سفراء من نوع آخر

منذ 2016-02-24

ومما يُذكر ويُشكر وجودُ بعض البرامج والمشاريع الجادّة التي تحتضن هؤلاء السفراء، وهي وإن كانت في البدايات إلا أن المبشّرات التي تحملها كثيرة، ومما يُبهج النفسَ أنها تجد الدعم من الجامعات، بل ومن أكبر مسؤول على رأسِ الهرَم.

كنتُ مرةً في زيارة لجمهورية تنزانيا قبل نحو ستة عشر عامًا، ولقيتُ في تلك الرحلة عدداً من خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وجرت بيننا أحاديثُ متنوعة، خرجتُ منها بقناعة تامّة، وهي عِظَمُ أثَر احتضان بلادنا لأمثال هؤلاء الطلاب، الذين يُمضون في دراستهم أربع سنوات على الأقل، وكثيرٌ منهم قد يَصِل إلى سبع سنوات، إذا ما حسبنا سنوات تعلُّم اللغة العربية في المرحلة الثانوية، وبعضُهم قد يتجاوز العشر، إن كان من طلاب الدراسات العليا.
لاح لي شريطُ الذكريات التي عشتُها في تنزانيا يومَ الجمعة الماضي، وأنا أستقبل عدداً من طلاب المنَح، الذين يَدرسون في جامعة الملك سعود، وكانوا من نحو عشر جنسيات من آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، ومنهم طلابٌ من جمهورية تنزانيا.
هذا النوع من الطلاب، ليسوا طلاباً يدرسون ثم يغادرون، بل هم أكبر من ذلك بكثير، إنهم سفراء لنا في دولهم حينما يعودون إليها.
لقد لمستُ في رحلتي لتنزانيا وغيرها من دول العالم الإسلامي أن هذا النوع من الطلاب يؤدّون دوراً في بيان حقيقة وواقع بلادنا كما رأوها، لا كما سمعوا عنها، ولا كما يتحدث عنها الإعلام، كما أنهم خيرُ من يدافع عن بلادنا إذا ما اتُّهمت في مناهجها وعقيدتها، ولا ريب أن دفاعهم أبلغ أثراً مما لو ما قام به مواطنون من نفس البلد.
وثمة شيء أكبر من هذا، وهو أن نقل هؤلاء الطلاب للمنهج الصحيح، والعلم المؤصل؛ يؤتي ثمارَه على المدى البعيد أكثر من دورةٍ علميةٍ عابرة، أو زيارةٍ مؤقّتة لشيخ أو أستاذ زائر في جامعة أو معهد، فابنُ البلد أعرف ببلده، وأصبر على لأواء قومِه وبني جلدته، وأخبر بتفاصيل الواقع من غيره.
ولأجل هذا الأثر الذي يُحدِثه استقطابُ طلاب المنَح؛ دأبت بعضُ الدول التي تحمل أفكاراً ومذاهبَ منحرفة مثل إيران على استقطاب آلاف بل عشرات الآلاف إلى قُمْ أو النَّجف، أو غيرها من المدن التي تَنشط فيها مدارُسها الدينية، فآتت هذه الاستضافات أهدافَها التي خطَّط لها واضعوها!
ونحن أهل السنّة أولى بهذا وأحرى، وأحق وأجدر، ليس فقط لتحقيق الجانب الذي أشرتُ إليه؛ بل لكي نُسهِم في زيادة الوعي الصحيح بشريعة الله، وبيان المنهج الحق، ونفي البِدَع والضلالات التي يَسعى لنشرها أعداءُ السنة، الذين لا يقتصرون على مجرد نشر البدعة، بل يهتبلون هذه الفرصة لشحن النفوس على بلاد السنة، وتسييس هذه المنح الدراسية، وتسخيرها لخدمة الأجندة التي تحملها تلك الدولة، وما أندونيسيا ونيجيريا ـ وهما من أكبر الدول الإسلامية عدداً في السكان ـ إلا شاهدٌ على استثمار إيران لهذه المنح في تحقيق مبادئها.
لذا؛ فإن الحرص على البرامج المصاحبة لدراسة هؤلاء، التي تزيدهم وعياً وبصيرةً بالمنهج الحق، وتُبَصّرهم بخطر الأعداء {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، وإقامة الدورات التي تكسبهم المهارات اللازمة لبناء شخصيتهم العلمية، والمهنية، والتقنية، والدعوية، كلُّ ذلك من الأهمية بمكان.

ومما يُذكر ويُشكر وجودُ بعض البرامج والمشاريع الجادّة التي تحتضن هؤلاء السفراء، وهي وإن كانت في البدايات إلا أن المبشّرات التي تحملها كثيرة، ومما يُبهج النفسَ أنها تجد الدعم من الجامعات، بل ومن أكبر مسؤول على رأسِ الهرَم.

وأرى أن مِن أهمّ ما يجب غرسُه في نفوس هؤلاء الطلاب: تربيتُهم على التجرد لله، والصدقِ معه، وتركِ حظوظ النفس، ومعرفةُ فقه الاختلاف، وكيفيةُ التعامل مع النوازل، والتفريق بين الثوابت والمتغيرات في الشرع، وتدريسهم فقه الدعوة والسيرة في المرحلتين المكية والمدنية؛ حتى إذا ما عاد إلى بلده وإذا هو يَبني ولا يَهدم، يُقوّمُ ولا يقاوم، يُصلِح ولا يُفسِد، لأن غياب هذه الأمور التي أشرتُ إليها قد يخرّج طلاباً يحملون الغيرة لكن تنقصهم الحكمة، فيسلكون طريقاً مجافيًا للحكمة، قد يترتب عليه من المفاسد والآثار السلبية على الدعوة وأهلها ما يحتاج معه إلى أشهر أو سنوات لكي يُرمّم الصدع الذي أحدثه، وهو لم يؤتَ من سوء قصد، لكن من سوء تصرُّف، وقِلّة فقه بالشرع وبالواقع.

وبالجملة، فإن العنايةَ بهؤلاء الطلاب، وإتاحةَ المجال لهم للتعلم؛ مما ينبغي دعمُه وتشجيعُه، وإعدادُ البرامج المصاحبة، التي يتحقق بها المقصود الأعظم من تعلّم هؤلاء، وإلا فإننا نخشى أن يكون العلم ـ الخالي من الحكمة والرشد ـ سبباً للبغي، كما قال تعالى عن أهل الكتاب: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19].
 

عمر بن عبد الله المقبل

الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.