الداء الذي يخترق النسيج السلفي

منذ 2016-08-31

ما الذي جرى ويجري في الساحة الإسلامية التي تنتسب إلى السلفية حول العالم؟ شرخٌ غائرٌ وصدعٌ متجذرٌ زلزل كيان الدعوة السلفية، ومزق أطرافها، وفرق صفوفها، وخالف بين دعاتها، وأورثها الفتن.

(1)
ما الذي جرى ويجري في الساحة الإسلامية التي تنتسب إلى السلفية حول العالم؟ شرخٌ غائرٌ وصدعٌ متجذرٌ زلزل كيان الدعوة السلفية، ومزق أطرافها، وفرق صفوفها، وخالف بين دعاتها، وأورثها الفتن.
امتلأت الساحة الدعوية بالقيل والقال، وانهمك بعض المنتسبين إلى الدعوة في الجدل، واستسلموا للأغلوطات يُؤذون بها القريب والبعيد، واستطالوا على لحوم إخوانهم من الدعاة وطلبة العِلم، وأصبحت الأعراض عندهم كُلأً مباحاً يهتكون حرمته دون ورع، ويتقافزون فوق أسواره دون تحرٍّ أو تثبت.
علا صوت الفتنة بين الدعاة، وطفح الغلّ والحسد، وانتشرت الشحناء والبغضاء، واستسهلوا التظالم والبغي، فسُلَّت الألسن وطاشت الأقلام جرحاً وذماً، تضليلاً وتجهيلاً، تفسيقاً وتبديعاً!
امتلأت المنابر والمجالس بألسنة حداد، وارتفع ضجيج التصنيف والجرح، وولج بعض الناس إلى أوديةٍ وعرة، وتقحموا مفازاتٍ قاحلة، وتربى الشباب على الخصومة والشغب وإيغار الصدور، وانشغلوا عن البناء العلمي والتربوي، وانعزلوا عن قضايا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتناسَوا جراحات أمتهم، واختُزِل المشروع الدعوي والإنجاز العلمي في السباب والطعن، وإسقاط الدعاة والمصلحين، والتفنن في القطيعة وإشاعة الفرقة.
يا الله! أي جناية جناها هؤلاء على السلفية والسلفيين؟
أكثر من خمس وعشرين سنة من المناكفات الرخيصة، والمكايدات العابثة، التي أثقلت المحاضن العلمية والدعوية بالخصومات والصراعات، بل والاحتراب الحاد الذي أورث بعض المنتسبين إلى الدعوة الوهن والقعود وترك العمل، وصرفهم عن أبواب من الخير كثيرة، اذهب إلى أي قطر شئت من أقطار المعمورة، فتش هنا أو هناك في مرابع العلم والدعوة، وستجد هذا الداء يخترق النسيج السلفي، ويسري بين الدعاة وطلبة العلم سريان النار في الهشيم، يشاغل الدعاة، ويلبس عليهم، ويكيد لهم، ويصنفهم – ظلماً وبغياً – بتصنيفات جائرة؛ فتأزمت الساحة السلفية، وكثر الخرق في سفينتها، واضطربت أركانها، وتعالت رايات الفتنة في معظم أرجائها،
إذا برز في البلد طالب علم أو خطيب أو داعية، امتحن في كلمة أو كلمتين، ثم صُبَّ الغضب فوق رأسه صباً، واصطنعت في وجهه العقبات، وتناوشته السِهام، وتجرع من مراراتهم ما يهدُّ الجبال؛ فإما أن يكون مطواعاً لهم في كل آرائهم، موافقاً لهم في كل خصوماتهم، ليكون سلفياً على جادة السنة والأثر، وإلا عدّوه ضالاً مبتدعاً، حزبياً منحرفاً، حقه الهجر والمعاداة، ومع الوقت تشكلت صورة نمطية لهؤلاء ملؤها الجفاء واللدد والخصومة في علاقاتهم الدعوية، صرفت بعض الناس عن الحق، وقد ثبت أن رسول الله: «إنَّ أبغض الرجال إلى الله: الألدّ الخَصِم» ([1]).
(2)
أصبح شعار (السلفية) عند هؤلاء مدخلاً لتفريق الأمة، والتشغيب على الدعاة، وقطع الطريق على المصلحين،
وصارت (السنة والأثر) باباً من أبواب الطعن والتهارش والاستطالة على العلماء والمصلحين، وحشيت هذه المصطلحات الشرعية بمعاني التوجس والمحاكمة والبغي، وبألوان من الآصار والأغلال لم تقم الحجة الشرعية بها، وكأنهم وحدهم من يملك مفاتيح (المنهج)، وكان لبعضهم نصيب وافر من قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: جزء من الآية: 85]، وقوله سبحانه: {وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: جزء من الآية: 237].
اتسعت عباءتهم لكل ألوان الجرح والذم والتبديع، لكن ضاقت أطرافها ذرعاً بكلمة عدلٍ وإنصاف، واستوحشت من مبدأ الرفق والرحمة بالمخالفين، وغلبت عليهم (أفعال الأجناد) لا آداب العلم، كما هو وصف ابن عقيل الحنبلي لجماعات من المنتسبين إلى العلم يعملون بتعصبهم عمل العوام([2])، أدمنوا إدارة معارك صغيرةٍ هامشية، وسجالاتٍ متشنجة، سادت فيها لغة التشفي والتعنت والانتقام، وغابت عنها لغة الحوار العلمي الجاد، والمجادلة بالحسنى، والنصيحة المشفقة([3])، وأصبح الحديث عندهم عن بسط العدل مع الموافق والمخالف امتثالاً لقول الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: جزء من الآية: 8]، والدعوة إلى احتواء الخطأ بالحسنى امتثالاً لقوله تعالى: ا {دْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: جزء من الآية:34]، والدعوة إلى اللطف وانتقاء أطايب الكلام امتثالاً لقوله تعالى : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: جزء من الآية: 83]، ونحوها من الهدايات القرآنية، من علامات الضعف والتساهل وتمييع المنهج.
(3)
اقتاتوا هداهم الله على زلات الدعاة العابرة، وفلتات المصلحين العارضة، وبدلاً من النصيحة الحكيمة للمخطئ والتواصي معه بالمرحمة، سعوا في التهويل والتضخيم، والقدح والإزراء، والطرد والإبعاد، يفرح أحدهم بخطأ أخيه إذا أخطأ ليس من أجل تسديده، وإقالة عثرته، ولكن من أجل توظيفه في خصوماته ومناكفاته، ولذا صغرت في أعينهم جبال من الحسنات والخيرات لإخوانهم، في وقت كبَّروا فيه زلاتهم؛ فتشاغلوا في تلقطها والتنقيب عنها([4])، عن طوام الرافضة والمفسدين والعلمانيين، فاضطربت البوصلة وفقدت طريقها.
إذا ندَّت من أحد الدعاة كلمة طاروا بها فرحاً، واشتغلوا بها دهراً، ودرَّسوا وخطبوا وكتبوا فيها، أما إذا تطاول يساري أو ليبرالي على دين الله عز وجل وكتابه العظيم، أو استهزأ بسنة سيد المرسلين، فلا تسمع لهم همساً ولا ركزاً، فغيرة أحدهم على زلة طارئة من طالب علم مجتهد أشدّ من غيرته على محارم تنتهك، وشريعةٌ تنتقص، وتأمل هذا الكلام الفصل لشيخ الإسلام ابن تيمية: (من جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموماً معيباً ممقوتاً؛ فهو مخطئ ضال مبتدع) ([5]).
(4)
لم يحسنوا التعامل مع الخلاف واجتهادات الدعاة، وإنما وظفوا ذلك في استثارة الفرقة، وإشعال نيران الخصومة، وشرخ وحدة الصف، ولم يفرقوا بين أصناف المختلفين وطبقاتهم، وأسسوا العلاقة الدعوية على المشاحة والشك وسوء الظن، والمسارعة إلى التهمة، وتفسير المواقف والآراء على أسوأ المحامل.
حاربوا الحزبية، وبدعوا التنظيمات والتجمعات الدعوية بإطلاق؛ فأصبحوا أكثرا تحزباً وتعصباً، واحتكاراً للمنهج، واصطفافاً وراء شعارات موهمة، وصار مدار الولاء ومعقد البراء عندهم، الموقف من فلان أو فلان، وامتحن القاصي والداني بقربه من ذلك العالم، ورأيه في هذا الداعية، وراح هؤلاء يدورون مع هذه الخصومات حيث دارت، ويتيهون في دروب الأثرة والعصبية، أصبح بعض هؤلاء عيناً يتربص بالمصلحين، ويسعى بالوشاية والنميمة، ويستعدي الناس عليهم، ومع الوقت صار بعضهم ردءاً للعلمانيين وأهل الأهواء – من حيث يعلم أو لا يعلم -، ووظفت حماقاتهم ومكايداتهم في تعطيل بعض المشاريع الدعوية، وتعويق كثير من الدعاة والمصلحين، وتثبيط كثير من العلماء وطلبة العلم، والتحريض على المؤسسات الدعوية والكيد لها، والترصد لأبنائها، فهجِّيراهم استشراف الفتن، يتتبعون الفرقة مظانها، وبرغم أنهم لا يشكلون إلا ثلة قليلة في الوسط الدعوي، ومع ذلك فإن صوتهم وصخبهم مرتفعٌ جداً، ولعل أحد أسرار انتشارهم وتمددهم حبل من أهل الأهواء استثمر اندفاعات بعض جهلتهم، أو الراغبين في التصدر أو النفعيين منهم.
(5)
اتصف هؤلاء بضيق الأفق، وأخذوا ينظرون إلى الدعوة والدعاة بعين عوراء من خلال ثقبٍ ضيق، يختزل الصورة في فروع جزئية ناقصة، وفي جمل ملتبسة، ومسائل نادرة لا ينبني عليها عمل؛ ولذا تراهم لا يوازنون بين المصالح والمفاسد بقواعد الشريعة المقررة عند العلماء الراسخين، ولا يراعون مراتب التصرفات ولا مآلات الأفعال، ولا يفقهون مقاصد الشريعة وتفاضل العبادات أو منازل الأولويات، ولا يفرقون بين ما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ، وكثير من تلك الفتن التي اجتاحت الساحة إنما كانت بسبب التفريط في فهم ودراسة تلك الأصول الفقهية الجليلة.
(6)
أرأيتم ما نحن فيه من فتنة؟!
إننا أمام ظاهرةٍ غريبةٍ، وفتنةٍ عريضةٍ غير مسبوقة، أضرت بالدعوة الإسلامية عموماً، واستنزفت الدعوة السلفية خصوصاً، وأفسدت أجواءها، وأذهبت حلاوتها، نحن أمام أزمة تربويةٍ وأخلاقيةٍ متجذرةٍ، كان تأثيرها عميقاً .. عميقاً في المحيط السلفي، إنَّ ثمة حقيقة يجب التواصي بها، فقد آن أوان إطفاء فتيل الفتنة، وإغلاق أبواب هذه النازلة، والسعي بتجرد لرأب الصدع ولمِّ الشمل وجمع الشتات، ولا سبيل إلى ذلك والله أعلم إلا بالتربية على هدايات القرآن العظيم والسنة النبوية المشرفة، لا سبيل له إلا بالورع والتوقي والخوف من الله عز وجل.
هذا باب من أبواب الصدق مع الله سبحانه، لا يسمو إليه إلا من قرأ سورة الحجرات وتخلَّق بأخلاقها علماً وعملاً، ووالله الذي لا إله إلا هو إنَّ المغبون كل الغبن من تصرمت أيامه، وشاب شعره، وهو مشغول في إذكاء الفرقة، وقلمه في هذه الفتنة مرفوع، فشتان...شتان بين من أمسى متشنجاً في هوشات هنا وهناك، ومن أمسى سليم الصدر للمسلمين ينصح ويرحم، محروم والله كل الحرمان من استنزف طاقته في تلك العواصف، وغفل عن قول النبي: «إنَّ أبغضكم إليَّ: المشاؤون بالنميمة، والمفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبُراء العنت»([6])،
محروم والله من حُرم الكلم الطيب يتزين به، واستروحت نفسه للبذاء والجفاء، قال رسول الله: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار» ([7]).
فوصيتي لكل من أراد النجاة: أمسِك عليك لسانك؛ فمداخل الهلكات في فلتاته، {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] ، والكيس الحصيف من استبرأ لدينه وعرضه، وتأمل وصية أبي سنان الأسدي رضي الله عنه لأحد طلابه: (إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس، متى يفلح؟!)([8])، فإذا كنت محباً للصحابة رضي الله عنهم فعضَّ على هذه الوصية بالنواجذ، فهي خير لك من مزالق المخاشنة والمخاتلة؛ فاستنقذ نفسك قبل فوات الأوان، {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: جزء من الآية: 16] .

