ولكنَّ (أهل الموصل) لا بواكي لهم!
على المسلمين في العراق وخارج العراق أن يبذلوا ما استطاعوا للتخفيف عن الأبرياء وعن إخوتهم من أهل السنة في الموصل وحلب كل حسب وسعه وحسب مركزه، حتى لا يستأصلهم عدو شانئ
الحمد لله ناصر المستضعفين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد القائل: «ما من امرئ يخذلُ امرأ مسلمًا في موضع تُنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته» (أخرجه أبو داوود، وضعفه الألباني: 4884)، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد:
فمدينةُ الموصل مدينة إسلامية سنِّية، توالت عليها الدول دون أن تغير من تركيبتها السنية، وهي أكبر مدينة بالعراق بعد بغداد، ومركز أكبر محافظة سنية فيها اليوم! وإليها يُعزى عدد من الأنبياء منهم نبي الله يونس بن متّى عليه السلام، وهي مركز محافظة نينوى بلد العبد الصالح كما في خبر عَدَّاس الموصلي مولى شيبة بن ربيعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خبر مشهور، وقد أخرجت هذه المدينة للأمة عبر تاريخها علماء كُثر نفعوا الناس بأعمالهم وعلمهم.
الموصل اليوم تتعرض لحملة إبادة وتهجير من حشود طائفية صفوية، تعاونهم على ذلك مللٌ أخرى عرفت بعدائها للمسلمين وكشأن عامة حملات الطغاة على مَرِّ التاريخ لا بد أن تصحبها حملات تسويغ إعلامية تتذرع بذرائع شتى. ومهما زخرفوا فمحصل (تبريراتهم)، وخلاصة منطقهم عند العقلاء: أنه بذريعة شرذمة غلاة ينبغي أن تُباد أمة، وتبدد قرى! يزعمون نجدة الناس وهم يقتلونهم ويشردونهم! يُغيثونهم ولكن بوابل من النيران والصواريخ التي لا تميز بين طفل بريء وامرأة ضعيفة وشيخ كبير وبين غالٍ ضال! بل يريدون من الغلاة أن يتجهوا صوب أماكن أخرى يجعلونهم فيها ذريعة لإكمال مخططهم في إبادة السنة، وتهجيرهم من مدنهم ومحافظاتهم! كما فعلوا في مناطق كثيرة! وما الفلوجة وبعقوبة عنّا ببعيد!
فما يحدث الآن لا يؤذن بإرادة خير، وصدق في إصلاح خلل! بل العكس هو الظاهر! يؤيده أن دول السنة إذا تحركت قواتها لضرب متطرفين متغولين على الدول المجاورة والحدود المتاخمة قامت الدعوات إلى وقف النزاع، والتأكيد على ضرورة الحوار وأنه لا حل للأزمة بغير ذلك، ويكثر الحديث عن أضرار الحروب وتتحرك مشاعر الإنسانية والحقوق تجاه الناس لدى الشرق والغرب كل ذلك إذا كان المتغولون المتطرفون المستولون على المدن رافضة كما هو شأن الحوثيين، وتَجْمُد تلك المشاعر وتتحجر تجاه المدنيين بل تُسترخص دماؤهم ما دام الضحايا هم أهل السنة، كما في حلب وعموم الشام والعراق وفلسطين!
وحيال هذه المستجدات والأحداث فإنني أتوجه بهذه الكلمات للمسلمين عامة، ولأهل السنة خاصة فأقول:
أولاً: إلى متى الخلاف معاشر الإخوة! الأعداء قد اتحدت كلمتهم يُقَتِّلون ويُهَجِّرون إخواننا يومًا بعد يوم من مناطقهم، ويتوسعون في مخططاتهم ونحن نقف أمامهم كالمتفرج الذي ينتظر حتفه! متى يعتبر العقلاء! إن واقع الأمة في العراق عجيب، يحيّر اللّبيب! فعلى رغم ما مرَّ به من محن ومآس لم يتفق أهل السنة وهم يطحنون، ويفتنون بسبب ذلك في كل عام مرات! وكذلك الشأن في الشام! قرابة خمس سنوات من تكالب الأعداء، الذين اتفقوا على اختلاف مللهم وأهدافهم في حرب أهل السنة! بينما أهل السنة لا يتفقون بل يتنازعون مع تعدد الوسطاء والمصلحين، ويقع بينهم من الشقاق ما لا يبشر بخير! بل يؤذن بحلول نقمة وعذاب! {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65]، فلنعتبر بالأحداث ولنتعظ بالآيات، ولنجانب سبيل من قال الله فيهم: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126]! {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]!
إنَّ أهل الحق من هذه الأمة يواجهون حَربين: حرباً عقدية تستهدف دينهم وعقيدتهم من خارج الأمة، ومن داخلها، كما قد جرى في مؤتمر الشيشان؛ تكالب العدو الخارجي والداخلي على معتقدات الأمة! ومنهجها الصحيح.
وحرب إبادة وتهجير وقتل وتدمير، نشاهدها في المدن العراقية، الفلوجة بالأمس، والموصل اليوم، وفي سوريا، ومن قبلهما أفغانستان!
يجب علينا جميعًا حُكومات ومحكومين مؤسسات وهيئات أن نتداعى ونتعاضد وأن نُقابل المشروع المشترك بمشروع مشترك، وأن نقابل الجهود بمجهود أوسع وأشمل وأوعى، وأن ننبذ الخلاف والشقاق؛ فوالله ما طمع العدو بنا إلاّ بسبب كثرة خلافنا وشقاقنا، وكتاب ربنا يقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
ثانيًا: أخاطبُ المشاركين في الحكومة العراقية من المنتسبين إلى أهل السُّنة وأقول لهم: إذا كنتم قد أعطيتم لمشاركتكم في العملية السياسية في ظل الهيمنة الطائفية تبريرًا ترونه أنتم مقبولًا؛ فإني أدعوكم لتقوى الله عزوجل وخشية بأسه وانتقامه؛ فأهلكم في الموصل من أهل السنة ينتظرون منكم نصرةً لهم، ودفاعًا عنهم، ونجدةً للمستضعفين منهم، وليس الوقوف مع عدوهم الطائفي ومساعدته في استباحة ديارهم، واحذروا مغبة إعطاء هذه الحشود الطائفية غطاء سياسيًا سنيًّا، بل احذروا السكوت على جرائم هذه الحشود الرافضية، احذروا فهؤلاء القوم عما قليل يفرغون لكم، وينقلبون عليكم ولات ساعة مندم، وقد رأيتم صورًا من هذا الانتكاس في مشاهد أخرى مشابهة؛ لأن الله لا يهدي القوم الظالمين، ولا يصلحُ عمل المفسدين.
ثالثًا: اعلموا معاشر المسلمين أن الظلم واسترخاص الدماء وإهدار الممتلكات كل ذلك من البغي في الأرض بغير الحق ومن الفساد، {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة:205]، وعاقبة الظلم والعدوان وخيمة عند كل العقلاء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} [يونس:23] {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} {} [الشعراء:227]، فالحذر كل الحذر من مشاركة الظالمين بأي نوع من الظلم فتحل علينا عقوبة الله.
رابعًا: إنَّ الله عز وجل حكيم في أقداره لطيف بأوليائه {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:4-6]، وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» [مسلم:2999]. فيجب ألا تزيدنا هذه الأحداث إلا قوة إيمان وصبر وحسن ظن بالله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
خامسًا: إلى المظلومين المكلومين من أهل السنة في الموصل وفي كل مكان، قد قلَّت الحيلة وضعف الناصر من إخوانكم، وكفى بالله حسيبًا، لينتصفنّ للمظلوم من الظالم أقسم سبحانه على ذلك فقال: «وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين» (السلسلة الصحيح:870)، {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60]، أعراضكم ودماؤكم وأموالكم لن تذهب هدرًا ولن تضيع عند الله سدى، ولا بد من يوم ترد فيه الحقوق، وتقاد فيه الدماء، وعلى الباغي تدور الدوائر، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، طهور ما أصابكم، كفَّر اللهُ سيئاتكم ورفع درجاتكم وحفظ دينكم وأبدلكم بعد حزنكم فرحًا وبعد ضعفكم قوة.
سادسًا: خذوا بما استطعتم من أسباب النجاة، ومن أهم ذلك: الاستقامة على الشرع، والتزام الأمر والنهي في حدود الطاقة، فذلك هو الفقه الواجب وتلك هي السنة، ولتأتلف قلوبكم وتصفوا، ولا يكن الاجتهاد من بعضكم سببًا لتفرقكم وعداوتكم، وليكن همكم بقاء بلادكم لأبنائها من أهل السنة، وعودة من أخرج منها إلى دياره ورباعه.
سابعًا: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40، 41]، انصروا الله ينصركم، وأُوبوا إليه يرفع ما بكم، وصيتنا لأنفسنا ولكم وللمسلمين جميعاً بتجديد التوبة وتعاهدها، ومن العجائب أنه لم يذكر قوم معينين في القرآن قد أظلهم العذاب وتهددهم ثم أقلع عنهم بتوبتهم إلاّ أهل بلدتكم! {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]! فيا إخوة الإسلام! {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
هذا وعلى المسلمين في العراق وخارج العراق أن يبذلوا ما استطاعوا للتخفيف عن الأبرياء وعن إخوتهم من أهل السنة في الموصل وحلب كل حسب وسعه وحسب مركزه، حتى لا يستأصلهم عدو شانئ، يقع هذا الواجب على عاتق الدول السنية، كما يقع ذلك على عاتق جمهور أبناء العراق في القرى والمدن المجاورة، وعلى من استطاع رفدهم ومدَّ يد المعونة لهم من المسلمين في كل مكان، ومن لم يجد إلاّ الدعاء بأن ينجي الله المستضعفين من المؤمنين وينتصر لهم فلا يستقلنّه ولا يستخفنّ به فشأن الدعاء عظيم، ولا سيما دعاء المضطر أَ {مَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، فيا من لم تجد حيلة توجه إلى ربك فإن الأمر بيده وقل ما رُوي عن نبيك صلى الله عليه وسلم بعد ما لقي ما لقي من أهل الطائف: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"، والأثر وإن كان فيه مقال من حيث الصناعة الحديثية إلاّ أن معانيه جليلة مشرقة، لم يزل أهل العلم والعباد يلهجون به عند المحن والكروب.
اللهم اقدر الخير للأمة وارفع البأساء والضراء عنها، وأصلح من في صلاحه صلاحٌ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم واعف عن تقصيرنا بحق إخواننا المستضعفين، ولا تكلهم إلينا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأهلك من في هلاكه صلاحٌ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يا رب العالمين {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
ناصر بن سليمان العمر
أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا
- التصنيف:
- المصدر: