في بيتنا معاق
والواقع أن الإنسان ليس له إلا خياران: إما الصبر والرضى، أو الجزع والقلق، فالأول يرتفع بإيمانه وصبره، ويرتاح قلبُه.. وأما الثاني فإنما يَهبط بجزعه وقَلقِه، ويُتعب قلبَه، ويملأ صدرَه كمَدًا، ولن يجلب له ذلك شفاء أو تخلّصًا من تلك الإعاقة..
قال بعضُ أهل العلم: كنا في جنازة وحضرها شيخ يقال له: أبو بكر الضرير، وبين يَدي الجنازةِ صبيان يبكون ويقولون: من لنا بعدك يا أبة؟ فلما سمعهم أبو بكر يقولون ذلك، قال: الذي كان لأبي بكر الضرير! فسألتُه عن سبب ذلك؟ فقال: كان أبي من فقراء المسلمين وكان يبيع الخزف، وكانت لي أختٌ أَسنّ منّي، وكنتُ قد أُتِيَ عليّ في بصري، فانتبهتُ ليلة فسمعت أبي يقول لأمي: أنا شيخٌ كبير! وأنت أيضًا قد كبرتِ وضعفتِ! وقد قربَ منّا ما بَعُد، وهذه الصبيّة تَعيش بصحّة جسمها وتخدِم الناس، وهذا الصبيّ ضرير! قطعة لحم، ليت شعري! ما يكون منه؟ ثم بَكَيا وداما على ذلك وقتًا طويلًا من الليل، فأحزَنَا قلبي، فأصبحتُ ومضيتُ إلى المكتب -على عادتي- فما لبثتُ إلا يسيرًا إذ جاء غلامٌ للخليفة، فقال للمعلِّم: السيدةُ تسلّم عليك، وتقول لك: قد أقبل شهرُ رمضان، وأريدُ منك صبيًا دون البلوغ، حسنَ القراءة، طيبَ الصوت، يصلي بنا التراويح.
فقال: عندي مَن هذه صفتُه، وهو مكفوف البصر، ثم أمرني بالقيام معه، فأخذ الرسولُ بيدي وسِرْنا حتى وصلنا الدارَ، فاستأذنَ لي، فأذنتْ السيدةُ لي بالدخول، فدخلتُ وسلّمت، واستفتحتُ وقرأتُ، بسم الله الرحمن الرحيم، فبكتْ، واسترسلتُ في القراءة، فزاد بكاؤها، وقالت: ما سمعتُ قط مثل هذه التلاوة، فرقّ قلبي، فبكيتُ، فسألتني عن سبب ذلك؟ فأخبرتها بما سمعت من أبي؛ فقالت: يا بني! يكون ذلك ممّن لم يكن في حساب أبيك، ثم أمرتْ لي بألف دينار، فقالت: هذه يتّجر بها أبوك، ويجهّز أختَك، وقد أمرتُ لك بإجراء ثلاثين دينارًا في كل شهر، إدرارًا، وأمرتْ لي بكسوة وبغلة مسرّجةٍ ملجّمة، وسرج محلي، فهو سبب قولي جوابًا للصبيان عند ما قالوا: من لنا بعدك يا أبه[1].
هذا الأعمى الذي مضت قصّتُه هو نموذجٌ لبعض حالات الإعاقة، أو ما يسمى بذوي الاحتياجات الخاصة التي توجد في بعض البيوت، سواء كانت هذه الإعاقة عمى، أو صممًا، أو إعاقة جسدية في الأطراف أو غيرها، والتي عادةً ما يصاحب ولادَتَه بإحدى هذه العاهات شعورٌ عند والديه أو أحدهما بضيق الصدر، والقلق على مستقبله، والجزع من تَبِعة هذه الإعاقة.
والواقع أن الإنسان ليس له إلا خياران: إما الصبر والرضى، أو الجزع والقلق، فالأول يرتفع بإيمانه وصبره، ويرتاح قلبُه، ولسانُ حاله: هي من عند الله، وهي خِيرتُه، فسأرضى وأُسلّم، وأما الثاني فإنما يَهبط بجزعه وقَلقِه، ويُتعب قلبَه، ويملأ صدرَه كمَدًا، ولن يجلب له ذلك شفاء أو تخلّصًا من تلك الإعاقة.
وثمة مَلحظٌ يُبصره أهلُ الإيمان، الذين قرأوا القرآن، وتدَّبَروه، حين يقرأون قوله تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة من الآية:216]، ويقرأون قولَه تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء من الآية:11]، ولسان حالهم: خِيرتُك يا رب خيرٌ من خيرتنا لأنفسنا، وقد يكون هذا المعاق أقرب لنا نفعًا في الدنيا قبل الآخرة! وهذه حقّ.
فأما في الدنيا: فكم فتَحت هذه الابتلاءاتُ لهؤلاء المعاقين وأهليهم من لذّة التعلق بالله، ومناجاته، وحسنِ الظنّ به، وانتظارِ الفرج! وكم بنَتْ هذه الابتلاءاتُ في نفوسِ أهليهم من معاني الصبرِ والاحتمال! وكم.. وكم..! وأعرف بيوتًا حصل لها ما وصفتُه، وقد كانوا من قبل في غفلة، وتقصيرٍ في الفرائض، وتساهُلٍ في بعض المحرمات، فجاء هذا المولودُ المعاق ليَكسِرهم، وينبّههم من غفلةٍ ألمّت بهم، وسببًا في حصول لذاتٍ قلبية لم تكن لولا ما قدّره اللهُ من هذا الابتلاء.
وأما في الآخرة: فهذه الابتلاءاتُ لهؤلاء المعاقين وأهليهم -مع الصبر والاحتساب- سببٌ في رفعة درجاتهم عند الله تعالى، رفعةً قد لا تبلغها أعمالُهم، كما في الأثر: «
»[2]، ولأجل هذا المعنى قال بعضُ السلف: "لولا مصائبُ الدنيا لقدِمْنا على الله مفاليس"[3].والسعيدُ مَن عاش العبوديةَ لله في السراء والضراء، ورأى مواقعَ الرحمةِ في منازل الابتلاء، وأيقن أن خِيرةَ الرحيم الرحمن خيرٌ من خيرته لنفسه، ومن لم يعش ذلك، تكّدر عيشه، وتنغصتْ حياتُه.
___________________
[1]- نكث الهميان في نكت العميان؛ ص: [32].
[2]- سنن أبي داود؛ ح: [3090]، وفي سنده ضعف، لكن معناه صحيح.
[3]- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: [10/164].
عمر بن عبد الله المقبل
الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.
- التصنيف:
- المصدر: