من مسجد الطين إلى الدرس العالمي
فانبثقت فكرةُ الدورات العلمية المنهجية، التي تُراعي التدرجَ في الطلب، مع طول المدة نسبيًا، على حدّ قول الإمام الزهري رحمه الله: "إن هذا العلم إنْ أخذتَه بالمكاثرة غلبَك، ولم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً، تظفر به" (حلية الأولياء: [3/364])، فصارت الدورةُ تمتد سنةً أو سنتين أو ثلاث، يتلقى فيها الطالبُ متوناً شتّى، ويتخرج بشيء من التكامل في علوم الشريعة، وبعضِ العلوم المساندة لها.
في صيف عام [1405]هـ تقريباً اصطحبني أحدُ طلاب شيخنا العلامة العثيمين رحمه الله إلى درسه في عنيزة، فلم يرُعْني إلا وأنا في وسط جدرانٍ طينية تحيط بالطلاب! وشيخُنا يشرح في عدة كتب، منها كتاب (منتقى الأخبار) للمجد ابن تيمية، وكان ذلك في صيف رمضان اللاهب، وكان عدد الحضور قليلاً! فقفزتْ إلى ذهني تساؤلاتٌ كثيرة، بدّدها جلَدُ الشيخ في تعليم الطلاب، وحرصُه على تنبيه الشارد، وإيقاظ من قد يدبّ النعاسُ إلى عينيه.
مضت السنوات، وتشرفتُ بعدها بخمسة أعوام تقريبًا بالالتحاق بدروس هذا العالم النحرير، بعد أن انتقل شيخُنا إلى الجامع الكبير بعنيزة القائم حاليًا باسم الشيخ رحمه الله.. واستمرت الطريقةُ ذاتها، مع زيادة مكبّر الصوت ليبلّغ الجمع الكثير من الطلبة، الذين توافدوا عليه من أنحاء شتى من العالم -فضلاً عن منطقة القصيم- وكانت تلك الدروس تسجّل في أشرطةٍ بجهود فردية، إلى حدود عام [1407]هـ تقريبًا، حتى دخلت بعضُ التسجيلات الإسلامية، فانتظم الأمر، لكنه لم يخرج عن حدّ الممكن في ذلك الوقت، إذ تبقى بعضُ الدروس أياماً عديدة، حتى تنتهي من التصفية وفق المعهود، ثم تنزل في السوق.
انتقلت الدروس بعد ذلك إلى مستوى أكثر تفاعلاً من كونه تسجيلاً فقط إلى نقله مباشرة عبر الهاتف لبعض الجمعيات الخيرية في بعض دول الخليج، حيث استمعوا لشرح شيخنا لرسالةٍ مختصرة في عدة ليال، فكان في ذلك فرصة لأولئك المستمعين حيث يتاح لهم السؤالُ مباشرة، ويسمعون الجوابَ كذلك.. وبقي الأمرُ على هذا الحال حتى توفي شيخنا رحمه الله، إذ الإمكانات التقنية لم تُتِح أكثر من هذا.
وبعد سنتين أو ثلاث من وفاته رحمه الله، بدأ ما يُعرف بالبث المباشر للدروس والفعاليات العلمية، فصار المتابعون لهذه الدروس من كل مناطق العالم، وما زلتُ أتذكر أول ما بُثّت بعض الدروس لبعض كبار العلماء، وصارت تأتيهم أسئلةٌ مباشرة أثناء الدرس، من روسيا، وأوروبا، وأمريكا، فضلاً عن البلاد الإسلامية والعربية، والدهشةُ تعلو محيّا أولئك الأشياخ، وألسنتُهم تلهج بالحمد والشكر على تسخير تلك التقنية لإيصال العلم بأقل التكاليف.
وحين انتشر فنٌّ آخر من فنون نشر العلم، وهو ما يُعرف بـ(الدوراتُ العلمية) في مناطق المملكة وخاصة في الإجازة الصيفية صارت الدروسُ التي تُنقل بالمئات، فحصل من ذلك خيرٌ كثير، لكن بقي جانبُ التلقي بالمعنى المذكور في كتب العلم ناقصًا، إذ يُلقي الشيخُ درسه، ويجيب على ما تيسر من الأسئلة ثم ينصرف.
فانبثقت فكرةُ الدورات العلمية المنهجية، التي تُراعي التدرجَ في الطلب، مع طول المدة نسبيًا، على حدّ قول الإمام الزهري رحمه الله: "إن هذا العلم إنْ أخذتَه بالمكاثرة غلبَك، ولم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً، تظفر به" (حلية الأولياء: [3/364])، فصارت الدورةُ تمتد سنةً أو سنتين أو ثلاث، يتلقى فيها الطالبُ متوناً شتّى، ويتخرج بشيء من التكامل في علوم الشريعة، وبعضِ العلوم المساندة لها.
ومع انتشار ما يُعرف بـ (الأكاديميات التعليمية) التي يسّر الله عن طريقها بثّ العلم عبر ما اصطلح عليه بـ (بالمنصّات التعليمية)، لعشراتِ بل مئاتِ الآلاف من الراغبين فيه، ومن جميع أنحاء العالم، و(أكاديمية المجد) من أكبر وأقوى الشواهد على ذلك.
كل هذا جعل الدرسَ يكتسب صفة العالمية.. فهل الواقع الموجود يتلاءم مع هذه الصفة؟
من المعلوم أن هذه المنصَّات التعليمية تكتسب قوتها من ثلاثة أمور:
1. المشايخ الذين يدرّسون تلك المتون.
2. طريقة إلقاء تلك الدروس.
3. مراعاة المتحدث لصفة العالمية، واستشعار أن المستمعين من فئات شتى، ومذاهب فقهية متفرقة، بل إن بعضهم قد يكون من بيئات مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، ولا أقصد بالجملة الأخيرة مداهنتَهم في ذلك، بل أن يكون الحديث العلمي مقرونًا بالرحمة، وبيان الحق، دون ألفاظٍ قد تجرح، أو تُسيء إلى المتحدِّث قبل السامع.
ومما تُجدر العناية به في حديثنا عن عالمية الدرس أمور:
الأول: مراعاة الحديث باللغة العربية السهلة، بعيداً عن الألفاظ العامّية التي قد لا يَفهمها بعضُ العرب فضلاً عن غيرهم.
الثاني: أن تكون هذه الدورةُ على مستويات متعددة، تنطلق في ذات الوقت، فدورةٌ تراعي المبتدئين، وثانية تراعي المتوسطين، وأخرى للمتقدمين نسبيًا.
الثالث: في الدول الإسلامية غير العربية، ذات الكثافة العالية سكانياً -كأندونيسيا وباكستان وتركيا والجمهوريات الإسلامية في شمال شرق آسيا- أن توجه لهم دورات تراعي احتياجاتهم هم، بحيث يُراعَى فيها تدريس بعض المتون ذات الصلة بتلك البيئات.
الرابع: يُستحسن أن يكون هناك برامج مصاحبة لهذه الدورات، تُعْنى بالتربية والتزكية، فهذه من أعظم ثمار العلم ومقاصده، وما رُزئتْ الأمةُ اليوم في واقعها العلمي والدعوي، إلا بفقد كثيرٍ من جوانب التربية والتزكية، جعلتْ من بعض المنتسبين للعلم شماتة للأعداء، وأضحوكة لهم، بل حُقّ على بعضهم قول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة من الآية:213]، وإنه ليرجى ـ إذا فعلت أمثال هذه البرامج ـ أن تتحقق بقية الآية: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة من الآية:213]. اللهم اجعلنا ممن هديتَهم صراطَك المستقيم.
عمر بن عبد الله المقبل
الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.
- التصنيف:
- المصدر: