنزانتها بصوت خفيض.. وفي يوم فاض بنا الكيل وثار بعضنا وصممنا على أن نصلي جهرة ونُسمع الحراس صوت صلاتنا، وعندما وصل خبرنا في اليوم التالي للطاغية قام بتكديرنا وتعذيبنا بكل أشكال التعذيب التي يتصورها العقل والتي لا يتصورها حتى كدنا أن نهلك، وهنا صاح أحدنا بصوت جهوري ضخمه الحق: والله يا أيها الظالم إن الله سيقتص منك وسيسفعك على ناصيتك.. وهنا قال له الطاغية الظالم: "ماذا تقصد؟"، فقال له الأخ ــ وقد كان فلاحا من إحدى قرى محافظة الجيزة ــ: "ألم تسمع قول الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ ﴿٩﴾ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ﴿١٠﴾ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ ﴿١١﴾ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ} [سورة العلق: 9-12]، فقد قال الله بعدها: {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [سورة العلق: 15]، وسيسفعك الله على ناصيتك".
لم تصدق أذني ما سمعته من الحاج أحمد أبو شادي ولكن قلبي قفز من مكانه حتى كاد الجالسون معي يسمعون نبضات قلبي.. وهنا أيقن فؤادي أن وعد الله حق، وأن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، فقد كانت الجمجمة التي استُخدم نصفها كمطفأة للسجائر والنصف الآخر كإناء لقضاء حاجة العصافير هي نفسها جمجمة الطاغية مدير السجن الحربي الذي طالما قتل وعذب وقال للمساجين كلمة تكاد السماء تقع من هولها هي: "إن الله في زنزانة مجاورة"!!، هو ذاته ذلك الجبار المتأله الذي أنبأه الفلاح المعتقل البسيط بوعيد الله بأن رب العزة سيسفع ناصيته عندما نهاه عن الصلاة، وهو أيضا نفس الرجل الذي مات في حادثة بشعة مروعة سفع الله فيها ناصيته.. وكما تدين تدان.
"كما تدين تدان"، كانت البداية في أواخر السبعينات وفي أغلب الظن كنا في عام 1978 وكنت وقتها طالبا بكلية الحقوق جامعة عين شمس أسعى في مناكبها وأنشطتها ومدارجها، وقد جمعتني أروقة الجامعة بالعديد من الأصدقاء.. منهم من كان ينكب على مناهج الدراسة وحضور المحاضرات وهؤلاء كنا نطلق عليهم اسم (شلة البؤس)، ومنهم من كان مثلي يتنقل بكل كيانه بين الأنشطة ومجلات الحائط واللجان الطلابية والأسر والمظاهرات وقد كان الفريق الآخر يطلق علينا اسم (شلة الأنس)، أما الشلة بفريقيها فقد كانت مشهورة في الجامعة آنذاك باسم (شلة النمس)!!، ولا أعرف سببا لهذه التسمية التي جعلت شلتنا ذائعة الصيت، وعندما يدخل الصيف وننتهي من امتحاناتنا كنا نحمل أمتعتنا ونذهب سويا إلى مدينة الإسكندرية نقضي بها أسبوعا أو أسبوعين لا نحمل إلا قروشا قليلة ولكننا كنا بها نملك الدنيا بأسرها، وليس يهم بعد ذلك أن نتطفل على أحد الأصدقاء من أهل الإسكندرية فنبيت عنده ليلة ونقضي عنده يوما أو بعض يوم، ثم نتطفل على بعض الأقارب يوما أو بعض يوم.. المهم أننا كنا لا نحفل أين ننام فحيث ينتهي بنا المقام يكون نومنا.
وفي هذا الصيف الذي أحدثكم عنه حط بنا الرحال عند صديقنا مجدي الأسكندراني وهو أحد أصدقاء الشلة حيث كان سكنه الأصلي في منطقة سيدي بشر عند شارع خالد بن الوليد في عمارة صغيرة يمتلكها والده ـ رحمه الله ـ ، وكان أثناء العام الدراسي يقطن في منطقة الزيتون بالقاهرة في شقة تمتلكها أسرته حيث كان والده منذ عهد جمال عبد الناصر يشغل وظيفة حساسة بمؤسسة الرئاسة.
وفي شقة صغيرة من شقق العقار المملوك لأسرة صديقنا مجدي بسيدي بشر كانت إقامتنا، وكانت هذه الشقة في الأصل يقيم فيها محيي شقيق مجدي والذي كان طالبا وقتها في كلية طب الأسكندرية وكان قد أعد هذه الشقة ليستذكر فيها دروسه هو وأصدقاءه من طلبة الطب، وكنا نعلم أنه جعل من إحدى حجرات المنزل مشرحة متكاملة يستجلب فيها جثامين بشرية أو بعض أجزاء من جثث لغرض التشريح الطبي والاستذكار عليها.
وفي اليوم الأول لإقامتنا كانت هناك مباراة دولية في كرة القدم في نهائي كاس العالم وجلسنا نشاهد المباراة في الوقت الذي كان فيه محيي شقيق مجدي يصطاد كعادته ـ بعدة الصيد ولباس الغوص بحسب أنه كان محترفا في ذلك ـ السمك الذي سيكون طعامنا في الغداء والعشاء... كانت مباراة الكرة محتدمة وكانت الأنظار معلقة على جهاز التلفزيون وكان بعضنا شرها في شرب السجائر وكان لا يني يطفئ سيجارة في عقب سيجارة ويضع ما يتبقى من أعقاب السجائر في منفضة (مطفأة سجائر) غريبة الشكل والتكوين موضوعة على منضدة جانبية، ولسبب لا أعلمه حانت مني التفاتة لهذه الطفاية وأخذت أتفرس فيها ثم قفزت صارخا وجسدي يرتعش فقد كانت تلك المنفضة (المطفأة) قطعة من جمجمة بشرية.
نظر إليّ الأصدقاء وهم لا يفهمون سببا لصياحي فلم يكن أحد في المباراة قد أحرز هدفا أو أضاع هدفا، كما أنهم يعرفون أنني لست من الذين ينفعلون في مباريات الكرة، وبدون أن أتكلم أشرت لهم على مطفأة السجائر وعندما نظروا إليها بإمعان قفز صديق لنا يدعى عز الدين (وهو الآن مستشار بمحكمة النقض) وخرج من الغرفة فزعا مسرعا لا يلوي على شيء إلا أن مجدي أعاده مرة أخرى وقال لنا متعجبا من فزعنا: "ما الذي أصابكم؟!!، هذه مجرد جمجمة من جماجم محيي التي كان يستجلبها لدروس التشريح وقد قام بتوضيبها وقسمها قسمين حيث جعل من هذا القسم مطفأة للسجاير وأعطى النصف الآخر لصديق له جعلها إناء وضعه في قفص للعصافير!!".
كان من الطبيعي أن تتعكر أمزجتنا إذ كانت أعوادنا ما زالت طرية لم نألف الموت ولم نخبره لذلك كان من الطبيعي أن نغلظ لمجدي في القول وألزمناه أن يحمل تلك الجمجمة ويضعها في مكان آخر لا تقع عليه عيوننا.. ولم يكن من الغريب أن نُعرض عن السمك الشهي الذي كان محيي قد أحضره وقام بشيه بنفسه بطريقة اسكندرانية كانت محببة إلى نفوسنا .
وفي المساء انفردت بمحيي وكان الرفاق يقضون وقتهم في بعض ألعاب التسلية وسألته عن خبر هذه الجمجمة، فقال لي سأصدقك القول وسأخبرك بما لا يعرفه أحد من أهل البيت هنا.. "هذه جمجمة لأحد أكابر المجرمين الذين كانوا يعذبون الناس في السجون في الخمسينات والستينات وقد مات هذا الرجل منذ فترة ليست بالبعيدة وتم دفنه في قريته التابعة لإحدى مراكز محافظة الغربية، وكنت قد اتفقت مع المقاول الذي يقوم بتوريد الجثث لكلية الطب كي يستجلب لي جثة أذاكر عليها أنا وزملائي، فقال لي أن لديه جثة بالفعل، وكان قد عرضها على كلية الطب ولكنهم رفضوها لأنها ممزقة كل ممزق وتكاد رأسها ان تنفصل عن جسدها، فضلا عن فقدها لبعض الأجزاء بالإضافة إلى أن الجمجمة نفسها مليئة بالكسور، وعندما سألته عن صاحب هذه الجثة فقال لي أنه أحضرها من أحد رجاله الذين يُحضرون له الجثث من قرية تابعة لأحد المراكز بمحافظة الغربية، وأنه علم أنها لذلك الجبار الذي قصمه الله ومات في حادثة بشعة تحدثت مصر كلها عنها"...
واسترسل محيي قائلا: "بعد أن علمت أن هذه جمجمة هذا الطاغية جعلت من نصفها مطفأة سجائر كما ترى، أما صديقي فلان وهو من قيادات الطلاب بجامعة الإسكندرية فقد جعل من النصف الآخر إناء ماء وضعه في قفص للعصافير، إلا أن العصافير للعجب الشديد عزفت عن الشرب منه وجعلته موضعا تقضي حاجتها فيه بغير توجيه أو تدريب وسبحان الله ولله في خلقه شؤون"!!.
مرت سنوات وتخرجنا من كلية الحقوق وعمل بعضنا بالنيابة ثم تدرج في سلك القضاء وعمل بعضنا بالمحاماة، وكنت قد تمسكت بالمحاماة لا أروم غيرها ولا أبتغي سواها ثم افتتحت مكتبي للمحاماة حيث شاركني فيه أحد أخوالي الذين تقلدوا من قبل مناصب عديدة في القضاء هو المستشار خيري يوسف الذي كان رئيسا سابقا لمحكمة الاستئناف، وذات يوم عُرضت علينا قضية قتل خطأ وما أن قرأها خالي حتى قال لي: "إن هذه الحادثة تعيد إلى ذاكرتي حادثة بشعة وقعت على طريق القاهرة الأسكندرية الزراعي منذ سنوات"، واسترسل الخال خيري قائلا: "كانت حادثة مروعة وكنت وقتها رئيسا لنيابة إحدى النيابات في محكمة كلية، وخرجنا أنا وزميل لي في مهمة قضائية لمعاينة الحادث ومناظرة الجثة.. دلت المعاينة وشهادة الشهود على أن سائق السيارة القتيل كان يقود سيارته بسرعة غريبة، وكانت أمامه سيارة نقل مُحملة بأسياخ الحديد التي تتدلى من مؤخرة السيارة، ودون أن يتنبه استمر في سرعته حتى اصطدم بالسيارة النقل، وحينها اخترقت أسياخ الحديد ناصية القتيل ومزقت رقبته وقسمت جانبه الأيمن حتى انفصل كتفه عن باقي جسده"، وبتأثر واضح قال المستشار خيري: "لم أستطع مناظرة الجثة فقد وقعت في إغماءة من هول المنظر وقام زميلي باستكمال مناظرة الجثة... هل تعلم من كان القتيل؟، لقد كان اللواء فلان الذي كانت فرائص مصر كلها ترتعد من مجرد ذكر اسمه وكانوا يلقبونه بملك التعذيب في السجن الحربي".. سرت قشعريرة في جسدي ولم أستطع أن أنبس ببنت شفة، ولم تخرج من فمي إلا كلمة سبحان الله، وأقسم لكم أنني شعرت وقتها بالمكان كله وكأنه يشاركني في تسبيحي وكأنه أيضا يرتجف فرقا وخوفا من الله الذي لا يُظلم عنده أحد.
مر عام على القصة التي رواها لي المستشار خيري وبعد هذا العام سنحت لي الظروف أن أجلس مع الحاج أحمد أبو شادي، وهو رجل إن لم تكونوا تعرفونه يشع النور من وجهه..
تجلس معه وكأنما تجلس مع رجل من جيل الصحابة.. فطرته نقية وقلبه ندي.. يحمل على كتفه حكمة السنين.. كان الحاج أحمد أبو شادي من الذين قضوا جزءا من أعمارهم في السجون أثناء الستينات بسبب انتماءه الفكري للإخوان وكان قد تعرض في السجن لتعذيب بشع رأيت بنفسي آثاره التي ما زالت باقية في جسده لم تبرحه بعد وكأنها وسام شرف.. وفي داخل السجن حفظ الحاج أحمد القرآن الكريم.... وفي فترة الثمانينات وجزء من التسعينات ظل إماما لنا في عدة مساجد بمدينة نصر في صلاة القيام.. وفي إحدى الجلسات الخاصة التي جمعت بيننا حكي لي الحاج أحمد عن فترة من فتراته في المعتقل فقال: "كان الطاغية مدير السجن الحربي قد نهانا في رمضان أحد الأعوام عن صلاة القيام وإلا تعرضنا للتعذيب والتنكيل، ولكننا كنا نحتال عليه وعلى السجانين فكنا نصلي كل مجموعة في زنزانتها بصوت خفيض.. وفي يوم فاض بنا الكيل وثار بعضنا وصممنا على أن نصلي جهرة ونُسمع الحراس صوت صلاتنا، وعندما وصل خبرنا في اليوم التالي للطاغية قام بتكديرنا وتعذيبنا بكل أشكال التعذيب التي يتصورها العقل والتي لا يتصورها حتى كدنا أن نهلك، وهنا صاح أحدنا بصوت جهوري ضخمه الحق: والله يا أيها الظالم إن الله سيقتص منك وسيسفعك على ناصيتك.. وهنا قال له الطاغية الظالم: "ماذا تقصد؟"، فقال له الأخ ــ وقد كان فلاحا من إحدى قرى محافظة الجيزة ــ: "ألم تسمع قول الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ ﴿٩﴾ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ﴿١٠﴾ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ ﴿١١﴾ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ} [سورة العلق: 9-12]، فقد قال الله بعدها: {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [سورة العلق: 15]، وسيسفعك الله على ناصيتك".
لم تصدق أذني ما سمعته من الحاج أحمد أبو شادي ولكن قلبي قفز من مكانه حتى كاد الجالسون معي يسمعون نبضات قلبي.. وهنا أيقن فؤادي أن وعد الله حق، وأن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، فقد كانت الجمجمة التي استُخدم نصفها كمطفأة للسجائر والنصف الآخر كإناء لقضاء حاجة العصافير هي نفسها جمجمة الطاغية مدير السجن الحربي الذي طالما قتل وعذب وقال للمساجين كلمة تكاد السماء تقع من هولها هي: "إن الله في زنزانة مجاورة"!!، هو ذاته ذلك الجبار المتأله الذي أنبأه الفلاح المعتقل البسيط بوعيد الله بأن رب العزة سيسفع ناصيته عندما نهاه عن الصلاة، وهو أيضا نفس الرجل الذي مات في حادثة بشعة مروعة سفع الله فيها ناصيته.. وكما تدين تدان.
المصدر: ثروت الخرباوي - جريدة المصريون
- التصنيف: