إذا قرح القلب - [06] الحليم الصبور، يحبس القوم لعِقد الفتاة

منذ 2016-01-30

ليست المحبة محض تعبير بألفاظ و كلمات، ولكنها مواقف تُعاش تُعاين فيها مشاعر حسان رائقات، يتبادل فيها الخلق فيما بينهم فيض من الرحمات.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

وللدموع مع نبينا عليه السلام قصص طوال، يعبر بها عن كثير من رائق مشاعره أمام الصغار والكبار، فللدموع في حياته أشكال وأنواع، وفقه لا يُرزقه إلا من كان في العلم له باع. ولعلنا نُرزق بعود في القريب؛ نتأمل ونتعلم فيها فقها لدموع الحبيب.

أما الآن: (2) كيف عبّر عليه السلام عن: جميل حلمه، وعظيم حبّه، ورائق تفهمه لحاجة عرضت لزوجه أمام جيش من صحبه الكرام؟!

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بدأت الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قال: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته» (صحيح البخاري [322]) وفي رواية في الصحيح أيضًا: «أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت».

- قال الحافظ ابن حجر في كتابه: فتح الباري بشرح صحيح البخاري تعليقًا على هذا الحديث، قوله: «وليسوا على ماء، وليس معهم ماء»... وفيه اعتناء الإمام بحفظ حقوق المسلمين وإن قلت، فقد نقل ابن بطال أنه روي أن ثمن العقد المذكور كان اثني عشر درهما، ويلتحق بتحصيل الضائع الإقامة للحوق المنقطع ودفن الميت ونحو ذلك من مصالح الرعية، وفيه إشارة إلى ترك إضاعة المال. انتهى/ كتاب: التيمم ‏/ باب: وقول الله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا فامسحوا [322].

** حول بعض المعاني نطوّف: كم من عميق معان حواها ذلك الحديث، ففيه جميل خلق ورفق وحلم رائق نفيس.
انظرن: كيف أخبرت عائشة زوجها الهادي الأمين، بضياع عارية لها عقد أختها غير الثمين؟
ثم انظرن: كيف رق عليه السلام لحالها؟ وأرسل من يبحث عن عقدها، حابسًا جيشًا في فلاة بلا ماء لأجلها، صبورًا حنونًا حليمًا غير عاتب ولا مؤنب ولا محتقرًا لمصابها، بل زاد فنام عليه السلام مطمئنًا على حجرها.
يعلم القوم الصبر و الحلم والأناة، وحسن عشرة ورائق خلق يحبه سيده و مولاه! هل قرأتن هذا الحديث متأملات، ولدقيق معانيه عاقلات شاعرات؟

والسؤال: كيف نتعبد إلى الله بما جاء في هذا الحديث؟ وكيف نتخلق بكريم خلق نبينا العالي النفيس؟

*اسقاطات حياتية و تطبيقات عملية:

قلنا:
الأحاديث والآيات نتدين بمعرفتها، وعند اللزوم يتعين علينا اجترارها، والأوجب بل الغاية من نزولها من الله على خلقه أن يتعبدوا له بممارستها، وفي مواقف حياتنا نعمل على تطبيقها، ولن يتسنى لنا ذلك إلا بفهم معانيها، ومحاولة استشعار ما هو مراد الشارع بما جاءنا فيها، هلم نطبق على حديثنا هذا ...

-هل تصبر إحدانا على أولادها، إذا أخروها متعللين بعذر تراه واه عندها؟ هل تغير لأجلهم خططها؟
-هل تتنزلين لقدرهم، مظهرة تفهم لحاجاتهم المناسبة لحداثة سنهم؟
-هل ترفقين بحالهم، تراعين خاطرهم وما يهمهم؟
-هل ترقين صبرًا أم تتميزين غيظًا من عجوز أو قريبة تمسكت بحاجة عندك حقيرة تافهة واهية، ولكنها عندها عظيمة طاغية؟
-هل تحلمين إذا أخلف أحدهم وعدًا؟ أم تهبين متوعدة له أمرًا؟ لا تريدين أن تسمعي له عذرًا؟

ليست المحبة محض تعبير بألفاظ و كلمات، ولكنها مواقف تُعاش تُعاين فيها مشاعر حسان رائقات، يتبادل فيها الخلق فيما بينهم فيض من الرحمات.

يتبع. 

المقال السابق
[05] بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
المقال التالي
[07] ليس منا من لم يرحم صغيرنا