بعد عام من استشهاد أبيه .. براء نزار ريان للمسلم : لم يتلق أبي إنذاراً بقصف المنزل قبيل استشهاده

منذ 2010-04-07

رجل بألف رجل، حمل على عاتقه الدعوة إلى الله في كل الميادين، كان عالماً وفقيهاً ، مجاهداً ومرابطاً ، مربياً ومعلماً ً، زوجاً وأباً ، لم يقابله أحد داخل أو خارج فلسطين إلا وترك في قلبه بصمة رائعة، قدم ابنه شهيدا لله تعالى، وانتظر الوقت بفارغ الصبر حتى


رجل بألف رجل، حمل على عاتقه الدعوة إلى الله في كل الميادين، كان عالماً وفقيهاً ، مجاهداً ومرابطاً ، مربياً ومعلماً ً، زوجاً وأباً ، لم يقابله أحد داخل أو خارج فلسطين إلا وترك في قلبه بصمة رائعة، قدم ابنه شهيدا لله تعالى، وانتظر الوقت بفارغ الصبر حتى يلقاه ...


هو الشهيد البطل - نحسبه كذلك ولانزكيه على الله - الدكتور نزار ريان ، الذي استشهد في معركة الفرقان العام الماضي وكان لموقع المسلم هذا الحوار مع ابنه براء :

- اهتم الدكتور الشهيد بالعلم والدراسة وكثيراً ما كانت تذكر والدتكم - أم بلال رحمها الله - أنه أورثكم - خاصة ابنه براء - هذا العلم ... كيف يكون دوركم أنتم لنقل هذه العلوم الشرعية لأبنائكم بعد ذلك؟
نحن - وغيرنا الكثير من تلامذة الوالد- نعتبر أنفسنا بعض أعماله، وجزءًا من جهوده، لذلك كان من الوفاء أن نخلص لدربه العلميّ ونسعى لمواصلته، فنحن نحرص على تربية أولادنا على حبّ القرآن، وتعلّمه وحفظه، ونعزز فيهم حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وفي اللحظة التي نراهم أتقنوا القراءة والكتابة سنبدأ إن شاء الله في تعليمهم علوم القرآن الكريم والسنة المطهّرة ليكونوا على الدّرب.
ثم إن الإخوة الكرام في الجامعة الإسلامية أخلفوني مكان الوالد في التدريس، فأنا لا أفتر عن ذكره في المحاضرات، والاستنارة بما سمعت منه من فوائد لا تحصى.

- كان لأخيكم الشهيد إبراهيم مكانة كبيرة عند والديك ... وذكرت لي أم بلال رحمها الله ذات مرة أنه كان مع أحد أخوته والذي كان يقول أنه لا يريد أن يتزوج من نساء الدنيا وينتظر الحور العين، فرد إبراهيم أنه غيره لأنه يريد أن يتزوج من نساء الدنيا للتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم وإعمار الدنيا ... لكن الله كتب له الشهادة قبل أن يتزوج ... حدثنا عن الشهيد ابن الشهيد.- نحسبهم جميعا والله حسيبهم -
إذا تحدثت عن شهيد بدأت بأول موقف رأيته فيه، وتعرفت عليه من خلاله، لكن إبراهيم الشهيد -رحمه الله تعالى- لا أذكر كيف التقيت به، إذ أنني فتحت عيني في هذه الدنيا لأجده يقاسمني الفراش الواحد، ثم الغرفة الواحدة، ثم الشقة الواحدة، إلى أن رحل، فقد ولد رحمه الله، لأسرة ملتزمة في وقت كان الالتزام فيه نادرا، لوالد ووالدة زرعا فينا حب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله منذ اللحظة الأولى التي بدأنا نفهم فيها الكلام، وننطق بالحروف، بل قبل ذلك.
علمنا أبي الشهيد أن الذي بيننا وبين اليهود عقيدة، فانغرس هذا في وجداننا جميعا، وأصبح غاية كل منا أن يكون مجاهدا في كتائب القسام، يحب أن يلقى ربه شهيداً، كانت هذه أحلام حتى هلت بركات انتفاضة الأقصى.

في سنوات الطفولة، كنا -نحن الثلاثة الكبار بلال وإبراهيم وبراء- جيلاً واحداً، فبين كل منا والآخر أحد عشر شهرا فقط.. وكان أخي الأكبر بلال يتميز بقوة شخصيته ورجولته المبكرة، بينما كان يتميز الشهيد بعاطفته الجياشة وطيبة قلبه وحبه للخير ورقته وكان شهماً في حين تميزت أنا بالذكاء والتفوق والبراءة .

في الانتفاضة الأولى، كنا وإبراهيم صغارا، رجمنا اليهود بالحجارة ونحن دون السادسة من العمر، لكن ذلك لم يكن ليشفي غليل ضعاف الهمة مثلي، فكيف يشفي غليل إبراهيم رحمه الله .
 
كانت انتفاضة الأقصى فرصة ذهبية، ولم يكن والدنا يمنعنا -كما كان الكثيرون- من الخروج إلى المواجهات، فطفنا على جميع مواطن المواجهات من إيريز إلى نتساريم، لم يقدر لأحد فينا أن يستشهد، وقدر لإبراهيم أن يكون أول مصاب في بيتنا.

كانت الانتفاضة تتطور بسرعة، ورغم أن حماس لم تكن تمتلك في بداية الانتفاضة إلا ثلاث قنابل ومسدس، إلا أنها بعد أشهر كانت قادرة على تجنيد بعض العساكر، فكان إبراهيم الشهيد رحمه الله في الفوج ما قبل الأول من جيل قساميي انتفاضة الأقصى. لم يكن قد بلغ السادسة عشرة بعد، لكنه كان قويا شديد البأس شجاعا فارسا.

كان رحمه الله رقيق القلب، وكان يحب الحياة من كل قلبه، لم يكن والله عاشقا للموت، كان يخطط للدراسة والزواج، وكان حتى آخر يوم في حياته يعيش طبيعته، قبل يومين من استشهاده اتفق مع إخوانه على حلقة دراسة، وفي آخر يوم في حياته ذهب إلى مدرسته والتزم بحصص الدراسة الأولى، إلى أن جاءه الاتصال فخرج بإذن رسمي. لم يكن إبراهيم الشهيد إلا إنسانا، لم يدفعه إلى الموت إلا رغبته في رضى ربه، والانتصار لقضية فلسطين العادلة.

- كيف كانت اللحظات الأخيرة لاستشهاده في البيت ؟
لقد عايشت اللحظات الأخيرة في حياة كثير من الاستشهاديين الأحياء، وكنت والله أعلم أنهم يخرجون للموت، كنت أستهلك كل ذرة في عقلي وتفكيري لأحاول أن أفهم ما يدور في خلد كل منهم في ساعاته الأخيرة، لكن ذلك صعب جدا، لكنني لم يصعب علي أن أفهم أنهم يحبون الحياة، ولا يكرهون أن يتم أحدهم دراسته ويتزوج وينجب الأطفال، لكن الشهادة كانت فوق كل شيء، إنها أكبر مكسب حقا. وكان يعجبني والله ذلك منهم.

تحدثنا جميعاً عن رغبتنا في الاستشهاد، لكن إبراهيم كان الأمر بالنسبة له فوق الجدّيّ، وأرسل لإخوانه يرجوهم بكل وسيلة، يستحلفهم بالله، ويبكي لهم. لم يكن أمامهم إلا الاستجابة له، بعد تدخل والدي حفظه الله لصالحه، ولم يطل الأمر على إبراهيم حتى وُجِد الهدف، فأُخذ ودُرِّب، وتم التجهيز لعملية كانت أول عملية اقتحام لمستوطنة في انتفاضة الأقصى.

كان كل من في بيتنا يعلم أن إبراهيم خارج لعملية استشهادية، كنا جميعا تيقنا من ذلك، بما في ذلك الوالدة، التي كانت مشجعة له ولغيره، وكانت -رحمها الله - أول خنساء في تاريخ فلسطين، ترسل ابنها إلى الموت وهي به عالمة. ولم يسبقها إلى ذلك أحد فيما أعلم.

خرج إبراهيم إلى عمليته ثلاث مرات، في المرتين الأوليين كان رحمه الله يعود ويحدثنا عما حدث معه، وعندما عاد في المرة الثانية، كنت قد بت ليلتها مهموما.. وسهرت بانتظار خبر شقيقي. لكنه لم يستشهد .. بل عاد عند الفجر، وحين رأيته.. أقسم بالله أنني قلت كلمة لا أشعر إلا وكأنها ألقيت في فمي، قلت له: "لسة مش مستشهد.. بديش أسلم عليك" فلما سمعها إبراهيم.. أشرق وجهه، وارتفعت معنوياته إلى أعلى مستوى، وابتسم ابتسامة ساحرة، رغم ما كان يبدو عليه من مشقة وتعب.

لم يلبث إلا أن خرج في اليوم الذي يليه، وفي ذلك اليوم كان موعده مع الشهادة، استمرت المعركة أربعة ساعات ونصف على الأقل، وما أن ذاعت محطات الأخبار نبأ استشهاد منفذي العملية ومن ضمنهم إبراهيم، حتى سمعت زغرودة مدوية، لم أكن أسمعها فقط، بل والله لكأنني أنظر إليها تضرب الجدران ، وتطوف على آذاننا وتتردد، لا أكذب إن قلت: إن زغرودة والدتي لحظة استشهاد إبراهيم لا تزال ترن في أذني حتى الآن.

ثم علا البكاء والنحيب، وكلنا بكى سوى والدي كان يثبت القلوب ويجبر الكسور، جزاه الله عنا خير الجزاء، وبفضل الله كانت العملية ناجحة فوق الحدود، وقال شارون يومها: إنها ليلة مرعبة.

تسلمنا الجثمان وفوجئت بشقيقي، ممددا بينهم، جثمانا نهشه الرصاص نهشا، حينها بكيت.. بل أقسم أنه لو جمعت دموعي كلها قبل استشهاده ثم وزنت بما نزفته حينها لعادت ضئيلة. بكيت ومسحت على رأسه، فصادفت رصاصتين كانتا مختبئتين في مقدمة شعره. فازداد بكائي، عندما استشهد، كانت يده على هيئة التشهد بشكل واضح جدا.

بقي أن أذكر أن لإبراهيم الشهيد أربعة إخوة شباب غيره، كلهم أصيب في سبيل الله إلا أنا، أحدهم كاد يفقد رجله، وعانى من عدم المشي عليها أكثر من عامين، وثان أصيب أكثر من خمس مرات بالرصاص الحي، ويحتفظ بقطعة من البلاتين في يده بطول عشرين سم، والثالث الصغير - رحمه الله - فقد عينه في سبيل الله.
 
- كثيراً ما كان يتحدث أخوكم الصغير غسان عن رغبته في الجهاد والاستشهاد حدثنا عن حالة هؤلاء الأطفال - الرجال - في فترة العدوان الأخير على غزة والذي استشهدوا جميعاً خلاله.
كان غسّان مجاهدًا بحق، وكان مميزًا على مستوى الكتيبة التي كان فيها منظّمًا، ورحلته الجهادية بدأت في طفولته، إذ كان يشارك في فعاليات الانتفاضة، ورجم الصهاينة بالحجارة، وقد أصيب خلال ذلك برصاصة في ركبته، ثمّ شارك في عملية فك الحصار عن المجاهدين المحاصرين في مسجد النصر في بيت حانون، وفقد فيها عينه اليسرى، بت عنده ليلة فقد عينه، فقال لي: أتدري يا براء.. لما شعرت بحرارة الطلقة في عيني، بم فكّرت؟! قلت له: بأي شيء؟ قال: قلت: يا الله .. كيف سأقنص الآن؟ ثم تحسستها فإذا هي اليسرى، فقلت: الحمد لله.. الآن أقنص دون أن أحتاج لإغماض عيني! كان إذ ذاك في الرابعة عشرة..

- هل تعتقدون أن الدكتور الشهيد كان يعلم بتوقيت قصف منزله ولذلك جمع كل زوجاته وأولاده وبناته الصغار - من كل الزوجات - في بيت واحد في هذا التوقيت ؟
لا، لم يكن يعلم بذلك ... فقد كان والدي كان في البيت هو وسائر الأهل، يعيشون حياتهم الطبيعية، والدي لم يُبلغ بقصف المنزل، واليهود باستهداف الوالد والعائلة بأكملها كانوا يهدفون لمجزرة يرعبون بها الناس ويسترهبوهم، فكان اليهود يستطيعوا استهداف الوالد لوحده دون أن يقتلوا النساء والأطفال، فكان والدي يخرج لأداة الصلاة في المسجد في كل أوقاتها، فلو انتظر اليهود ربع ساعة موعد صلاة العصر لتمكنوا من استهدافه منفردا، وكان يخرج في المسيرات وفي تشييع جثامين الشهداء، و يلف على المحلات والدكاكين والأسواق يثبت الناس، وكان يمشي في الشوارع من غير أي حراسة، فكان اليهود يستطيعون استهدافه لوحده، لكنهم أصروا على ارتكاب هذه المجزرة البشعة، والتي تنكرها كل أعراف وقوانين البشرية.

- يعتقد البعض أن استشهاد معظم كوادر حركة حماس - القادة - بمثابة بداية انتهاء الحركة ؟ ما ردكم على هؤلاء؟
لو كان استشهاد قادة حركة المقاومة حماس نهاية لهذه الحركة الغراء، لانتهت باستشهاد الشيخ أحمد ياسين مؤسسها، وباستشهاد أبرز قيادييها أمثال الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وغيره من القادة العظماء، ولكن هذه الحركة المِعطاءة عوَّدت الناس على جودها وبذلها قادتها في سبيل الله، وهي حركة قامت من أجل نصرة دين الله، ومَن يستمد قوته من الله عز وجل، كيف له أن ينتهي، إننا دماء قادتنا الشهداء وقودا نشحذ به الهمم، ونُعلي به رايتنا، ومُخطئ من ظن يوما أن حماس ستنتهي باستشهاد قادتها، بل هي باستشهاد قادتها ترسخ نفسها في قلوب الناس وعقولهم، ويلتف الناس حولها أكثر.

- يتساءل الكثيرون عن أسباب اختلاف اهتمامات ورؤى وطموحات الشباب العربي عامة وشباب فلسطين المجاهد خاصة، هل ترجعون هذا إلى طبيعة التربية أم أن هناك سبباً آخر؟
البيئة التي ينشأ فيها الإنسان تلعب دورا كبيرا في تشكيل شخصيته، والتربية تصقل هذه الشخصية وتحدد معالمها، فشباب فلسطين أبصروا النور على أرض تقبع تحت الاحتلال وتعاني ظلمته وقسوته، فظلت عيونهم ترقب بكل الأمل فجرا جديدا يغير هذا الواقع المؤلم، ينتظرون يوما تشرق فيه شمس العزة والكرامة، فالإنسان من غير كرامته لا قيمة له، فشباب فلسطين شباب يصنعون كرامتهم، كيف تتوقع من شباب فقدوا الآباء والأهل والأحباب، كيف سيكون هؤلاء؟
لكن من نعمة الله على شباب فلسطين أن سخر الله لهم حركة إسلامية تحتوي هذا النشء، وتقومه وتضعه على الدرب السليم، فقالها الشيخ أحمد ياسين: نحن رهاننا على الجيل.
المصدر: موقع المسلم