المتحولون بين التميّز المعرفي والخذلان العملي «أبو حفص رفيقي» نموذجا
كتبت سيدة من مصر مستفهمة في عفوية وذهول قائلة: «كنت أتحدث عبر الإنترنيت مع شخص تعرفت عليه على أنه داعية ديني ودارس للفقه وعلوم الدين، وكان حديثنا كتابة فقط ولا شيء غير ذلك، وكنت أسأله وأستفسر منه في بعض الأمور الخاصة بديننا الحنيف وما إلى ذلك، ثم انقطعت فترة كبيرة عن الإنترنيت لأعود وأرى المفاجئة!
وجدت هذا الشخص قد تحول إلى النقيض تماما واتجه إلى الإلحاد بل إنه أنشأ موقعا خاصا يتطاول فيه هو ومجموعة من ضعاف النفوس على الذات الإلهية مما صدمني بشدة... فكيف لإنسان كان بمثل هذه التقوى وهذا العلم أن يتحول إلى النقيض بهذه الطريقة؟؟؟». انتهى كلامها نقلا بغير تصرف.
لا شك أن استفسار السيدة واستفهامها الذي ذيلت به حكايتها والذي خرج من دواخلها متدثرا بهالة من الذعر والاستغراب له ما يبرره، كما له ما يجعلنا نتماهى معه بعين الاستغراب والذعر فإنها ولا ريب مآلات قاسية محزنة ونهايات وقعت من حيث لم ولا نحتسب.
وربما صاحب الكثير منا هذا الذعر والاستغراب كردة فعل طبيعية مع حالات يمكن تصنيفها تحت ودون وأضعف حدة من مثل هذا الانسلاخ والارتداد المفضي لجاهلية الإلحاد، ونعني بها حالات تحول بعض الوجوه المستمرئة الظهور والتي كانت محسوبة بثقل وقوة انتساب إلى منهج السلف، ثم حصل أن تحولت -إن سلم التعبير- في غير روية وإلى غير صوب أو وجهة، اللهم الوقوف على حقيقة أنها صارت سيفا مسلطا على ما تبنته ونافحت عنه ودعت إليه في غلظة وجفاء حتى الماضي القريب.
ويحضرني في هذا المنعطف مثالا لا حصرا حالة محمد عبد الوهاب رفيقي المكنى بأبي حفص، ولا شك أنها حالة سجل فيها التحول والانسلاخ شرخه ووقّع بالنبس والمداد والحضور الصادع بحمولة الاستحالة في غير تقية ولا مداهنة ولا تدرج إقعاد، بل جاء وكان مشفوعا بقرائن تحكي في غير غموض ولا غبش درجة هذا التحول كما تقيس أبعاد ومسافات سيره وتوغل مذهبه البعيد في طنب الوحل ودرن الرعونة.
وليس المرء معنيا بالوقوف طويلا مع حالة الرجل كما وقف البعض بإغراق مخل ممن ظل حبيس الصدمة الأولى غير مستوعب ولا مقتنع بما حصل للشيخ المشاغب حتى الأمس القريب، والذي للإشارة لا زال يحمل في طي إرثه الدعوي وسجله الوعظي وزر من يقبعون إلى الآن وراء القضبان في السجون المغربية من خيرة الشباب؛ من مريدي خطبه الساخنة في بداية الالتزام وشدة استهلاله الأول؛ من الذين ثبت للجهات الأمنية من قريب أو بعيد تورطهم في همّ أو عزم أو تخطيط اعتداء كان حالّا أو وشيك الحلول أو حتى سرابي الوقوع، والذين لم يستشرفوا ولم يتوقعوا ولا كان ليخطر ببالهم مستقبل ومآلات ما كان الشيخ يدندن حوله من أفكار ومحددات لفلسفة توبته التي تضمنها كتيّبه وليد زنزانته الانفرادية المعنون ب «مراجعات لا تراجعات» إذ تبين لهم ولغيرهم بعد حين من تنفسه ريح التحرر لا الحرية أن الأمر كان جعجعة طحينها «تراجعات لا مراجعات» وترادف انتكاسات في غير حياء ولا مروءة.
وإن كان الواجب يملي في غير رجم ولا ارتجال شعور ملاحظة بوادر هذا التغيير وقراءته مبكرا من خلال ما كان ينفثه من دروس داخل سجنه حكم عليها الفضلاء لما خرجت وتسرب ضجيجها على أنها لا تفرق عن الرفض؛ بل هي عين التشيع ومعاداة منهج أهل السنة والجماعة واتهام تراثه العلمي بالنصب والخروج.
ومع ذلك فليس للمرء أن يتبنى نظرة أو طرحا فيستكبر في غمط على الذين حصلت لهم حالة الوقوف بطول المكث وتملك الذعر والاستغراب، فلربما كان المرء وليس هو الوحيد ممن أُرشد مبكرا بفضل من الله ومنة إلى التفريق والتأكد من حقيقة الانفكاك الواقع بين الدين والتدين وبين المنهج والمنتسب، بله بين الدين كثقافة معرفية مقصورة على ملء الجعبة وشغر النواصي بكثرة الرواية والدراية، ولوك الكلام بعد ذلك في لباقة وحسن بيان، وبين الحصول من عدمه لِلازم الخشية والتقوى والورع والمسابقة في الخيرات والتمسك في غير تذبذب بمبادئ الدين وأصوله.
وهنا يحضرني ملمح من الماضي فأذكر أنني وأنا أتابع دراستي في السنة الأولى من البكالوريا فرع «علوم تجريبية» اكتشفت أن بين زملاء الفصل تلميذا لا يؤمن بوجود الله ولا رسالة محمد عليه الصلاة والسلام ولا نبوة نبي ولا يوم ميعاد ولا ولا ...
وليس الشاهد من سوق هذا الملمح التفصيل في قناعات هذا التلميذ أو الاستدراك على الأسباب التي دفعته للصدع بهذا الاعتقاد في تلك السن المبكرة من الشباب، وإنما المستغرب يومها هو حصول هذا التلميذ على أول وأعلى نقطة في الاختبار الموحد بالنسبة لمادة التربية الإسلامية.
وهو استغراب يحيل على وجه الشاهد الذي جعلني -بعد مرور سنوات واجترار هذا الحدث لمرات- أصل إلى أن التلميذ تعامل مع المادة بتجرد يجعلها في دائرة اهتمامه كباقي المواد الأخرى وذلك كله بعيدا عن حقيقة الشعور وصدق المعتقد، ولأقف ولو بعد حين على حقيقة أن الدين والإسلام على وجه الخصوص لم تكن فيه أو لم تحظ فيه المعرفة والمعلومة الدينية بالقيمة المتقدمة في مقام الاعتبار بالنسبة للنجاة من عدمها، فهي بقياس له فارقه كتلاوة القرآن ومعهود التغني به دون حصول مقصود تدبر معانيه ولازم العمل بأحكامه.
ورحم الله إمامنا مالك إذ قال: «ليس العلم كثرة الرواية ولكن العلم الخشية». وحري بنا التعريج على ذكر موضوع الاستشراق وكيف أن معشر المستشرقين وهم يجولون ويصولون بين معالم المعلومة الدينية الدقيقة في مختلف حقول الشرع عقيدة وفقها وسلوكا وسيرة، لم تزدهم صولتهم ولا جولتهم إلا بعدا عن الحق وكرها لنبي الإسلام الذي جاء في ثنايا محبورهم وصفه «بالعظيم»، ومكرا سيئا بأهله وتنكيلا بالمستضعفين منهم في مشارق الأرض ومغاربها، هو تعريج له وزنه في المساعدة على فك شيفرة التحول أو مُشكَل الاستحالة التي تتزين في غبن بثوب المباغثة، ودراسته بعيدا عن صعق المفاجئة وضبابية الاستشراف الذي يحول دون ملامسة الحق بكل إنصاف وتجرد، فهل كان من المعقول مثلا تلمس المستوى المعرفي عند المستشرق لنحكم بالمباشر على صدق إيمانه وعلو كعب انتسابه فنقول عنه أنه أسلم وحسن إسلامه، ثم بعد ذلك نتكلم عن ارتداده إن صدر منه ما يضاد فكره.
ويبقى أن نقول: أن الغاية من ذكر هذا التحول لم تكن هي الإيغال في شخوصه أو التفصيل فيما له علاقة بالمتعلقات النفسية المحيطة بالمعطى المعرفي والعلمي لديهم، أو تلك المصاحبة لهم منذ بداية التلقي الأول وبعده بقليل ظهور علامات الاختيار الذي حملهم على سلك طريق النهل من التراث المعرفي الديني وصولا إلى مرحلة الخروج به إلى حقل الشغل الدعوي أو الامتهان الخطابي في إطار التوجيه بعنصر القدوة.
وإنما كان الغرض هو رصد الظاهرة من جهة ما تشكله من خطر على نفسية جماهير المقتدين، وكذا الوقوف على ما غاب أو تغيب عن ذهن وأفئدة هذه الجماهير من حالة انفكاك واقعة بين ما هو نظري معرفي وما هو تطبيقي عملي، من شأنها أن تمتص وقع الصدمة وتحمل على الصبر الراشد من أول وهلة، وهي على أي حالة لا نجدها في ما هو ديني فقط بل ما أكثر حضورها في ما هو دنيوي حداثي، غير أنه يظل بمنأى عن النقد والرصد والتحليل ولذلك قد لا يلتفت لوجوده من عدمه؛ كما لا يلتفت لتأثيره سلبا وإيجابا.
وإنه ولا ريب رصد من شأنه أن ينمي وعي الإنسان المسلم، فيجعله في حذر دائم ويقظة معقولة واعية بما يحاك لهذه الأمة في ظل ما تعرفه من صحوة إسلامية مباركة من طرف أعدائها وكيدهم لها بالليل والنهار وميلهم كل ميل لإسقاط مؤسسة القدوة من خلال التفكير في صناعة رموز وقدوات موازية على المقاس المتحكم في أبعاده بحيث يكون لها حظ من العلم والمعرفة وحسن البيان وسحر اللسان، ثم تسليط أشعة نيون الإعلام المتواطئ البئيس عليها كل وقت وحين، بينما تكون في الجانب السلوكي المعلوم عليها متسفلة في كل نقيصة ومقذور.
وقد علمنا من سلفنا في دائرة التأسي والتأثر أن صغيرة الرجل الذي يقتدى به كبيرة، وأن زلة العالم تهلك في سكرتها ووقع مصيبتها الجماهير من العوام والمقلدة والناس أجمعين، وتتردى بترادف أخبارها وحقيقة وقوعها الأمم في مهالك الترك ومهاوي الهلاك والنسيان.
ولا شك أن من ساير السياق نخل كلامه ومواقفه واهتدى على بصيرة من أمره، فعرف أن حالة «التحول» لم يسلم لنا تعبيرها، إذ أن الرمز المصنوع لم يدخل في عباءة طيف المشهور عنه ابتداء حتى يخرج منها، فنتكلم ونطيل الكلام ونجيل النظر في زعم خروجه ذلك، فقد يكون في ماضيه القريب أدى الدور المنوط به والذي اقتضته المرحلة يومها، ثم بدّل الثوب بعد برزخ بين السابق واللاحق ليؤدي طقس دوره المحيّن حالا على أن تترادف دركات الأدوار مآلا نسأل الله الثبات والعفو والمعافاة.
____________________
تحرير طريق الإسلام :
ولا شك أن من ساير السياق نخل كلامه ومواقفه واهتدى على بصيرة من أمره، فعرف أن حالة «التحول» لم يسلم لنا تعبيرها، إذ أن الرمز المصنوع لم يدخل في عباءة طيف المشهور عنه ابتداء حتى يخرج منها، فنتكلم ونطيل الكلام ونجيل النظر في زعم خروجه ذلك، فقد يكون في ماضيه القريب أدى الدور المنوط به والذي اقتضته المرحلة يومها، ثم بدّل الثوب بعد برزخ بين السابق واللاحق ليؤدي طقس دوره المحيّن حالا على أن تترادف دركات الأدوار مآلا نسأل الله الثبات والعفو والمعافاة.
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
- التصنيف: