إنها مسألة هوية!

منذ 2010-06-29

أكُفْرٌ أنْ تلبس الفتياتُ الشاراتِ الحمراءَ في (الفالنتين)، ويلقي كلُّ محبٍّ وردة إلى محبوبته، أو يَقضي الناس سهرةً سعيدة عند بداية عام جديد، أو يقدموا هدايا لأمَّهاتهم في عيدِ الأم، وَإِذَا فعلوا ذلك لن ترجعَ إلينا (القدس) !


كثيرًا ما تَرِد إلى أهل العِلمِ فتاوى وأسئلة متعلِّقةٌ بحُكم بعض التقاليد العصريَّة، التي طغَتْ في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حتى تكاد تعمُّ بها البلوى، ومِن أمثلة ذلك حُكم الاحتفال بعِيد الميلاد، أو عِيد الأم، أو عِيد الزواج، أو عِيد الحب، أو رأس السَّنَة، أو ما شابه ذلك.

 
ومعروف أنَّ هذه العادات وأشباهها ليستْ مِن النِتاج المحلي في شيءٍ؛ بل هي سِلَع مستوردة مائة في المائة، كوجبات (الكنتاكي) و(الماكدونالز)، ما كنَّا نعرفها نحن ولا آباؤنا إلا بعدَ أن جاءتْنا من بلاد العمِّ سام.
 
 
وأهل الفَتْوى المعتبَرين على تحريم الاحتفال بمِثْل هذه الأعياد، وأنَّها من التشبُّه بالكفَّار، وقد يُفتي بعضُ المفتين تحتَ ضغْط الواقع، وعموم البلْوى، وخوف التنفير من الدِّين بالإباحة.
 
وليس المأْخذ الشرعي مِن بغيتنا في هذه السُّطور؛ إنما الكلام على تعلُّقِ مثل هذه العادات بهُويَّة الأمَّة، وكيانها الفِكري والعقدي.
 
ولا يخفَى على أحدٍ أنَّ المبشِّرين بالنموذج الحضاري الغربي - من لبراليِّين وعلمانيِّين - يُروِّجون لمثل هذه العادات، ويعدُّونها دليلاً على تفتُّح عقلية المرء وتنوُّره!
 
بل ويقيسون اعتدالَ العلماء بموقفهم من مِثْل هذه الأمور، فمَن أفْتى بالجواز، فهو - عندهم - العالِم المتسامِح المثقَّف، ومَن أفْتَى بالمنْع، فهو المتزمِّت المتطرِّف، عدوُّ النهضة والتنوير.
 
ولسان حال هؤلاء المبشِّرون وقالهم طرح هذا السؤال الساذج: أي ضَيْرٍ في الاحتفال بـ (الفالنتين) مثلاً، أو بعيد الميلاد أو الزواج وغيرها، وهل يَعني ذلك أنَّ من احتفل بمثل هذه المناسبات فقد كَرِه الإسلام، وأنَّ من لم يفعلْ فقد عظَّم الإسلام؟!
 

أكُفْرٌ أنْ تلبس الفتياتُ الشاراتِ الحمراءَ في (الفالنتين)، ويلقي كلُّ محبٍّ وردة إلى محبوبته، أو يَقضي الناس سهرةً سعيدة عند بداية عام جديد، أو يقدموا هدايا لأمَّهاتهم في عيدِ الأم، أَإِذَا فعلوا ذلك لن ترجعَ إلينا (القدس)، وإذا ترَكوا هذه الأفِعال وأمثالها فتحريرها قريب؟!
 
والسؤال ساذج؛ لأنَّه جاء من عقل ساذج، وفِكر بليد، ونظر قاصر، لا يعرف ما تُمثِّله العاداتُ والسلوكيات الشخصية بالنسبة لهُويَّة المجتمع؛ بل لا يَعي أنَّ هُويَّة الأمة الخاصة بها، المعبِّرة عنها، ما هي إلا مجموعُ العادات والتقاليد، والأفكار والأنظمة، التي يسيرُ عليها أبناؤها؛ فإنْ كانتْ هذه العادات والتقاليد والأفكار تعكِس شخصيةَ الأمَّة؛ بأن تكون نابعةً من امتدادها الدِّيني والتاريخي، فهي أُمَّة حيَّة تحمل هُويَّةً حقيقة، لها وجودُها وثقلُها، وإن كانت عاداتها وأفكارها ليستْ نابعةً من داخل مجتمعها، وإنما مأخوذةٌ من حضارةٍ وثقافةٍ أخرى، فالأُمَّة أمَّة ميتة بلا هُويَّة حقيقية؛ بل هويتها مزوَّرة ليستْ لها.
 
ومحافظةُ أمَّةٍ ما على هُويَّتها يُعد من أسباب قوَّتها، كما أنه في نفس الوقت علامةٌ وبرهان على قوَّتِها وغلبتها، فالأمَّة الغالِبة كالغنيِّ يُقَلَّد ولا يُقلِّد، ويُؤثِّر بملايينه فيمَن حوله مِن الفقراء، ولا يتأثَّر بقُروشهم وريالاتهم؛ لأنها لا تعني له شيئًا، والأُمَّة المغلوبة تميل دائمًا إلى التقليد والتشبُّهِ بغيرها، ولا تطمع أبدًا في أن تكون قُدوةً لأحد، كالفقير المدْقع، أبعد ما يكون عن التأثير فيمَن حولَه إلا باجْتِلاب الشَّفَقة، أو السُّخرية، أمَّا أن يكون جانِحًا إلى اتِّخاذه قُدوةً في ملْبَس أو هيئة، فهذا ما لا وجودَ له في دنيا الواقِع.
 
 
وقد أشار العلاَّمة ابن خلدون إلى هذا المعنى في مُقدِّمته الشهيرة، حيث عقَد فصلاً في "أنَّ المغلوب مُولَع أبدًا بالاقتداء بالغالِب في شِعاره وزِيِّه ونِحْلته، وسائرِ أحواله وعوائده".
قال:
"والسبب في ذلك: أنَّ النفس أبدًا تعتقد الكمالَ فيمَن غلبها، وانقادتْ إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وقَر عندها مِن تعظيمه، أو لِمَا تغالط به من أنَّ انقيادَها ليس لغلبٍ طبيعي؛ إنما هو لكمال الغالِب، فإذا غالطتْ بذلك واتَّصل لها اعتقادًا فانتحلَتْ جميعَ مذاهب الغالب، وتشبَّهتْ به، وذلك هو الاقتداء، أو لِمَا تراه - والله أعلم - مِن أنَّ غلَبَ الغالب لها ليس بعصبيَّةٍ ولا قوَّةِ بأس؛ وإنَّما هو بما انتحلتْه من العوائد والمذاهب، تغالط أيضًا بذلك عن الغَلَب، وهذا راجعٌ للأول؛ ولذلك ترى المغلوبَ يتشبَّه أبدًا بالغالب في مَلْبَسه ومرْكبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها؛ بل وفي سائرِ أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تَجِدُهم متشبِّهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمالَ فيهم"؛ انتهى المقصود.
 
 
والحاصل: أنَّ كوننا نستورد عاداتِ الغرْب كما نستورد سلعَه ومنتجاتِه، فمعناه: أنَّنا في حالة ضعْف مُزْرِية، ومعناه أيضًا: أنَّنا مجانبون للسبيل التي بها تكون الغَلَبةُ والقوة، وهي المحافظة على هُويَّتنا، والاعتزاز بها، والاكتفاء بها.
 
وإذا كنَّا نحن والمبشِّرون بالنموذج الغربي؛ أعني: العلمانيِّين واللبراليِّين- متَّفِقين على أنَّ نهضتنا في عالَم الاقتصاد ودُنيا التصنيع لا يمكن أن تقومَ إلا بعدَ الاعتماد على نِتاجنا المحليِّ، وأنه كلَّما بقينا معتمدين على منتجِ الآخَر، فمعنى هذا أنَّنا ضعفاء وعالة، ومتخلِّفون اقتصاديًّا، فكذلك عندما تغزونا عاداتُ الغرب وثقافته، ونعيش بها وعليها، فهذا معناه: أنَّنا ضعفاء، وعالةٌ على الآخر؛ بل وسنبقَى كذلك ما لَم نعتمدْ على نِتاجنا المحليِّ اجتماعيًّا وثقافيًّا، شأننا في الجانب الاقتصادي سواء بسواء.
 
ومتى وعينا هذه النقطةَ، فكيف بنا نسمح بعملياتِ الاستيراد السلوكي والثقافي والأخلاقي، ونبشِّر بها، ولدَيْنا من التراث العتيد ما هو بمثابةِ اكتفاء ذاتي يُغنِينا عن أيِّ عملية استيراد لعادات أو أخلاق من الخارج.
 
 
إنَّ المجتمع مُطالَبٌ بأنْ يحافظَ على عاداته وقِيَمه، وأفكاره وأنظمته؛ لأنَّها هُويَّتُه وحضارته، ومخزونه الثقافي الذي لا يَنْبغي له أن يُفرِّط فيه بحال من الأحوال، كما لا يفرِّط في وجوده المادي.
 
وإنَّ أيَّ اختراق لتلك العادات والقِيَم والأفكار، لَهو بمثابةِ التمهيد لاختراق الوجود الحَقيقي والفعلي لذلك المجتمع.
 
وكثيرًا ما يأتي هذا الاختراقُ في مظاهرَ شكليةٍ أولاً، بحيث لا يأبه به أحَدٌ، كما في التقليد في الملْبَس وغيرها مِن أنماط السلوك اليومي للفرد، ثم لا يَلْبَث أن ينقلب إلى تقليد في طرق التفكير والقنَاعات الشخصية، ثم يتسرَّب إلى جوانب القِيَم والمسلَّمات، والأهداف والغايات الكبرى.
 
فمثلاً عندما تصبح زبونًا دائمًا لمحلات "الكنتاكي"، ومدمنًا لتناول "البيتزا" و"الشيبسي"، وتستمع إلى موسيقا "الجاز" و"الروك آند رول" في سيارتك، وتلبس الجِينز، وتحلق "كابوريا"، وتعلِّق سلسلة في رقبتك، وأسورةً في مِعْصَمك، وتدخن "المارلبورو"، وتقول: "هاو آر يو" عندَ اللقاء بزملائك، وتتابع مباريات "البيس بوول" عند استرخائك في المساء، وتنام على أفلام هوليود - فإنَّك لا ريبَ ستجد نفسك صِرتَ أمريكيًّا في تصرُّفاتك وسلوكياتك؛ بل وقناعاتك، حتى وإنْ كان اسمك عربيًّا قحًّا، كـ"غسَّان"، أو "عدنان".
 
 
إنَّك سترى العالَم وقتَها من نافذة البيْت الأبيض، فتصدق أنَّ حرْب العراق كانت من أجل إزالةِ الظُّلْم والاستبداد عن العراقيِّين، وأنَّ تدمير الصومال وإغراقَه في حروب أهلية كان لا بدَّ منه للقضاء على الإسلام الأُصولي في القرن الإفريقي، وأنَّ قتل آلاف الأبرياء من المدنيِّين في أفغانستان وباكستان ليس بالضَّرَر الكبير بجانب القضاءِ على الإرهاب الدولي، وربَّما أسعدك إحكامُ الحِصار على غزَّة، وصَدَّقْتَ أنَّ الدولة الصِّهْيَونيَّة اللقيطة تدْعو للسلام، ولمحادثات السلام، وأنَّ الفلسطينيِّين يستحقُّون كلَّ الذي ينزل بهم.
 
 
ما الذي جرَى؟ هل تغيَّر منك شيء؟
أجَل، كما أنَّ ظاهرك صار أمريكيًّا، فباطنك ومسلَكُ تفكيرك أصبح أمريكيًّا أيضًا؛ لقوَّة العلاقة بيْن الظاهر والباطن.
 
يقول الإمامُ الموسوعيُّ البارع ابن تيمية في لفْتة اجتماعية نفسيَّة شرعية رائعة:
"المشاركة في الهَدْيِ الظاهر تُورِث تناسبًا وتشاكلاً بيْن المتشابهين، يقود إلى الموافَقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمرٌ محسوس؛ فإنَّ اللابس لثياب أهْل العلم - مثلاً - يجد من نفسه نوعَ انضمام إليهم، واللابس لثياب الجُنْد المقاتلة مثلاً يجد في نفسه نوعَ تخلُّقٍ بأخلاقهم، ويصير طبعُه مقتضيًا لذلك، إلا أنْ يمنعه مِن ذلك مانِع، وكلَّما كان القلْب أتمَّ حياةً وأعرفَ بالإسلام، كان إحساسُه بمفارَقة اليهود والنصارى باطنًا أو ظاهرًا أتمَّ، وبُعْده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشدَّ"؛ انتهى.
 
 
إنَّ اتِّباع عادات غيرِنا سيؤدِّي إلى ذوبان هُويَّتِنا في هُويَّته، وعاداتِنا في عادته، وتقاليدنا في تقاليده، فنُصبِح نحن صورةً مشوَّهة له، فلا نحن نحن، ولا نحن هو؛ بل مزيجٌ باهِت من الأمرين! فنحن لن نكون هو؛ لأنَّنا بحكم انتمائنا العقدي والتاريخي والجغرافي لسنا هو، ولن نصبح نحن؛ لأنَّنا نُريد أن نكون صورةً من غيرنا.
 
إنَّ الآخَرَ لن يحترِمَنا عندئذٍ؛ لأنَّه لا شخصية حقيقة لنا، بل نحن مجرَّد "ببغاوات" تُحاكي ما يفعله هو، بلا تفريق بيْن ضارٍّ ونافع، وملائم وغير ملائم؛ بل بالاكتفاء بأنَّه جاء من عند (الآخر) الأغْنَى والأقْوى!
 
ولا ريبَ أنَّ ذلك هزيمةٌ نفسية كبيرة تعرَّضتْ لها الأمَّة، أثمرتْ عُقدةَ الشعور بالنقص عند كثيرٍ من أبنائِها، فهُمْ يلتمسون تكميلَ نقصهم بتقليد الأغْنى والأقوى.
 
هذه العقدة جعلتْهم يُقلِّدون الآخرين في كلِّ شيء، بلا أدْنى تفكير، ولا رويَّة ولا تأمل، ولا بحث عن الفائدة المرْجُوَّة مِن هذا الفِعْل الذي يقع فيه التقليد، إنه باختصار "التقليد للتقليد"، كما يقال "الفن للفن"!
 
 
ما الذي يحملني على الاحتفالِ بعِيدِ الأمِّ، أو عيد الميلاد، أو عيد الزواج، ونحو هذه العادات - تنزلاً على أنَّها مباحة وحلال؟!
 
هناك ألْف طريقة وطريقة؛ لأعبِّرَ لأمي أو لزوجتي عن مشاعِري نحوهما، أو لأبتهجَ بقدومي للكون، فلم يختزلْ هذا كله في النموذج المستورد فحسْبُ؟
 
وهل الباعِثُ الحقيقي عليه هو الرَّغْبة في إسْعاد نفْسي أو الآخرين، أو مجرَّد الرغبة في التقليد الأعْمى، حيث سأقول عن نفسي ويقول الناس عني: (متمدِّن ومتحضِّر)؛ لأنَّني أفعل هذه الأمور؟
 
 
هل مِن المتحتَّم عليَّ إذا أردتُ أن أكون متحضِّرًا ومتمدِّنًا أن أتَّبع النموذجَ الغرْبي في كلِّ شيء: في طعامي وشَرابي وهِندامي، وطريقة تعبيري عن سَعَادتي وحُزْني؟

إنَّها - كما أسلفت - هزيمةٌ غائرةُ الجُرْح في جسد كثيرين من أبناء الأمَّة، تُملي عليهم الشعورَ بالنقص عندَ الابتعاد عن النموذج الغربي الغالِب، وتُوهمهم بالكمال عندَ الاقتراب منه ومحاكاته وتقليده تقليدًا أعمى.
 
ولذا فمِن الضروري جدًّا التغلُّبُ على آثار هذه الهزيمة، ومحو مضاعفاتها عن جسَد الأمَّة، ورد أبناء الأُمَّة إلى هُويَّتهم الإسلامية العربية، ووضع النموذج الغربي في مكانه اللائِق به، وإظهار رجعيَّته وتخلُّفه الاجتماعي والأخلاقي والفِكري، ولفْت الانتباه إلى عدم الاغترار بتفوُّقِه المادي والعِلمي؛ لأنَّه لا يُمثِّل التمدُّنَ والتحضُّرَ الحقيقي؛ بل قد يكون معه وقد لا يكون.
 
المصدر: علي حسن فراج - موقع الالوكة