أعمال القلوب - [25] التفكر 2-4
من وسائل زيادة الإيمان التفكر في آيات الله: في الكون، في الآفاق، في النفس {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم} [الروم:8]، فيما خلق الله، فهذه الميادين في التفكر مهم جدًا للإنسان المسلم والتفكر رأس المال وينتج بضاعة عظيمة جدًا.
التفكر لغة: مأخوذ من مادة (ف ك ر) التي تدل كما يقول ابن فارس رحمه الله من علماء اللغة: على تردد القلب في الشيء، يقال تفكر إذا ردد قلبه معتبرًا، ولفظ التفكر مصدر، وفكر مصدرها التفكير، والفكر هو التأمل وإعمال الخاطر في الشيء، فالتفكر هو تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب.
أما التفكر الشرعي: فقد قال ابن القيم رحمه الله قاعدة جليلة: "أصل الخير والشر من قبل التفكر فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض وأنفع الفكر:
1- الفكر في مصالح المعاد
2- وطرق اجتلابها
3- وفي دفع مفاسد المعاد
4- و في طرق اجتنابها
فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار ويليها أربعة:
1- فكر في مصالح الدنيا
2- وطرق تحصيلها
3- وفكر في مفاسد الدنيا
4- وطرق الاحتراز منها
فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.
قال: "ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة، فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها يثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت".
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التفكر في كتابه مقرونًا بذكر الأمثال والنعم و المخلوقات وكذلك ما نراه في هذا الكون من قدرته عز وجل وهذه بعض الآيات التي فيها الأمر بالتفكر أو مدح المتفكرين أو أنه خلق أشياء للمتفكرين:
1- { أيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266]، فهذا الرجل قلبه متعلق بالبستان من حيث:
أ- أنها جنة وليس مزرعة صغيرة.
ب- أن فيها أشجار متنوعة، نخيل وأعناب.
ج- أن فيها أشجار نفيسة وأعلاها قيمة وقدرًا، النخيل والأعناب.
د- أن الماء الذي في هذه الجنة لا يستخرج من الآبار بالمجهود الكبير، بل إن هناك أنهار تجري في هذه الجنة.
ه- أصابه الكبر؛ والإنسان إذا أصابه الكبر يحتاج إلى شيء يعود إليه بالمال دون أن يتعب فيه كثيرًا.
و- له ذرية ضعفاء صغار مرضى فهو يخشى أن يموت والأولاد أين مصدر رزقهم، لا يوجد إلا هذه الجنة.
فدرجة تعلقه بهذه الجنة كبير جدًا، فكيف يكون شعوره وخيبة أمله والإحباط إذ أصابها إعصار فيه نار فاحترقت؟..كبير جدًا، فكر لماذا ضرب المثل ولأي شيء ساق هذا المثل؟
إنه مثل ضربه الله للذي يعمل أعمالًا كثيرة؛ صدقات وغيرها ولكنه يرائي، يوم القيامة يأتي في غمرة الأهوال وهو محتاج إلى كل حسنة فيرى أعماله التي عملها في الدنيا وأمامه النار من تلقاء وجهه والشمس دانية من رأسه وفي العرق والصراط مضروب على جهنم ولا ينجو إلا بعمل صالح فجعل الله أعماله كلها هباءً منثورًا في وقت هو أحوج ما يكون إلى الحسنات فكيف يكون إحباطه وذله وخيبة أمله في ذلك الوقت، ماالذي ينشئ الانقياد والسعي للإخلاص في العمل؟ التفكر في مثل هذه الآيات.
2- {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران:190:192]
3- {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]
4- {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ . وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:2-3]
5- {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ . وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:10:14]
6- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:43-44]، يتفكرون في القرآن والتبيان السنة، فيتفكرون في القرآن والسنة.
7- {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ . أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:8-9]، إذًا التفكر في النفوس والتفكر في مصائر الأقوام البائدة مجال آخر للتفكر.
8- {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ . لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:20-21] . فليتفكر الإنسان في هذا القرآن وقوته لو أنزل على جبل لانهدّ فماذا ينبغي أن يكون أثره على نفسه؟
والنبي صلى الله عليه وسلم علّمنا التفكر لما قام من الليل ينظر في السماء ويقرأ، فقراءة الآيات من سورة آل عمران في الليل سنة قبل صلاة الليل، وهذه من السنن المهجورة، إذا قام من النوم يمسح النوم عن عينيه كما ورد في السنة ثم يقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} في البخاري عن ابن عباس بعد أن قرأ الآية صلى الله عليه وسلم ثم قام فتوضأ واستنّ فصلى ركعتين ثم خرج فصلّى الصبح، فلذلك على أحد القولين قراءتها قبل الخروج لصلاة الصبح وقبل الوضوء وقبل سنة الفجر والقول الآخر قبل قيام الليل.
وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب المعرفة لأنه إذا اجتمع في القلب اجتمعت المعلومات الأساسية وازدوجت على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى، فالمعرفة نتاج المعرفة، فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل نتاج آخر! فالعلماء من أين أنتجوا انتاجهم وأحاكم الفقه والأحكام المستنبطة والتفسير؟ جزء كبير خرج من التأمل في آيات الله والتأمل في الأحداث والوقائع!
الأمور المشكلة والمستعصيات كيف حُلّت؟!
أبو حنيفة قالوا له هذا شخص وهذا أخوه عقدنا لهما على أختين لما صارت الدخلة بالخطأ دخل الأخ الأول على زوجة الثاني ودخل الأخ الثاني على زوجة الأول ووطئها تلك الليلة و لم يكتشفوا ذلك إلا في الصباح، الحل يحتاج لتفكر وتدبر، تعال يا فلان هل أعجبتك المرأة التي دخلت بها؟ رضيت بها؟ نعم، وأنت يافلان؟ نعم، يا فلان طلق فلانة التي عقدت عليها ويا فلان طلق فلانة ثم عقد لكل منهم على الأخرى!
الجمع بين النصوص كيف حُلّت؟!
كيف نجمع بين {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [الأنعام:164] و « » يقصد: بما نيح عليه [صحيح ابن حبان:3136] ؟!!
فيفكر العلماء، يقولون هذا خاص بالكافر مثلًا هذا إذا كان راضيًا بالنياحة وهو يعلم بما يفعلون بالعادة لم ينههم قبل موته، وهكذا..
من وسائل زيادة الإيمان التفكر في آيات الله: في الكون، في الآفاق، في النفس {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم} [الروم:8]، فيما خلق الله، فهذه الميادين في التفكر مهم جدًا للإنسان المسلم والتفكر رأس المال وينتج بضاعة عظيمة جدًا.
فالثمرة الخاصة للتفكر؛ العلم، وإذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب، وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح، فالعلم تابع للفكر فالفكر هو المبدأ ينتج علمًا والعلم ينتج حال في القلب من الخشية والإحساس بالتقصير في حق الله والرغبة والجد، ينتجها العلم فيؤدي إلى زيادة أعمال الجوارح لأن القلب يأمر الجوارح بالعمل، فيصلح الإنسان ويعلو شأنه ويتحسن حاله من نتيجة التفكر.
محبة الله تحصل من التفكر في النعم، لأن النفس مجبولة على محبة من أحسن إليها، وكذلك فإن التفكر وسيلة لفهم الشريعة ووسيلة للفقه في الدين « » [صحيح الترغيب: 67] وهكذا تحصل البصيرة بالتفكر.
خالد أبو شادي
طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة
- التصنيف:
- المصدر: