أوراق في السيرة و الأخلاق - على تخوم حراء
إن شواهد الحياة المحمدية قبل البعثة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يرقب وحيا؛ أو يُعد نفسه لزعامة وأن تلقي الوحي ليس فعلا اختياريا يُعد له الرسل العدة مسبقا بالتحصيل والخبرة؛ إنما هو التدبير الإلهي الذي يُحدد أوان سُطوع شمس الإيمان على ظلمات الجهل والضلال.
تصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بوادر التلقي النبوي للوحي في عبارة وجيزة لا يكتنفها أي غموض؛ سواء في ذهن المسلم الموقن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ أو في ذهن الدارس الأجنبي المقر بالمصدر الغيبي لهذه الرسالة.
ففي صحيح البخاري أنها قالت: "أول ما بُديء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ ثم حُبب إليه الخلاء؛ وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ..حتى جاءه الحق".
إلا أن النظرة العقلية الانتقادية لم تكف حتى اليوم عن النيل من هذا الحدث؛ وصدم الحس الديني بتعليلات واهية غايتها الطعن في النبوة؛ والتشكيك في صلة محمد صلى الله عليه بالسماء!
يمكن إجمالا تصنيف الدراسات الأجنبية التي عنيت بالسيرة إلى صنفين:
- صنف غلب عليه التعصب والتحامل الأرعن على النبوة والرسالة لصدوره عن رهبان وقساوسة(1)؛ لذا تجده حافلا بالأباطيل والاختلاقات التي لا تستند لأي معطى تاريخي أو دليل علمي.
- وصنف ادعى الموضوعية والالتزام بالمنهج العلمي والتاريخي المتحرر من الأحكام المسبقة؛ لكنه وقع في خلل منهجي خطير تمثل في إخضاع وقائع السيرة ذات المصدر الغيبي؛ كالوحي والإسراء والمعراج وغيرها؛ للتفسير المادي المجرد. فانحسر مدلول النبوة أمام مسميات بديلة كالعبقرية؛ والامتياز الذاتي؛ والاستلهام الفريد لتعاليم الأديان السابقة. طبعا لا ننكر وجود دراسات جادة ومنصفة؛ لكنها على ندرتها لم تخل من سقطات مردها إلى الجهل بالعقلية العربية وبالحدود الفاصلة بين العقل والوحي.
وبدورها لم تسلم الكتابات العربية المعاصرة من الانحياز للموقف الغربي؛ ظنا منها أن الجانب المعجز في السيرة النبوية وليد هالات التقديس التي أضفتها المخيلة الشعبية على أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم !
يكشف حديث عائشة رضي الله عنها التدرج في الإعداد الروحي الذي خص به الله نبيه؛ فكانت الرؤى الصادقة إشارة إلهية لبدء ورود الحقائق العليا؛ تلاها اختلاؤه في غار حراء شهرا من كل سنة للتحنث؛ والتفكر في مظاهر الكون.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "في غار حراء كان محمد صلى الله عليه وسلم يتعبد؛ ويصقل قلبه؛ وينقي روحه؛ ويقترب من الحق جهده؛ ويبتعد عن الباطل وسعه؛ حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية انعكست فيها أشعة الغيوب على صفحته المجلوة "(2).
إن بذل سنوات من التأمل في دلائل عظمة الله سبحانه وتعالى؛ ومعاينة ما تضج به مكة من صور الفساد الروحي؛ أضف إلى ذلك ما ترسب في المجتمع العربي من بقايا الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام؛ كفيل بأن يحث كل ذي عقل حصيف على نبذ الوثنية؛ والتماس الحق في غيرها. فكيف بمن اصطفاه الحق سبحانه لتلقي الرسالة؟
إلا أن بعض الدارسين؛ سواء من المستشرقين أو دعاة العقلانية؛ حرصوا على تحليل واقعة الاختلاء هاته تحليلا مراوغا؛ ينفي حدوث الوحي. يعلق الكاتب الفرنسي (إتيين دينيه) على سذاجة هذا الموقف بقوله: "حقا إنه ليدهشني أن يرى بعض المستشرقين أن محمدا قد انتهز فرصة الخلوة هذه؛ فروى ورتب عمله المستقبل؛ بل لقد ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك؛ فوسوس بأن محمدا ألف في تلك الفترة القرآن كله! أحقا لم يلاحظوا أن هذا الكتاب الإلهي خال من أية خطة سابقة على وجوده؛ مرسومة على نسق المناهج الإنسانية؛ وأن كل سورة من سوره منفصلة عن غيرها؛ وخاصة بحادثة وقعت بعد الرسالة طيلة فترة تزيد على عشرين عاما؛ وأنه كان من المستحيل على محمد أن يتوقع ذلك ويتنبأ به؟ ولكنهم في جهلهم بالعقلية العربية لم يجدوا غير ذلك تعليلا لهذا التحنث الطويل" (3).
أما الفرية الثانية التي روجوا لها للتقليل من شأن الوحي فهي تأثره المبكر بتعاليم المسيحية؛ ولجوءه للخلوة في غار حراء لتنسيق معارفه وخلاصة محاوراته مع الرهبان بما يُلائم عقلية المجتمع المكي! وبالتالي لا يعدو القرآن أن يكون طبعة عربية للإنجيل؛ منقحة ومزيدة! وهي فرية تتردد منذ المستشرق يوحنا الدمشقي الذي كان معاصرا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وصولا إلى الباحث والمؤرخ العربي هشام جعيط(4)!
ولإضفاء الشرعية على هذا الطرح؛ سعى كل باحث إلى اختلاق مصدر لهذا التأثير؛ وتغذية الواقعة بمرويات من نسج خياله. فتارة يكون المصدر هو بحيرا الراهب؛ وتارة أخرى ورقة بن نوفل؛ وثالثة غلام نصراني يمتهن الحدادة بأسواق مكة! ومن أعيته الحيلة نسب الفضل للأديرة المنتشرة على امتداد طرق القوافل إلى آسيا!
وقد أفضى بهم القول بهذه الفرية إلى اعتبار الوحي الإلهي مجرد إيحاء داخلي وثمرة تفاعل بين تجربة التأمل والخبرات التي تم تحصيلها في السابق! فيخلص هشام جعيط بعد تحليله لهذه التأثيرات المسيحية المزعومة إلى أن " كل ما اختزنه محمد في ذاكرته؛ سيرجع عن طريق الوحي في حالة الإيحاء الداخلي عن طريق الصوت الداخلي الملهم في فترات الانخطاف؛ والذي اعتبره محمد بكل حماس وحيا إلهيا من الخارج"!(5).
والحقيقة أن هذه الكتابات المتحاملة بشكل سافر على حادثة الوحي تصدر عن عقلين: عقل آثم وعقل قاصر! أما العقل الآثم فلا سبيل للرد عليه؛ لأن حُجب التعصب والمكابرة تصده عن مراجعة موقفه. ولو أمكن ذلك لكان فيما ساقه المنصفون من أدلة وحقائق غُنية له وكفاية.
بينما يُغفل العقل القاصر في اعتراضه على واقعة الوحي ثلاث حقائق أساسية:
* الحقيقة الأولى: أن العقل وحده عاجز عن النهوض بمهمة استكمال رحلة البحث عن الحقيقة العليا لأن قدرته على التأمل والاستقصاء تقف عند حدود عالم المادة. فلزم إذن أن يُؤيد بالوحي الذي يُعرفه كنه الحقيقة. يقول الدكتور محمد شيخاني: "إن الوحي ماهو إلا ري لما في النفوس من ظمأ محرق للوصول إلى الحق؛ وقد أضاء الوحي للجذوة المقدسة في أغوار النفس دروب الحياة الصحيحة لتصل إلى الحق الكامل بأسهل طريق؛ دون أن يتحطم العقل في كثرة افتراضاته دون جدوى. وما كان الوحي إلا رحمة إلهية يشير إلى العقل التائه: هذا طريق الحق" (6) إلا أن هذه العدةالإلهية اختص بها الأنبياء دون غيرهم ليكتمل شرف التبليغ عن الله.
* الحقيقة الثانية: أن الإعداد الروحي للأنبياء يختلف قطعا عما درجنا على مطالعته في سير العباقرة والمصلحين الكبار من جهد معرفي متواصل؛ وعكوف على تحصيل الخبرات؛ وكلف دائم بالخروج من دائرة المحسوس؛ للتحليق بالخيال في آفاق أرحب؛ فما تتطلبه النبوة هو تجريد القلب من الشواغل؛ والهمة من الصغائر؛ والنفس من الانجذاب المفرط لدنيا الشهوات والرغبات؛ لتقوى على النهوض بعبء الرسالة.
ومعلوم أن كل عظيم أو عبقري قُدر له النبوغ في مجال ما؛ فإن ميوله واهتماماته تتكشف منذ الطفولة صوب هذا المجال أو ذاك؛ ثم يسعى إلى تغذية ميوله بالدراسة والبحث. ولوأن العقل القاصر استحضر هذا المعطى عند وقوفه بانزعاج أمام أمية محمد صلى الله عليه وسلم؛ لتورع عن حشد فرضيات سخيفة حول مصدرية القرآن.
* الحقيقة الثالثة: أن في الوجود الإنساني مُمهدات للاعتراف بالنبوة؛ وتلقيها للحقائق العليا من غير وساطة العقل أو الحواس. فالبحث العلمي بعد تحليله للعبقرية وسلوك العباقرة أقر بوجود نفحة إلهية أرقى من القوة العلمية؛ ولايمكن تعليلها بقوانين.
يقول الدكتوربيير جانيه: "العبقرية قبل كل شيء إلهامات؛ وأعني بذلك حالات عقلية لا يستطيع الحس الباطني ولاالذات نفسها أن تدعي أنها تملكها. فهي تحدث على غير علم منا بها؛ ولاتستطيع إرادتنا ان تُوجدها" (7). فإذا كانت العبقرية؛ وهي أرقى مظهر للإبداع الإنساني؛ هبة خارقة للعادة ألا تقوم بذلك شاهدا على إمكان الوحي؛ وتلقي المعرفة الإلهية من غير المنافذ المعهودة؟
أما الشاهد الثاني فهو ما تُظهره الكائنات الحية من سلوك يستحيل أن يُنسب إلى إدراكها القاصر؛ وقد قرر علماء الطبيعة أن هذه المعارف الفطرية لا يُمكن أن تصدر إلا عن إلهام رباني يوجهها لما فيه بقاء نوعها. فإذا صح هذا الإلهام لدى الحشرات؛ وهي أدنى الكائنات؛ أيجوز نفيه عن الإنسان وهو أسمى الكائنات؟!
إن شواهد الحياة المحمدية قبل البعثة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يرقب وحيا؛ أو يُعد نفسه لزعامة وأن تلقي الوحي ليس فعلا اختياريا يُعد له الرسل العدة مسبقا بالتحصيل والخبرة؛ إنما هو التدبير الإلهي الذي يُحدد أوان سُطوع شمس الإيمان على ظلمات الجهل والضلال؛ وإعلان رسالة التوحيد سواء من طور سيناء.. أو تلال الجليل..أو غار حراء!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) :أبرز من مثل هذا الاتجاه القس لامنس في كتابه " مهد الإسلام"
(2) : محمد الغزالي .فقه السيرة .دار الشروق.ط 2. 2003. ص 68
(3) : إتيين دينيه .محمد رسول الله . دار المعارف 1986. ص 107
(4): أنظر : هشام جعيط .تاريخية الدعوة المحمدية ج2 .دار الطليعة .ص 152 ومابعدها
(5) : هشام جعيط .مرجع سابق.ص 155
(6): د.محمد شيخاني. هل محمد عبقري مصلح أم نبي مرسل؟.دار قتيبة .ط2 1995. ص 51
(7) : محمد فريد وجدي . السيرة النبوية تحت ضوء العلم و الفلسفة.الدار المصرية اللبنانية ط1 1993. ص 51
حميد بن خيبش
كاتب إسلامي
- التصنيف: