تباً لتلك الفتوى وتب

منذ 2010-01-12

قال صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم» مسند أحمد.


بينما الأحداث تتصاعد انتقاداً لبناء مصر الجدار الفولاذى على الحدود بين مصر وقطاع غزة، خرجت على المسلمين فتوى من المؤسسة الرسمية الإسلامية في مصر تؤيد الحكومة المصرية في بنائها جدار فولاذى على الحدود مع قطاع غزة لقطع أخر شريان لحياة الفلسطنيين في غزة وتقول بحلّ بناء الجدار وأن الشرع الإسلامي يؤيد ذلك؟!!

وقد انتقدها مئات العلماء في بلاد المسلمين مما جعل الناس يقولون تباً لتلك الفتوى وتب .


نعم، فتلك المؤسسة الإسلامية هي نفسها التي أصدرت الفتاوى في عام 48 بفرضية الجهاد لتحرير فلسطين، وفرضية مساعدة الفلسطينيين ودعمهم بكل أنواع الدعم، وتتابعت على ذلك الفتاوى من المؤسسة الرسمية الإسلامية في مصر حتى بلغت مجلدات حتى عام 73، وكانوا يستحثون الناس على الجهاد لتحرير فلسطين ويستشهدون بقول الحق تبارك وتعإلى وهو الحق {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [الحجرات:15].


وبعد ذلك مع عام 78 وكامب ديفيد المشؤمة، بدأت الفتاوى تتغير مع أن العدو لم يتغير واحتلاله لفلسطين لم يتغير، وقتله وسفكه لدماء الأبرياء من الفلسطنيين لم يتغير، وتدميره للحياة والمنازل وشجر الزيتون لم يتغير، بل زاد أضعافاً مضاعفة.


الحقيقة أن منشأ تلك الفتنة يرجع إلى:

1- التغير الذي حدث في المفاهيم الإسلامية بعد أن كانت فتاوى علماء الإسلام قائمة على أممية الإسلام ووحدة العلاقة بين المسلمين، سقطت تلك القاعدة عند الكثير منهم بسقوط الخلافة الإسلامية مع سقوط آخر خليفة عثماني رسمياً عام 28، وبدأت تتكون مفاهيم جديدة مع اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية التي رسمت حدودا بين الدول العربية، وتم تأسيس الانفصال القـُطرى الإقليمي لكل دولة، ولم تشفع محاولات القومية العربية والجامعة العربية في وضع قواعد وحدة بين العرب المسلمين، وأيضاً لم تشفع منظمة المؤتمر الإسلامي في إعادة وحدة المسلمين، ومع ترسيخ قواعد القـُطرية الإقليمية، ترسخت قواعد الانفصال الجديدة عن مفاهيم وقواعد الفهم الإسلامي للوحدة الإسلامية الثابتة بالقرآن والسنة.

وقضية فلسطين مثال واضح لا لبس فيه لتلك القضية بعد أن كانت قضية إسلامية وفتاوى علماء المسلمين من الهند حتى المغرب تقول بفرض الجهاد لتحريرها، تغيرت إلى قضية عربية ثم تقوقعت إلى قضية فلسطينية.


2- بعض العلماء في المؤسسة الرسمية الإسلامية في بلاد المسلمين هم الذين تسببوا في تلك الفتنة بسبب خوفهم على مناصبهم ودنياهم وتملقهم للحكام، وتناسوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم» مسند أحمد.


3- الانفصال بين الدين والدولة والعلمانية التي ترسخت حتى في عقول بعض علماء المسلمين، مما جعلهم يتركون كل شئون الحكم للسياسيين مهما كانت توجهاتهم الفكرية ويطيعونهم في كل مايطلبونه منهم.

وبعضهم يجعل السمع والطاعة لكل مايقوله ويطلبه الحاكم حتى ولو كان قوله وطلبه مخالف بوضوح للشرع الحكيم .


4- نفاق الحكام، بعض علماء المسلمين يستغل قواعد الفقه الإسلامي وقدرته على حياكة الفتوى، فيصنع ما يشاء مستغلا قدرته وظروف الواقع،
مثال اليوم أنهم يقولون بحتمية المحافظة على الحدود وغلقها أمام الشقيق المظلوم لتحقيق السيادة الوطنية تحت دعوى المصالح المرسلة، وتناسوا وغفلوا عن أن مصلحة الإسلام هي الواجبة، والمحافظة على الحدود تكون من العدو الثابتة عداوته بالنص المقدس والواقع الذي لا يخفى.

صحيح أن العالم شهد تغيرات كثيرة على كافة المستويات، والمسلمون تفرقت كلمتهم وضعفت قوتهم في عالم لا يعرف غير لغة القوة ..

ولكن هل يعرف التاريخ القديم و والحديث تحقيقا للقوة إلا بالوحدة ؟

ولن تتحقق وحدة المسلمين وتتحقق قوتهم إلا بتمسكهم بالإسلام الذي جعلهم أمة واحدة، وليس دولاً متفرقة كل منها له أجندته ومصلحته التي تختلف وتعارض الدولة الجارة المسلمة، ومن المحزن أن أجندة كل دولة مسلمة الآن تابعة لدولة كبرى غربية وليست أجندة مستقلة.

الواقع يقول أن بعض الفتاوى الفقهية تسبب مشاكل ولا خطر منها، ولكن الخطر الأكبر في تلك الفتاوى أنها تكون سبباً في ضياع حقوق ومقدسات، وضياع أمة هي خير أمة أخرجت للناس .


ويبقى لهؤلاء الذين يسارعون بالفتاوى إرضاءً للسلطان أو لحرصهم على دنيا زائلة، أذكرهم بقول الصحابى الجليل حذيفة وهو يقول: (إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعا بعذاب أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم " مسند أحمد.

وأذكرهم أيضاً بقول الإمام العظيم شيخ الإسلام ابن القيم: حيث قال (وأي دين وأي خير، فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق) .

وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذّل وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.

وهؤلاء -مع سقوطهم في عين الله ومقت الله لهم- قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.


ويبقى أنه لن تتحرر فلسطين إلا بالجهاد، والجهاد يحتاج إلى علماء أقوياء، في الحق لايخافون لومة لائم، يجاهدون بكلمة الحق ولايفتنهم ويشغلهم متاع الدنيا، وأذكرهم بقول الحق سبحانه وتعالى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

وأخيراً أي زمن نعيش فيه وأي تراجع وهزيمة نحياها، بدلاً من فتاوى تساعد وتنصر الفلسطينيين المسلمين المجاهدين المحاصرين وتدعم صمودهم، تصدر الفتاوى بتشديد الحصار عليهم وبناء الجدار، ومن المخجل أنها حتى فتاوى ليست للمصلحة الوطنية، إنما هي فتاوى -عرفوا أم لم يعرفوا- لمصلحة العدو، فتباً لتلك الفتوى وتب.


ممدوح إسماعيل، محام وكاتب
elsharia5@hotmail.com