([1]) أخرجه: البخاري رقم (2457)، ومسلم رقم (2668).
([2]) انظر: ابن مفلح، الفروع مع التصحيح: (3/23).
([3]) من اللفتات التربوية الجميلة للإمام الموفق ابن قدامة الحنبلي، تعليقه على فتوى استنكرها للناصح ابن الحنبلي قائلاً: (رأيت له فتاوى غيره فيها أسدّ جواباً، وأكثر صواباً، وظننت أنه ابتلى بذلك لمحبته تخطئة الناس، واتباعه عيوبهم، ولا يبعد أن يعاقب الله العبد بجنس ذنبه، إلى أن قال: والناصح قد شغل كثيراً من زمانه بالرد على الناس في تصانيفهم، وكشف ما استتر من خطاياهم، ومحبة بيان سقطاتهم، ولا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه، أفتراه يجب لنفسه بعد موته من ينتصب لكشف سقطاته، وعيب تصانيفه، وإظهار أخطائه؟ وكما لا يحب ذلك لنفسه ينبغي أن لا يحبه لغيره، سيما للأئمة المتقدمين، والعلماء المبرزين)
ابن رجب، الذيل على طبقات الحنابلة: (3/430-431).
([4]) وهذه هي صفة الخليل الماكر الذي استعاذ منه النبي r قائلاً: (اللهم إني أعوذ بك من خليل ماكر: عينه تراني، وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة دفنها، وإن رأى سيئة أذاعها).
أخرجه: الطبراني في الدعاء، وقال الألباني: إسناده جيد، السلسلة الصحيحة رقم (3137).
([5]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (11-15).
([6]) حسنه لغيره الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2849)، وفي صحيح الترغيب والترهيب رقم (2824).
([7]) أخرجه: أحمد في المسند (16/305) رقم (10512)، والترمذي في كتاب البر والصلة، رقم (2009)، وقال: حسن صحيح، وصححه الأرنؤوط في تحقيقه للمسند.
([8]) ترتيب المدارك: (2/14).

 

عبد الله الزهيري

المصدر: موقع مفكرة الإسلام