تأمُّلات أُم - (1) الله أرحم بنا

منذ 2016-03-27

كل أمهات اليوم كنّ بنات الأمس، وغالب بنات اليوم هنّ أمهات الغد، ولكن هل كل من مرت بهذه التجربة حدث لها ما حدث معي؟ أم أن ما حدث معي شيء خاص بي وحدي؟

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

وما ظنكم برب من صفاته أنه أرحم بعباده من والدة بولدها.

كل أمهات اليوم كنّ بنات الأمس، وغالب بنات اليوم هنّ أمهات الغد، ولكن هل كل من مرت بهذه التجربة
حدث لها ما حدث معي؟ أم أن ما حدث معي، شيء خاص بي وحدي؟

هذا السؤال ما برح خاطري منذ زمن طويل، فكم طرحت على نفسي هذا السؤال مرارًا وتكرارًا، وهأنذا أطرحه عليكن عبر هذه الصفحة بعد سنوات طوال ما من يوم فيها إلا ولي فيه مشاعر وأحاسيس وتجارب تعمقت أثارها التي لا تنمحي في شخصي، حتى إنني كلما راجعت ذكريات الماضي البعيد عن شخصي قبل أن أصبح أمًا، أنكر نفسي ولا أكاد أتعرف على شخصي، ويزداد السؤال إلحاحًا على خاطري: تُرى ما السبب؟ وهل هذه التجربة (الأمومة) هي السبب الرئيس في اتساع البون بين أم هانئ قبل الأمومة، وأم هانئ بعدها؟

وأضرب لكنّ مثلاً علِّي أقرِّب به المراد:

عندما وضعت أول مولود لي وكان ذكرًا، كنتُ كثيرًا ما أتأمل ضعفه الشديد -كأي مولود- وهالني ما شعرت به وما تواتر إلى خاطري من أفكار مثلًا:

كان كلما جاع أخذ يصرخ باكيًا يحرك رأسه ها هنا وها هنا فاتحًا فاه على اتساعه يبحث عما يتقوت به عاجزًا -حبيبي- عن ترجمة إحساسه في كلمات قليلة: (أنا جائع) وساعتها خطر على بالي لو أني لا أرحمه، وقررت أن أتركه يصرخ هكذا إلى ما شاء الله، فماذا عساه يفعل؟ سيموت جوعًا؟ لن يستطيع الصراخ طويلاً، بله الحركة للبحث عن قوت، ما أعجز الإنسان هل كنتُ يومًا كذلك؟ لم أستطع تصوّر ذلك، وساعتها حضرني قوله تعالى:  {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:17-18].

هل كل العصاة -وأنا منهم كنا- بهذا العجز يومًا، بغير حول لنا ولا قوة، وضع الله في قلوب أمهاتنا رحمة تجعلها تهرع لجبر عجزنا، وإطعامنا لنحيى وننمو ثم نبارز الله بالمعاصي -كلنا نعلم أننا كنا كذلك ولكن كما قال الحكماء: "ليس الخبر كالمعاينة" حقًا: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}.
هذه واحدة.

وأخرى: 
 حينما كنت أضع عنه ملابسه عندما يقضي حاجته مسرعة لئلا يتأذى -حبيبي- ورد خاطر على قلبي:

ماذا عساه هذا العاجز يفعل إن تركته هكذا لساعات وساعات؟! يبكي ويصرخ متأذيًا لا يستطيع حتى طلب التطهر من القاذورات، منزوع الحول والقوة لا يستطيع البعد والتنزه عنها بجسده، ياالله هل كنتُ يومًا بهذا الضعف؟! تحت رحمة أمي تمامًا أحيا بسبب شفقتها عليّ، واعتمادي الكلي على ما وضعه الله في قلبها من رحمات!!

الحق بكيت لمجرد تخيلي شدة ضعفي وتجردي من الحول التام والقوة، لن أستطيع وصف ما أثارته تلك الخواطر من مشاعر داخلي، غير أني:

1- ازددت حبًا لأمي ما لا أستطيع وصفه، شعرت كم أني مقصرة نحوها، تحرك نبض قلبي حبًا لها، ومن ساعتها
أحاول برّها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وكنت قبلاً شديدة البرّ بها -بزعمي وفي ظني- قبل أن أصبح أمًا، وازداد هذا الشعور ونما في قلبي، كلّما بكَّتُّ ولدي على تقصيره في برِّي؛ معدِّدةً له كم كنت أحبه وأرحمه صغيرًا، و....و.... 

أضف إلى ذلك وصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم له بذلك، ولكن مهلاً لحظة: هنا يأتي سؤال تَوَلَّد عن السؤال السابق:
لِم أتوقع من أبنائي أن يبروني ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، بينما لا أفعل نفس الشيء بنفس القوة وبهذه الكيفية مع أمّي؟

- وهنا عرض لخاطري قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففون:1-3]، لم يخطر لي على بال -قط- أنني منهم، كيف وأنا الملتزمة -بزعمي- حاشا لله أنا من المطففين؟ ولكن مهلاً يبدو أني واقعة فيه من حيث لا أدري!! أليس كذلك؟!

هنا حدثت نفسي لا بد من وقفة مع النفس لا بل وقفات، والله المستعان.

2- هنا علمت بل شعرت -بكل كياني- بمعنى حديث عمر بن الخطاب حيث قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه طارحة ولدها في النار». قلنا: "لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه"، فقال: «الَله أرحم بعباده من هذه بولدها» (البخاري، صحيح البخاريب، رقم: [5999]).

ساعتها فقط علمت -نعم كنت أحفظه وأعرف معنى ألفاظه الظاهرة، ولكن إحساس المعنى بالقلب شيء آخر- لماذا ضرب رسولنا الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه- المثل للصحابة برحمة الأم؛ ليقرب لهم التصور لرحمة أرحم الراحمينِ، حيث من رحمته أنه جعلها رحيمة وأي رحمة! رحمك الله يا أمي حية وميتة، وما ظنكم برب من صفاته أنه أرحم بعباده من والدة بولدها، بل وكتب سبحانه على نفسه الرحمة وهو الغني عن العالمين، ما أجملك من رب وما أعظمك من إله.

ومما زادني فخرًا وتيهًا ****وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي****وأن صيرت أحمد لي نبيا

وحتى لا أطيل عليكم: هذا مثال واحد للتغير في سمت شخصي، فهل استطعت تقريب المراد؟
ولعلي أذكر لكم قريباً، تأملاً آخر لموقف آخر.

والله أسأل أن يرحمنا برحمة من عنده، يجبر بها تقصيرنا في عبادته، إنه الغني ذو الرحمة. 

 
المقال التالي
(2) حب الأبناء