سلسلة مقالات عن تنظيم الدولة - (4) مكتسبات تفجير مساجد أهل السنة

منذ 2016-06-25

حين قرأت إعلان التبني لتفجير مسجد أهل السنة بعسير، وإحراق المصاحف؛ فإنني قلت في نفسي: يا سبحان الله ما أسرع ما يكشف هذا التنظيم ما كان يتظاهر بالتبرؤ منه.

الحمد لله وبعد،،

 

حين وقع تفجير مسجدي الشيعة السابقين، مسجد القديح ومسجد العنود، في شهر شعبان الفائت، لم أستبعد حينها أن يعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن الحدثين، لأن هذا من سلوكياته التي لم يكن ينفيها عن نفسه منذ تشكّل التنظيم في العراق.

 

ولكن حين وقع تفجير مسجد لأهل السنة في عسير وقت صلاة الظهر بالأمس، وذكروا عدد الضحايا تقبلهم الله وأسكنهم فسيح جناته، ورأيت آثار النيران في جدران المسجد وسقفه وفرشه، وعرضوا صور المصحف الشريف وقد أتى اللهب الكريه على صفحاته الكريمة حتى ترمدت أطرافها، ثم عرضوا صور بقية الجرحى في المستشفى شفاهم الله وجعل ما أصابهم طهورًا؛ فإنني -بكل صراحة- استبعدت جدًا أن يعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن الحادثة.

 

ذلك أن من سياسة تنظيم الدولة التي يذكرها أهل الخبرة أن تنظيم الدولة منذ أيام زعيمهم الفاعل أبي حمزة المهاجر في العراق لم يكن يحجزه شيء عن تحقيق أغراضه حتى لو كان تفجير مساجد أهل السنة ومجامعهم وأسواقهم، ولكنه إذا فجر مسجدًا لأهل السنة لم يكن يعلن ذلك رسميًا، بل ويظهر في بياناته نفي ذلك والتبرؤ منه، وذلك لبلوغه في الشناعة منتهاها والتي كان يحاذرها التنظيم تحاشيًا لتأليب العامة عليه.

 

بل إنني قلت فعلًا لأحد الأصدقاء لا أظن أن يعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن تفجير مسجد عسير، حتى وإن غلب على الظن أنه هو الفاعل لذلك.

 

وحين كنا نتجاذب أطراف الأحاديث مع بعض الإخوة البارحة قال لي أحدهم: أرأيت؟! لقد أعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن تفجير مسجد عسير وأن المنفذ انتحاري يسمونه (أبو سنان النجدي)، ثم رجعت فورًا للشبكة ووجدت إعلان التبني فعلًا أصدره ما يسمونه (ولاية الحجاز) التابعة لتنظيم الدولة.

 

حين قرأت إعلان التبني لتفجير مسجد أهل السنة بعسير، وإحراق المصاحف؛ فإنني قلت في نفسي: يا سبحان الله ما أسرع ما يكشف هذا التنظيم ما كان يتظاهر بالتبرؤ منه..

 

وما أكثر ما نفى عن نفسه شيئًا بل وأقسم الأيمان المغلظة وباهل عليه ثم يعود للتصريح بارتكابه..

 

ربما يعِنُّ للمتابع أن يجب أن نذكر الأدلة الشرعية على عظم هذه الجريمة، لكن ما حاجتنا لذلك والتنظيم نفسه يقر قبل مدة وجيزة أن تفجير مساجد أهل السنة من أعظم البوائق!

 

الفاعل نفسه يقر بتجريم الفعل قبل قليل.. وهذا غاية ما يمكن من التناقض..

 

دعني أعرض عليك بعض هذه الشواهد في البيانات الرسمية للتنظيم:

 

في بيان رسمي لتنظيم الدولة يتوجّع فيه من أنه يُتّهم بأمور باطلة لم يفعلها ولم يقاربها وأنه بريء منها، يقول التنظيم بصوت أبي محمد العدناني المتحدث الرسمي له:

 

"إن الغرب الكافر اليوم يَشنّ حملةً إعلاميةً شعواء ضد مجاهدي الدولة الإسلامية في العراق والشام، وسخّر لذلك جميع قنوات الطواغيت وأبواق الكفر في كل مكان..، ومن أبرز ما تتمثّل به هذه الحملة الخبيثة: أولًا: اتهام الدولة الإسلامية بتفجير المساجد في المناطق السُّنيَّة في العراق..، ولكن بفضل الله لم تعد مثل هذه التهم والافتراءات تنطلي على أهل السنة في العراق..، ولسنا نحن مَن يستهدف المسلمين أو يفجّر مساجدَهم أو أسواقهم في أي مكان، وأن ذلك من عمل الروافض وبتنسيق وإشراف الأجهزة الأمنية الصفوية الحاقدة، ودعم من مراجعهم الملحدة.." (العدناني، بيان بعنوان: لك الله أيتها الدولة المظلومة، مؤسسة الفرقان للإنتاج، الدقيقة: [01]).

 

لعلك لاحظت أولًا لغة المَسكَنة في عنوان هذا البيان (لك الله أيتها الدولة المظلومة).

 

ثم لعله لم يفتك أيضًا اعتبارهم (تفجير المساجد في المناطق السُّنيَّة) لا يقوم به إلا الرافضة والصفويون والملاحدة! وهذا عموم وشمول، فأي مسجد في (منطقة سُنّية) فيرون أنفسهم أشرف من التعرض له، فالمعيار هو المنطقة.

 

وتكرار النفي بلغة البراءة الطهورية التامة "لسنا نحن من يفجر المساجد"، وقوله "لسنا نحن" يوحي بوضاعة هذا الفعل وأنهم أشرف منه، وأن نسبة هذا العمل إليهم هو من تجنيات الإعلام الصليبي وأبواقه العربية.

 

ثم بعد كل هذا التظاهر بالنقاء من (تفجير المساجد في المناطق السُّنيَّة) وأنه عمل وضيع، والاجتهاد في التنصل منه ورميه كله على ظهور الأعداء؛ يأتي تنظيم الدولة بالأمس بكل برود ويُصدِر بيانًا في تبني تفجير مسجد أهل السنة في عسير!

 

فلو صدّقناه اليوم أن هذا عمل مشروع فماذا سنعمل في بيانه السابق الذي جعل فيه تفجير مساجد أهل السنة عمل وضيع يفعله الروافض الصفويون والملاحدة ومن شائعات الإعلام الصليبي؟!

 

وفي بيان سابق -أيضًا- لما تحدث تنظيم الدولة عن الجيش المصري وأراد أن يجمع المناطات الشنيعة التي تبرهن مشروعية تكفير ومقاتلة الجيش المصري، اعتبر من هذه المناطات أن "الجيش المصري يحرق المساجد والمصاحف"، كما يقول تنظيم الدولة في سياق سرد هذه المناطات:

 

"جيش صائل انتهك الأعراض، وحرق المساجد والمصاحف، وأجهز على الجرحى وحرق جثث القتلى، فهل يقول عاقل أن هذا الجيش لا تجوز محاربته وقتاله؟!" (العدناني، السلمية دين من؟!، مؤسسة الفرقان للإنتاج، الدقيقة: [18]).

 

فتنظيم الدولة هاهنا يعتبر من الشنائع التي توجب القتال (حرق المساجد والمصاحف)، واليوم هو يتبنى حرق المساجد والمصاحف بكل صراحة في تفجيره لمسجد عسير.

 

وحين رأيت صورة المصحف الشريف في مسجد عسير وقد أتى اللهب عليه، تذكرت فورًا هذه العبارة التي سبق أن اطلعت عليها، والتي كان تنظيم الدولة يجعلها من مسوغات مقاتلة الجيش المصري!

 

بالأمس يُشنّع على الجيش المصري إحراق المصاحف، واليوم يتبنى بكل فخر ذلك!

 

وكان تنظيم الدولة في عامة بياناته يستحث أهل السنة في العراق على مواجهة الرافضة ومقاتلتهم، بل لا يكاد يخلو بيان له من ذلك، ويستعمل في تشجيع أهل السنة على ذلك ذكر فظائع الشيعة في العراق، ومما كان يذكره تنظيم الدولة من هذه الفظائع تفجير مساجد أهل السنة، كما يقول التنظيم مثلًا في بيان آخر:

 

"وقد بانت عقيدة تلك الميليشيات واضحة في بدءِ عملياتها العسكرية على المساجد السُنّيّة لردع المتظاهرين، قائلةً بلسان حالها: يا أيها النواصب لقد بدأنا بمساجدكم، لتعلموا ان دمائكم واموالكم وأعراضكم حلال عندنا مستباحة.." (العدناني، بيان بعنوان: فاقتلوهم إنهم مشركون، مؤسسة الفرقان للإنتاج، الدقيقة: [7]).

 

فمن الطريف حقًا أن يذكر تنظيم الدولة أن (البداية بمساجد أهل السنة) هي من سياسات الرافضة الصفوية، ثم هو يطبّق ذات السياسة في أرض الحرمين فأول عملياته في المساجد! وهذا أحد الشواهد المتكررة على أن الخصم قد يكتسب عقلية ومنطق خصمه دون شعور.

 

ويكرر تنظيم الدولة ذات هذا التأكيد على أن سياسة الرافضة هي البدء بتحريق مساجد أهل السنة وتفجيرها، كما يقول في بيان آخر أيضًا:

 

"وأول ما دخل الحشد الرافضي الضلوعية منع صلاة الجمعه، وقد رأيتم ما فعلوه فى ديالى وصلاح الدين والانبار: من حرق المساجد وتفجيرها.." (العدناني، بيان بعنوان: يا قومنا أجيبوا داعي الله، مؤسسة الفرقان للإنتاج، الدقيقة: [7]).

 

فتنظيم الدولة يؤكد مجددًا أن "البدء بتحريق المساجد هو من استراتيجيات الرافضة"، ثم هو يجعل مفتتح عملياته في جزيرة الإسلام تخريب المساجد، ويعترف بهذا رسميًا مفتخرًا به.

 

وفي موضع آخر يذكِّر تنظيم الدولة أهل السنة بفظائع الرافضة، ويستعرض على رأس هذه الفظائع (تحريق مساجد أهل السنة) كما يقول التنظيم في بيان رسمي آخر:

 

"ولإن نسيتم فظائعهم بكم في بغداد وتلّعفر وما قد حرّقوا من مساجدكم.." (العدناني، بيان بعنوان: سبع حقائق، مؤسسة الفرقان للإنتاج، الدقيقة: [9]).

 

وهكذا، فقد كرر تنظيم الدولة من خلال هذه الخطابات المتوالية المتعددة أمرين: الأول: أن تفجير مساجد أهل السنة هو من سياسات الرافضة والصفويين والملاحدة.

 

والثاني: استنكار وشجب أن ينسب تفجير مساجد أهل السنة لتنظيم الدولة وأن هذه النسبة من افتراءات الإعلام الصليبي وأبواقه العربية وأن تنظيم الدولة مظلوم في هذه القضية.

 

ثم يفاجؤنا تنظيم الدولة بتفجير مسجد أهل السنة في عسير، وليس هذا هو المفاجئ طبعًا، بل المفاجئ هو تصريحه بتبني العملية والابتهاج بها، وهو الذي ملأ بياناته السابقة أن تفجير مساجد أهل السنة عمل رافضي ومن تجنيات الإعلام الصليبي!

 

وانقلاب تنظيم الدولة على ما يعلنه، ونكثه لما يصرح بالتزامه به، ليس بالجديد، بل تكاد تكون كل مباهلته وأيمانه السابقة عاد وأثبت نقيضها، وقد عرضت لنماذج من ذلك في ثلاث أوراق بحثية سابقة، وسأعرض المزيد لاحقًا بإذن الله.

 

ولذلك فإنني لا أظن أحدًا اليوم يمكن أن يأخذ الدعاوى التي يطلقها تنظيم الدولة في بياناته على محمل الجد، فقد ظهر بصورة صارخة أن تنظيم الدولة يسير في البيانات الرسمية له على طريقة (الدبلوماسية التقليدية الوضعية) المخالفة للشريعة، وهي اعتبار الكذب والمخادعة والمخاتلة للتشويش على الخصوم فنًا وذكاءً! مع أنها تكتيك قصير الأجل سرعان ما يتمزق غلافه وتتهدّم مصداقيته.

 

ومن ذا بقي يمكن أن يمد يدًا لوعد يبرمه تنظيم الدولة..؟!

 

لكن، دعنا الآن من كثرة انقلاب تنظيم الدولة على ما يعلنه، ولنحاول تحليل معطى آخر، وهو: ما الرسالة التي يريد تنظيم الدولة إيصالها من تفجير مسجد لأهل السنة في عسير؟

 

هذا ينطوي على عدة احتمالات لنحاول قراءتها سويًا:

 

يمكن أن تكون الرسالة والغرض هي: أن يتم تحريك المجتمع وزعزعة تلاحمه واستقراره للانقلاب على النظام وإيجاد ثغرة أمنية يلِج من خلالها تنظيم الدولة لتشكيل ولايات.

 

لكن هذا هدف بعيد جدًا، لأن استهداف المساجد يقلب المجتمع رأسًا على عقب ضد الجاني، بل ويجعل المجتمع (يصطف) كليًا مع الناظم الحاكم، وهذا أمر رأينا نظيره في كل التجارب القتالية التي وقعت في عدة بلدان إسلامية.

 

بل إن المجتمع يشعر بضعف هذا التنظيم المحارب، لأن الخصوم المقاتلين المتمكنين لا يستهدفون النقاط الهشة وإنما يفاخرون بضرب مفاصل الدول والأهداف العسكرية الاستراتيجية، أما من يذهب لمسجد ويفجّر فيه فهذا هدف يكشف عن خور الفاعل لا عن تمكينه! فاستهداف المساجد نحيب العاجزين..

 

حسنًا، إذا لم تكن الرسالة من تفجير المساجد السنية هي التأثير الفعلي في المجتمع المستهدف وفتح الثغرات الأمنية، فإذن قد تكون الرسالة هي (إغاظة المسؤولين في هذا النظام وإسخاطهم ومكايدتهم).

 

وهذا في الحقيقة تفكير محدود جدًا، لأن المسؤولين في هذا البلد وغيره ليسوا على درجة واحدة أصلًا، فثمة شريحة من المسؤولين ما اكترثوا بما تفعل أصلًا، فهم مشغولون في مصائفهم وقصورهم وغاية ما يسمعونه عن عمليتك كلمة تلهث في شريط الأخبار السفلي تحت الشاشة.

 

وأما الشريحة الأخرى من المسؤولين ففيهم من يتألم حقًا للجرائم التي ترتكب في حق الآمنين ويهتم لها، ويرى أن عليه أمانة كالجبل ويتحرّق ضميره لذلك، فهذه الشريحة أصلًا تتقرب لله بهذا الشعور، فأنت حين تفجر المسجد وتقتل المصلين إنما تزيدها تعبدًا وتقربًا لله بهذا الهم والاهتمام.

 

فبالله عليك ما المكتسب الذي يستحق أن تنتهك لأجله حرمة المسجد وبيوت الله؟!

 

هذا عن الرسالة التي يفكّر فيها مثل هذا الفاعل، لكن ما الرسالة التي وصلت لرجل الشارع؟ الرسالة التي وصلت لغير المتخصص الآن: هي أن كل ما كان يقوله الإعلام من حق وباطل في شأن هذه الجماعة (تنظيم الدولة) فهو حق!

 

الرسالة التي وصلت لكثير من الجمهور: أن الصلاة في المنزل آمن من الصلاة في المساجد، وخصوصًا الجوامع الكبيرة والمكتظة، حتى يتم التأكد من القضاء على خلايا تنظيم الدولة!

 

فانظر كيف كنت سببًا في تعطيل بيوت الله عن عمارتها..!

 

انظر الآن إلى سعيك في (تخريب المساجد) وتدبر قول الله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114].

 

أليس ما فعلته هو عين تخريب المساجد المذكور وعيده في (عموم) هذه الآية؟!

 

وقد نوّه كتاب الله برفع المساجد وأنت تهدمها، قال الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} [النور من الآية:36]، وقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس أن من رفعها (تكريمها)، وأنت تهينها بالهدم والتخريب والنيران والتحريق والدماء والجثث، في جدرانها وسقفها وفرشها ومصاحفها.

 

وتخريب المساجد الحسي والمعنوي هو نقيض عمارتها، والله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة من الآية:18] فانظر كيف فات عليك هذا الشرف العظيم..

 

هذا اليوم الجمعة قرأ علينا الإمام آية ما استطعت أن أمنع ذهني عن تذكُّر دخول أصحاب مثل هذه الجرائم فيها.. وهي قول الله في خواتيم سورة الكهف:

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104].

والله أعلم،،

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.

 

أبو عمر
الجمعة 22 شوال 1436هـ

إبراهيم السكران

بكالوريوس شريعة- ماجستير سياسة شرعية-جامعة الإمام- ماجستير قانون تجاري دولي-جامعة إسكس-بريطانيا.

المقال السابق
(3) منزلة المجاهدين عند تنظيم الدولة
المقال التالي
(5) التعبد لله بتقبيل أقدام الولاة