شهداء "الانتفاضة" بين الثمن والجدوى
يقال أن كثيرًا من عمليات "انتفاضة" القدس الأخيرة هي محض عمل عفوي لا يمكن توجيهه أو محاسبة فاعليه "استراتيجيًا"، بيد أن هذا ليس دقيقًا بالمرة؛ فمعظم المنفذين هم نتاج تأهيل تربوي بنيوي سمح لهم بالإقدام على الموت دفاعًا عن الأقصى، وفداء لما يعتقدون أنه أكبر بكثير من سفك دمائهم.
للبعض ربما يكون مجرد طرح السؤال حول جدوى المقاومة السلمية المطورة في القدس والضفة الغربية مزعجًا؛ فنبل الهدف كثيرًا ما يحجب عنا جوانب من الصورة ينبغي النظر إليها عند البحث في كفاءة الوسيلة، قبل إكمال هذه السطور؛ فقد يتبادر إلى الذهن أن خلاصتها هو الميل باتجاه نتيجة تحاكم الأدوات التي تستخدمها ما اصطلح – تفاؤلًا – إطلاق مسمى الانتفاضة أو انتفاضة القدس أو الأقصى عليها، لكن الواقع يختلف نوعًا ما عن هذا؛ فالمطلوب ليس هذا وإنما إعادة النظر والتفكير مرارًا فيما تتوجه إليه الأمة أو طوائف وجماعات منها.
بين يدينا هذه المعطيات حتى الآن: بانتهاء شهر "الانتفاضة" الرابع يكون قد ارتقت أرواح 168 شهيدًا إلى رب رحيم، في مقابل 28 قتيلًا قد لقوا حتفهم من الصهاينة إلى جوار 478 مصابًا آخرين منهم، وتشير الإحصاءات إلى انخفاض في عدد الشهداء بنسبة كبيرة في الشهر الرابع عما قبله، 22 شهيدًا في شهر يناير عن 38 في ديسمبر الماضي، فيما كان عددهم في الشهرين السابقين لهما 108 شهيدًا.
هذه الأرقام يمكن وضعها ضمن أكثر من تفسير: "الانتفاضة" تتراجع بالنظر إلى تراجع العمليات (لا إلى عدد الشهداء)، أو أنها قد صارت أكثر تركيزًا ووعيًا ورغبة في إحداث نكاية أكبر في العدو من خلال العمليات النوعية، أو أن "الانتفاضة" قد أدت المطلوب منها مؤقتًا وكان طبيعيًا أن تتراجع تكتيكيًا.
ومهما يكن؛ فإن الحساب الرقمي لثمن تضحية ما لا يمكن تقديره عبر قاعدة رياضية؛ لأسباب عديدة، منها أن التقدير التقريبي لـ"الخسائر" هو خاضع لمتغيرات لا يملكها صاحب قرار المواجهة (الانتفاضة هنا أو المقاومة)، ومنها أن نتيجة التأثير الناجم عن عمل ما لا يمكن رصدها بدقة عالية، ومنها أن المتغيرات الخارجية تلعب دورًا في التقدير.
لذا؛ تغدو المقاربة الأكثر دقة هي تلك التي تقدر حجم "الخسائر" بالنظر إلى المتوقع من النتائج، وليس النتائج ذاتها، أخذًا بالاعتبار الإمكانات المتاحة، كون الأخيرة لا يمكن تقديرها بدقة عالية. من هنا، إذا عدنا إلى ما اصطلح عليه بانتفاضة القدس أو انتفاضة السكاكين نجد ما أحدثته حتى الآن هو:
- تأجيل ضروري لفكرة الاقتحام المتسارع للأقصى، الممهد لهدمه (كميًا): كمثل الاقتحام اليومي.
- تأجيل ضروري للاقتحام النوعي للأقصى (كيفيًا): كمثل الهجمات بالأسلحة والحرائق بالمصلى القبلي، ودخول الجنود بالأحذية إلى المصلى.
- إبعاد نسبي لمسألة الجرأة على إهانة المسجد الأقصى (كيفيًا): كمثل اقتحام "سائحات" أو "مغتصِبات" (مستوطِنات) لباحاته بملابس غير لائقة.
وعلى مستوى آخر:
- توسيع دائرة الاحتجاج والتثوير المتدحرج لمناطق الضفة التي أبعدت عن الصراع منذ فترة طويلة تحت وطأة التنسيق الأمني بين السلطة الموالية للكيان الصهيوني في رام الله، وقيادتها في تل أبيب، وفي صعيد الإمكانات، لا تبدو الخيارات واسعة أمام "المنتفضين"، بالنظر إلى التنسيق المشار إليه.
هذا في هذا الجانب يبدو مناسبًا، لكن من زاوية لا يمكن إهمالها؛ فإن كثيرًا من المراقبين - ويدخل في هؤلاء من يمتلك مسكة من تأمل وتقدير وبعد نظر من جموع الشعوب – لا ينظرون بارتياح لما يمكن أن يعتبروه "هدرًا" في الطاقات والكوادر الفلسطينية في عمليات تبدو بدائية نوعًا ما، مهما تذرع مؤيدوها بالإمكانات. وهذا "الهدر" ليس مقصودًا به التقليل من قيمة "الشهادة" كإحدى الحسنيين، لكنه يأخذ باعتباره جدوى إراقة دماء مسلمة غالية في عمليات تبدو – كما تقدم – بدائية، كما أنه لا يقلل من قيمة ما يقدم عليه الشباب والشابات في القدس وفي فلسطين 48 من بث رعب هائل في نفوس الصهاينة بعملياتهم التي تمتاز بسلاحها غير المنظور ( دهس، طعن.. إلخ) (وهي عمليات بكل حال يقبلها الكثيرون لخصوصية الحالة الفلسطينية دون سواها من عمليات التحرير أو المقاومة وغيرها في بلدان العالم الإسلامي بكل تأكيد)، إنما يقصد بها التساؤل حول أهمية اللجوء إلى مثل هذه العمليات التي لا تحقق نتائج عالية في حسم المواقف السياسية، إذ لاشك أن "إسرائيل" عادت تدريجيًا هي الأخرى مع انخفاض وتيرة العمليات تلك إلى سياسة الاقتحامات التي تتمتع بحماية أمنية صهيونية عالية.
وقد يطيب للبعض أن يسأل عما إذا كان الفلسطينيون وقد احتفوا قبل أسابيع بمرور 20 عامًا على استشهاد المهندس يحيى عياش أضحوا غير قادرين على تكرار نموذجه المربك كثيرًا لحسابات الصهاينة، والتي أدت فيما أدت إليه لاحقًا إلى الهروب من غزة، وبناء السور الواقي، والانكفاء النسبي في الضفة (اعتمادًا على ما وفرته السلطة من تعويض للوجود الصهيوني بها)، أم ماذا؟!
يقال أن كثيرًا من عمليات "انتفاضة" القدس الأخيرة هي محض عمل عفوي لا يمكن توجيهه أو محاسبة فاعليه "استراتيجيًا"، بيد أن هذا ليس دقيقًا بالمرة؛ فمعظم المنفذين هم نتاج تأهيل تربوي بنيوي سمح لهم بالإقدام على الموت دفاعًا عن الأقصى، وفداء لما يعتقدون أنه أكبر بكثير من سفك دمائهم.
بالجمع بين شتات ما تقدم، تبدو الجدوى كبيرة، لكن الثمن غالٍ أيضًا، وإذا كان استرخاص النفس أمرًا محمودًا أحيانًا على المستوى الشخصي؛ فإن الإرادة الجمعية لابد لها ألا تنظر بهذه الروح "الاستشهادية" وهي تعالج قضية عميقة كالقضية الفلسطينية أو حتى غيرها. نعم، على الجندي أن يكون فدائيًا، لكن ليس لقائده أن ينظر من الزاوية ذاتها.. وفي "الثقافة الإسلامية" لم يكن هذا الاندفاع دومًا مضطردًا من القادة كما الجنود، إذ كانوا في معظم الأحوال حريصين على نفوس جنودهم إلا في لحظات حسم مصيرية تستدعي هذا ولا يجدون فكاكًا عنها على النحو الذي يلمس في الملاحم والمعارك الكبرى، لذلك فالسؤال لم تجب عنه – للأسف – هذه السطور، ولا تملك هذا، لكنه يبقى ملحًا: هل الثمن باهظ أم عادل لمفردات هذه "الانتفاضة"؟
- التصنيف:
- المصدر: