هل منهج المناظرة ليس له أصل في القرآن والسنة؟
جواز مناظرة أهل الكتاب بما هو عندهم واجب شرعي، غايته إقامة الحجة عليهم لا الإيمان به، و لذلك ظهرت العديد من المؤلفات لعلماء الأمة من المتقدمين ومن المتأخرين، تفيد بأنهم استفاضوا في هذا الأمر واستخدموا هذا الأسلوب لما فيه من إظهار للحق ..
إنه السؤال الذي يطرح نفسه دائماً: هل من المفيد أن نجادل ونحاور
ونناظر الآخر؟
العديد من الناس يستدلون ببعض أقوال الشيخ الغزالي -صاحب كتاب
الإحياء- في شأن المناظرات وحجيتها، في حين أن المناظرات التي تحدث
عنها الشيخ الغزالى في كتابه (إحياء علوم الدين) كانت بخصوص المناظرات
التي حدثت بين الفلاسفة وعلماء الكلام، تلك المجادلات التي لا تسمن
ولا تغني من جوع، ولهذا رجع الإمام الغزالي وغيره من علماء الكلام إلى
منهج أهل السنة والجماعة في آخر عمرهم، فنرجوا ألا يخلط أحد بين ما
قاله الشيخ الغزالي وبين ما يسأل عنه البعض، والآن لنعد إلى السؤال
الذي نحن بصدده.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ
وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]، أمر للمؤمنين أن يقولوا الحق الذي
أوجبه الله عليهم، وعلى جميع الخلق ليرضوا به الله، وتقوم به الحجة
على المخالفين، فإن هذا الجدال بالتي هي أحسن، وهو أن تقول كلاماً
حقاً يلزمك، ويلزم المنازع لك أن يقوله فإن وافقك، وإلا ظهر عناده
وظلمه.
ويعلق الشيخ رحمه الله على قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] قائلاً:
فأمره تعالى لهم (للمؤمنين) أن يقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يتضمن
إقامة الحجة عليهم، كما كان المسيح -عليه السلام- يقول (الجواب الصحيح
لمن بدل دين المسيح: 2-36).
و قد سئل الشيخ أحمد ديدات عن هذا المنهج فقال رحمه الله: ليس من
الضروري أن تقبل وجهة نظر خصمك باستعمال معرفته الشخصية و منطقه
الشخصي وذلك عندما تستخدم أدواته ضده. و ليس من الضروري أن يكون ما
تقول به فى مناقشتك ومجادلتك له، ما يؤمن هو به، مقبولاً باعتباره حق
له الصفة الشرعية عندك.
و يعبر الله سبحانه وتعالى عن هذا فى القرآن الكريم، حيث يخاطب الناس
وفقاً لمنطقهم الشخصي، فحين يذكر لنا الأصنام التي عبدها مشركو العرب
أيام الوثنية، يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى.
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى.أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ
الْأُنثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}
[النجم:19-22].
وعندما أراد الله تعالى أن يجادلهم، كيف فعل هذا؟ (لقد جادلهم
بمنطقهم الخاص). إن الله تبارك و تعالى يقول لهؤلاء العرب على لسان
النبي محمد ما معناه "إنكم تفضلون الأبناء على البنات وتحبون الأبناء
باعتبارهم مصدراً لفخركم و كبريائكم و عزتكم. أما الله سبحانه وتعالى
فتنسبون له البنات؟!" و الآن هذا نوع من الجدال... وهذا بالطبع لا
يعني بحال من الأحوال أن الله سبحانه و تعالى يقبل عقليتهم و
منطقهم... إذاً فالمسألة مجرد مسألة أسلوب ومنهج، نقلاً عن كتاب (هل
عيسى بشر أم إله أم أسطورة؟ ص147-150).
فكما يقول فارس الإسلام: إن القرآن كله مناظرات غرضها إقامة الحجة
على المخالف وإظهار الحق وهداية البشر.
فجواز مناظرة أهل الكتاب بما هو عندهم واجب شرعي، غايته إقامة الحجة
عليهم لا الإيمان به، و لذلك ظهرت العديد من المؤلفات لعلماء الأمة من
المتقدمين ومن المتأخرين، تفيد بأنهم استفاضوا في هذا الأمر واستخدموا
هذا الأسلوب لما فيه من إظهار للحق وكشف للباطل. فألف شيخ الإسلام ابن
تيمية (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، وألف ابن القيم (هداية
الحيارى فى أجوبة اليهود و النصارى)، وألف ابن حزم (الفصل فى الملل
والنحل)، و ألف الغزالي (الرد الجميل لألوهية عيسى بصريح الإنجيل)
وغيرهم الكثير الكثير.
ومن أبرز علماء الأمة على الإطلاق في هذا المجال الشيخ المجاهد
الهمام رحمة الله بن خليل الهندي صاحب كتاب (إظهار الحق). الذي وقف
كالطود الشامخ أمام حملات التنصير العنيفة التي اجتاحت الهند فى منتصف
القرن التاسع عشر. و من أبرز علماء هذا المجال في هذا الزمان الأسد
أحمد ديدات و اللواء المهندس أحمد عبد الوهاب والدكتور أحمد شلبي
والدكتور عبد العظيم المطعني والشيخ محمد رشيد رضا والعديد من علماء
الأمة الذين أثروا المكتبة الإسلامية بهذه المؤلفات التي عجز النصارى
إلى يومنا هذا عن الرد عليها. ولقد كانت هذه المؤلفات على مر العصور
كالسيف البتار الذي قطع دابر حملات التنصير على الأمة الاسلامية، و
إلى يومنا هذا!!! و لقد أعز الله هذه الأمة في هذا الزمان الذي ضاعت
فيه الأسوة، و قل فيه الرجال، بهذا الرجل أحمد ديدات الذي ظهر على
يديه بفضل الله تعالى نصرة هذا الدين. فلقد حارب الشيخ المجاهد حملات
التنصير التي تهدد أمتنا الإسلامية شر تهديد بكافة الوسائل
الممكنة.
و بالنسبة للمناظرات وشرعيتها فيقول ابن القيم رحمه الله في كتابه
الماتع (زاد المعاد:2-229) -فصل (في مناظرة أهل الكتاب و
جدالهم)-:
"ومنها جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه
إذا ظهرت مصلحته في إسلام من يرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم،
ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليول ذلك إلى أهله،
وليخل بين المطية و حاديها، والقوس وباريها". ولولا خشية الإطالة
لذكرنا من الحجج التي تلزم أهل الكتابين الإقرار بأنه رسول الله بما
فى كتبهم، وبما يعتقدونه بما لا يمكنهم دفعه ما يزيد على مئة طريق،
ونرجو من الله سبحانه إفرادها بمصنف مستقل.
هذا وقد كان بفضل الله تعالى في كتابه الماتع (هداية الحيارى في
أجوبة اليهود والنصارى).
ويقول ابن القيم فى موضع آخر:
والمقصود أن رسول الله لم يزل في جدال مع الكفار على اختلاف مللهم و
نحلهم إلى أن توفي، و كذلك أصحابه من بعده، و قد أمره الله سبحانه
بجدالهم بالتي هي أحسن في السورة المكية المدنية، وأمره أن يدعوهم بعد
ظهور الحجة إلى المباهلة، وبهذا قام الدين، وإنما جعل السيف ناصراً
للحجة، وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته، و هو سيف رسوله و
أمته (زاد المعاد: 2-330).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى
الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء
الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين (درء
التعارض:135).
فهذا ما أجمعت عليه الأمة، من حصول النفع الظاهر في إظهار الإسلام
على سائر الملل والنحل من خلال تلك المناظرات، ومن تتبع تاريخ الإسلام
من يوم ظهوره إلى زمننا هذا، يجد مناظرات عديدة قد وقعت بين أهل
الكتاب وبين المسلمين في معظم البلدان، وفي كثير من السنين، ونذكر
شواهد يسيرة للبيان:
1- ناظر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض الفضلاء من الرهبان
بمصر وذكر ذلك فى العديد من مؤلفاته.
2- ناظر ابن القيم رحمه الله كبير أحبار اليهود بمصر وقد نقل
المناظرة في كتابيه (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) و(زاد
المعاد).
3- ناظر الإمام فخر الدين الرازى قسيساً فى مدينة (خوارزم) وذكرها فى
تفسيره وذكرت أيضاً في كتاب
(إظهار الحق) وكانت حول ألوهية المسيح.
4- ناظر (ساويرس بن المقفع) بعض فلاسفة المسلمين زمن المعز لدين الله
الفاطمي.
5- ناظر الشيخ رحمة الله الهندي القسيس بفندر فى مدينة(أكرا) واعترف
بفندر بوجود التحريف في الإنجيل.
6- ناظر الشيخ أحمد حسين ديدات العديد من كبار القساوسة وعلماء
اللاهوت حول العديد من الموضوعات في شتى أنحاء العالم. فكشف باطل ما
كانوا يصنعون.
7- ناظر اللواء مهندس أحمد عبد الوهاب والقس المهتدي العلامة إبراهيم
خليل أحمد بقيادة الشيخ المجاهد العلامة الدكتور محمد جميل غازي (رحمة
الله عليهم أجمعين) مجموعة من المنصرين بلغ عددهم اثنان وعشرون
منصراُ، و قد أدى الأمر إلى إسلامهم جميعا، وانتشر هؤلاء بدورهم في
ربوع السودان ينشرون كلمة التوحيد.
ولقد أظهر الله الحق في هذه المناظرات وأمثالها، مما عاد على الأمة
بالعزة والنصرة، وعاد على البشرية بالنفع، بالدخول في الإسلام
أفواجا.
ويقول العلامة الشيخ سعيد عبد العظيم حفظه الله فى كتابه (دعوة أهل
الكتاب إلى دين رب العباد) في الصفحتين (109،110) بتصرف:
"المناظرة أسلوب وفن، وقد يحتاج إليه الإنسان لمواجهة الخصوم وعليه
أن يخلص عمله لله.... و المناظر لا بد أن يكون عميق الإيمان بدينه
واسع الاطلاع على ديانات غيره متمكناً كل التمكن في موضوعه، له عارضة
قوية في الجدل وسوق الحجة يعرف مواطن الضعف التي يتهجم على معارضيه من
خلالها، كحال الشيخ رحمة الله الهندي في مناظرته مع فندر فقد قرأ
العهدين القديم والجديد كلمة كلمة وقرأ كل ما كتبه عنهما علماء
اليهودية والمسيحية وكان من أبلغ حججه تلك الاستشهادات التي أوردها من
أقوال مؤرخيهم ومفسريهم على تأييد قضيته.... هب أن ديدات لم يكن بتلك
البراعة وهذا التمكن في إيراد الحجج وتفنيد شبهات الخصم، ماذا كان
سيحدث؟!"
فلا ينكر فضل المناظرات الهادفة إلا جاحد للحق، فى قلبه مرض فزاده
الله مرضا.
فالمصالح والنتائج العائدة من هذه المناظرات تكفي للرد على من أنكر
هذه الوسيلة للدعوة لدين الله، وإلا وجب عليه توجيه النقص و النقد إلى
حضرة النبي الذي ناظر أحبار اليهود وعلماء النصارى علناً!
بل إن منكرها ومبغضها، هو مبغض لإظهار الحق.
- التصنيف: