مأساة السجينة رقم (650)

منذ 2010-03-01

نموذج لإهانة المرأة في الدول الغربية الديمقراطية..



كانت صرخاتها تصخُّّ آذان حراس السجن، ولكنهم لم يكونوا من الذين ترقُّ قلوبهـــم عنــد سماع أنيــنٍ أو توجُّــعٍ أو صراخ، وطال عليهم العهد بمثل هذه الأمور فلم يعودوا يعبؤون بها، وقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
كان السجن للرجال وليست فيه امرأة واحدة غير هذه المسكينة التي ساقها القدر إلى هذا المكان القاسي. كانت إذا ألجأتها الضرورة إلى الذهاب إلى الحمام لم يكن أمامها إلا الحمامات التي يستخدمها الآخرون وهم كلهم رجال، وحمامات السجون - كما هو معروف - ليست لها أبواب. وكان الحراس يتسلّون بها في لياليهم الباردة بكل فعل شيطاني يخطر على فكر أكثر الناس انحلالاً. إذا خلت إلى نفسها كانت كثيراً ما تتساءل: ماذا فعلتُ حتى أستحق كل ما يحدث لي؟!


قضت الدكتورة (عافية صدِّيقي) زهرة حياتها في أمريكا تتعلم في جامعة (ماساتشوستس للتكنولوجيا) حتى تخرَّجت طبيبة متخصصة في علم الأعصاب، وهو تخصص نادر، ثم عادت إلى وطنها (باكستان) لتخدم بلدها وتساهم في التخفيف من آلام الشعب الباكستاني المسكين الذي تتوالى عليه المصائب من حكَّامه العسكريين والمدنيين؛ المنتخَبين والمفروضين عليه؛ فالشعب الباكستاني هو آخر ما يفكر فيه حكَّامه.


عاشت الدكتورة (عافية صدِّيقي) عيشة هادئة بين أُسرتها وعملها، وتزوجت، ولكن زواجها لم يستمر طويلاً؛ فقد طلَّقها زوجها الدكتور (أمجد)، بعد أن رُزقت منه ثلاثة أولاد بقوا في رعايتها. وفي يوم من أيام صيف عام 2003م سافرت من (راولبندي) حيث مقر عملها إلى (كراتشي) لتزور والدتها وأختها، وبعد انتهاء الزيارة خرجت من بيت أمها تقلُّها سيارة أجرة لتوصلها إلى المطار، ولكنها لم تصل، ولم يعلم عنها أحد شيئاً حتى أهلها؛ فقد اختفت مع أولادها الثلاثة، وكان عمر أكبرهم أربع سنوات، وأصغرهم لم يتجاوز الشهر الواحد، وحين حاول أهلها السؤال عنها مُنعوا من ذلك؛ فقد اتصلت الاستخبارات الباكستانية بأمهــا وأختهــا - وهما طبيبتان أيضاً - تطالبهما بالتزام الصمت، وبعد فترة حين ألحَّت الأم لمعرفة مصير ابنتها وأحفادها اتصل بها وزير الداخلية آنذاك وهو (فيصل صالح حيات)، ووعدها بعودة ابنتها وأولادها الثلاثة إليها قريباً، ولكنهم لم يعودوا. مضت خمس سنوات ولم يعرف عنها أحد شيئاً إلا ما يقال عن امرأة مجهولة الهوية تعيش حياة بئيسة في سجن (بجرام) في أفغانستان، ولم يخطر على بال أحد أن هذه السجينة البائسة قد تكون الدكتورة (عافية صدِّيقي).


هناك أكثر من خمسمائة شخص اختطفتهم السلطات الباكستانية العسكرية من بين أهاليهم وباعتهم إلى أمريكا. أحد هؤلاء (معظم بيك) الذي أخذه الأمريكان من إسلام أباد إلى سجن (بجرام) في أفغانستان، الذي يعد أكبر معتقل أمريكي في المنطقة. بقي (معظم بيك) في هذا السجن عدة أشهر، وخلال وجوده فيه اعتاد سماع صرخات مؤلمة لامرأة، ورغم انتقاله من هناك إلى سجن غوانتنامو في كوبا إلا أن طنين تلك الصرخات كان يصخُّ أذنيه ويقلقه، وفي عام 2005م وبعد الإفراج عنه قام بتأليف كتاب أسماه (Enemy Combatant) سجَّل فيه كل ما رآه وشاهده من مظاهر الظلم والجبروت الأمريكي، ولم ينسَ أن يذكر السجينة رقم (650) وصرخاتها المتألمة المؤلمة التي كانت العلامة الوحيدة عليها.


قرأت الصحفية البريطانية (يون ردلي) - التي أعلنت إسلامها حديثاً - ما كتبه (معظــم بيك)، ولفــت نظـــرها ما ذكره عن تلك السجينة المجهولة؛ فدفعها حسها الصحفي إلى البحث عن هويتها، وبعد البحث والتحري اكتشفت أنها ليست إلا الدكتورة (عافية صدِّيقي) الطبيبة الباكستانية المتخصصة في علم الأعصاب والتي اختفت من كراتشي في شهر يوليو عام 2003م. أعلنت (يون ردلي) خبرها على العالم؛ فأثارت بذلك الرأي العام العالمي؛ فقام أحد الناشطين في لجنة حقوق الإنسان الآسيوية بمتابعة موضوعها؛ فعرف أنها تعرَّضت خلال وجودها في السجن لأنواع شتى من التعذيب الذي يعجز أقوى الرجال عن تحمُّله، ووصل إلى الاعتداء الجنسي المتكرر عليها من قِبَل الأمريكيين العاملين في سجن (بجرام)، وفيما بعد صرَّح عضو البرلمان البريطاني المسلم (اللورد نذير أحمد) بأن الدكتورة (عافية) تعرَّضت للاغتصاب من قِبَل الجنود الأمريكيين في سجن (بجرام)، كما تعرَّضت لأشد أنواع التعذيب الجسدي والنفسي حتى أصيبت بأمراض نفسية خطيرة فقدت ذاكرتها على إثرها.


كانت السلطات الباكستانية والأمريكية تحاول إخفاء أمر الدكتورة (عافية) وغيرها من الذين سلَّمتهم باكستان إلى أمريكا أو باعتهم لها بثمن بخس دولارات معدودة؛ بدليل أنهم في سجن (بجرام) لم يكونوا ينادونها باسمها، وإنما برقمها؛ لطمس معالم شخصيتها الحقيقية، وبدليل التكتُّم الشديد الذي أحاط عملية بيع هؤلاء، وبدليل منع أهاليهم وأقاربهم من البحث والسؤال عنهم، وبدليل عدم معرفة أحد شيئاً عن مصير الكثيرين منهم حتى اليوم.


وحين ثارت قضية الدكتورة (عافية صدِّيقي) على صفحات الجرائد والمجلات حاولت أمريكا أن تتدارك الأمر؛ فاضطرت إلى البحث عن تُهم توجهها إليها؛ فقامت باتهامها زوراً وبهتاناً بمحاولة نسف مكتب الحاكم الإقليمي في (غزنة) وبمحاولة قتل ضباط أمريكيين في أفغانستان. حقاً إن قصة اعتقالها كما ترويها وكالة الاستخبارات الأمريكية من أغرب القصص. وإليكم تفاصيل تلك الاتهامات: «ادَّعت السلطات العسكرية الأفغانية أنها عثرت على الدكتورة (عافية صدِّيقي) تحوم حول المبنى الذي يضم مكتب الحاكم الإقليمي لـ (غزنة)، وفي جعبتها عبوات ناسفة ومتفجرات وخرائط لمعالم حساسة في الولايات المتحدة الأمريكية، والأغرب من ذلك ادِّعاؤهم أن ابنها الصغير كان معها. وحين دخل ضباط أمريكيون تابعون لوكالة الاستخبارات الأمريكية الـ (FBI) الغرفة التي كانت محتجزة فيها لم يجدوها، فوضــع أحدهم سلاحه - وهو من النوع الثقيل جداً - بجانب الباب؛ فتناولته الدكتورة (عافية) وكانت مختفية خلف الستار بجانب الباب؛ وأطلقت النار منه على الضباط، ولكنها أخطأتهم، ولم تصب منهم أحداً، فقام أحدهم بإطلاق النار عليها، فأصابها بطلقة في صدرها».


كان الإعلام الباكستاني - للأسف الشديد - آخر من اهتم بموضوع هذه المسكينة وأمثالها من المفقودين الذين يتجاوز عددهم خمسمائة شخص. لم يهتم الإعلام الباكستاني بها إلا بعد أن رآها العالم في إحدى محاكم نيويورك وهي تحاكم على تلك الاتهامات المضحكة المبكية الغريبة. حين شُوهدت في المحكمة لم تكن تستطيع الوقوف على رجليها، كانت تستند إلى آخرين أثناء الوقوف والمشي، وكانت تبدو هزيلة وضعيفة، وكان الدم ينزف منها، وآثار التعذيب بادية عليها. قالت أختها الدكتورة (فوزية صدِّيقي) في كراتشي: إنهم عاملوها معاملة قاسية وصلت إلى درجة أنهم أخذوا أجزاء من جسمها ومنها كليتها؛ إمعاناً في تعذيبها، وأضافت أن أختها الآن بين الموت والحياة، وربما تفقد حياتها قريباً إذا لم تسعف بعلاج جدي، وأن السلطات الأمريكية لم تهتم بعلاجها، فموتها أفضـــل من حيــاتها بالنسبة لهــم؛ لأنهــا لو ماتت لدُفن معها سرُّها الذي بدأ يقلقهم، وهذه لعبة المصالح التي تجيدها أمريكا. وحين طلبت الدكتورة (عافية) أن تعالجها طبيبة امرأة رفضوا ذلك بحجة عدم وجود طبيبات نساء!


الحقيقة التي تحاول أمريكا أن تخفيها هي أن الدكتورة (عافية) كانت من المطلوبين لديها لعلاقتها بالقاعدة، ففي شهر مارس عام 2003م - أي: قبل اختفائها بأربعة أشهر تقريباً - عرضت القنوات التلفزيونية الأمريكية صورها متهمة إياها بأنها أخطر أعضاء القاعدة، إلى جانب صورة (خالد الشيخ محمد).


لِمَ انتظرت أمريكا خمس سنوات حتى توجِّه إلى الدكتورة (عافية) تلك الاتهامات الملفَّقة؟!
لِمَ بقيت هذه المسكينة خمس سنوات في سجن (بجرام) الأمريكي دون أن توجَّه إليها أية تهمة؟!
لِمَ تعرَّضت لكل هذا التعذيب الوحشي الذي لا نجد له نظيراً في العالم؟!
لِمَ لَمْ تُتهَم بعلاقتها بالقاعدة وتُقدَّم إلى المحاكمة؟ أم أن هذا الاتهام لا يُعتَدُّ به في عُرْف القانون؟!
لِمَ لَمْ تُعالَج على الرغم من وضعها الصحي المتدهور، وهي في نيويورك أكثر مدن العالم تحضُّراً؟!
أين الرأي العام العالمي الذي يقوم ولا يقعد إذا تعرَّض حيوان في آسيا أو أفريقيا لسوء؟!


أين دعاة حقوق الإنسان؟! أم أن الباكستانيين ليست لهم حقوق؟ أم أنهم ليسوا من البشر؟ نعم! حاول حكَّامنا أن يثبتوا ذلك ببيع شعبهم، ولكن أين الشعب الباكستاني صاحب الغيرة على نسائه؟ كم سمعنا بالقتل من أجل الغيرة على البنات والأخوات والأمهات؛ فأين الغيرة على بنت باكستان ورمزها الدكتورة (عافية) التي باعتها حكومتنا المتكفِّلة بحمايتنا؟!


لماذا لا تتحرك الحكومة الباكستانية الحالية المنتخبة من قِبَل الشعب الباكستاني بعد أن ولَّت الحكومة السابقة التي باعت أبناءها لأعدائها، وولَّى رمز النظام الدكتاتوري الحاكم الذي داس على كرامة الشعب الباكستاني لأكثر من تسع سنوات؟ لماذا لا تتحرك بشكل جدي وتطالب بإعادة الدكتورة (عافية) إلى وطنها لتحاكم في باكستان إذا كانت متهمة بشيء؟


نحن كلنا مسؤولون عنها أمام الله {وَإذَا الْـمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: ٨ - ٩].
كان الخليفة العادل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو في المدينة يخاف أن يسأله الله - سبحانه وتعالى - عن بغلة تعثرت في العراق: لِمَ لَمْ تمهِّد لها الطريق يا عمر؟!


حين كنا خير أمة كنا نفتح بلاداً ونعاقب جبابرة من أجل صرخة واحدة لامرأة مظلومة، أين أصبحنا اليوم؟ كرامتنا تُداس وعرضنا يُدنَّس وبناتنا تُباع، ونحن نقف مكتوفي الأيدي لا نحرك ساكناً.


لكِ الله يا (عافية)، وحين أراكِ أرى فيك أختي فيتمزق قلبي ألماً وحزناً، ربما لا تعرفين حتى الآن أن أمك فقدت حياتها حزناً عليك. لم يكن لك ذنب إلا أنك اخترت طريق الالتزام بشرع الله، والسير على منهجه وارتداء الحجاب الذي يزعج الغرب؛ وخاصة منك أنت التي تخرَّجت من أكبر جامعاته في أمريكا؛ فكان المفترض أن تنقلبي على دينك وعلى أهلك وعاداتك وتقاليدك الإسلامية؛ ولكنك بدلاً من ذلك آثرت أن تكوني مسلمة حقيقية وباكستانية متمسكة بالشريعة الإسلامية.

المصدر: د. محمد علي غوري - مجلة البيان