في آفاق التفكير الإستراتيجيي والسياسي الإسلامي

منذ 2016-11-26

ويلزم الذي يبحث في السياسة والإستراتيجية أن يلم المامًا مناسبا بفهم صحيح لعلوم العقيدة والملل والنحل، والتاريخ الإسلامي والتاريخ بعامة، بالاضافة لعلوم الاقتصاد السياسي والاجتماع وجانب من الجغرافيا البشرية.

يعتبر التفكير الإستراتيجي من أصعب أنواع التفكير ليس لكثرة قوانينه وقواعده وتشعبها وتشابكها مع العديد من العلوم الاجتماعية الأخرى ولكن بسبب أنه يحتاج قدرة كبيرة على التخيل الواقعي لمدى زمني وجغرافي كبير، بجانب استلهامه دروس التاريخ على مدى زمني كبير يشمل كل الزمن وعلى مدى جغرافي كبير يشمل كل العالم.

والسياسة وفكرها تلي التفكير الإستراتيجي في الصعوبة فهي رغم صعوبتها تمثل صعوبة أقل قليلا من التفكير الإستراتيجي، وهذا الفرق البسيط يتلاشى لأنه كثيرًا ما تندمج السياسة بالإستراتيجية.

على كل حال فهذه كانت مقدمة لا بد منها للدخول لموضوعنا الذي هو عدد من الأفكار هدفها الدفع للتأمل السياسي والإستراتيجي من منطلق المعايير الفقهية المستقرة في مجال السياسة الشرعية، إنها دعوة لإطلاق الفكر للتأمل في آفاق السياسة والإستراتيجية الإسلامية بأسلوب سهل يستفيد منه الجميع ويدركه ويتفاعل معه غير المتخصص إن شاء الله.

ومما يسهل عملية التفكير الإستراتيجي أن يتخيل المتفكر ما هي أهدافه وتصوراته النهائية التي يريد أن يصل إليها، وفي حالة الحركة الإسلامية بكافة فصائلها الحيوية فالهدف هو إعادة الخلافة على منهاج النبوة، والتصور النهائي هو دولة إسلامية واحدة تضم كافة الأراضي الإسلامية التي يمثل فيها المسلمون أغلبية الآن.

وهذا التصور سيفرض عليك تخيل شكل هذه الدولة، والذي سنتعرض له في هذا المقال جانب من الشكل السياسي وليس كل الجوانب السياسية ونقصد به البناء السكاني للدولة إن جاز التعبير.

والمتأمل للرقعة الإسلامية المرجو توحيدها تحت راية خلافة راشدة على منهاج النبوة يجد أنها تضم أجناسًا وأعراقا شتى وأديانًا شتى ومذاهب فقهية متعددة وعقائد ومذاهب متنوعة داخل الدين الواحد.

فمن حيث الأجناس والأعراق سنجد تمثيل لمعظم الأجناس والأعراق الإثنية المختلفة الموجودة في العالم، نعم سنجدها كلها موجودة وممثلة في العالم الإسلامي (الدولة الإسلامية الواحدة)، كما سنجد الشرائع السماوية كاليهودية والنصرانية موجودة بنسب كبيرة من عدد السكان بجانب الأغلبية المسلمة، وسنجد الأديان غير السماوية كالمجوسية والصابئة (وإن كان لبعض الفقهاء رأي بأنهم من أصول سماوية محرفة)، كما سنجد الوثنيات المختلفة كما في جنوب السودان وفي أجزاء أخرى من أفريقيا وآسيا (عباد البقر والبوذية والتاوية وغيرها).

أما المسلمون فسنجد جميع مذاهبهم الفقهية كالشافعية والأحناف والحنابلة والمالكية والظاهرية وغيرهم، كما سنجد جميع فرقهم العقيدية كالسنة والشيعة والخوارج والصوفية والمعتزلة والأشاعرة، سنجد هذه المذاهب والفرق الإسلامية بكثرة وبنسب كبيرة جدًا من عدد السكان.

وسنجد الكثيرين من المسلمين المخلصين الذين تلوثت عقولهم بأفكار غريبة عن الإسلام بسبب الغزو الفكري الغربي السابق.

فكيف تكون علاقة كل هذه الأعراق والملل والنحل والمذاهب ببعضهم البعض من ناحية وبالدولة التي تحكمهم من ناحية أخرى (دولة الخلافة النبوية)؟

من يرد تصور هذا المشهد بطوله وعرضه وعمقه سيحتاج استدعاء الخبرة الإسلامية التاريخية حول ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم أجمعين، كما أنه سيمر مرورًا سريعًا بقدر قليل من التريث على الخبرة الاسلامية في العصر الأموي والعصر العباسي الأول لكن مروره على هذين العصرين سيكون مرورًا حذرًا باستثناء عصر عمر بن عبد العزيز الذي يشبه عصر الراشدين في التزامه بالأسس والمعايير الإسلامية.

وفي هذا التأمل سنلاحظ التسامح الإسلامي مع التنوع الديني والعرقي والمذهبي في إطار من الحزم والوحدة، وسيتأمل حرية الرأي وحرية الفكر وحرية التعبير الكبيرة، سيجد وحدة مقترنة بالتنوع وحزمًا مقترنًا بالتسامح وحرية منضبطة بالثوابت الإسلامية.

و لسنا بصدد تفصيل هذا الآن ولكن نريد فقط أن نتحرك بأفكارنا في رحلة إلى المستقبل يصحبها عبق الماضي التليد بأمجاده الموضوعية العملية وليست فقط أمجاده الوجدانية والحماسية كي يمكننا أن نتغلب على الفكر القاصر الذي يبتعد كثيرًا عن أدنى أبجديات التفكير الإستراتيجي والسياسي المنضبط بضوابط الشرع الإسلامي.

لا بد في هذه الرحلة أو الزيارة إلى المستقبل أن نتخيل متطلبات الدولة الإسلامية الناجحة من تجانس وتعايش اجتماعي وشعبي ومن استقرار سياسي واقتصادي ومن تكاتف وتكافل اجتماعي واقتصادي شامل ومن تقدم وتنمية وتطور مستمر في كافة المجالات.

وبعدما نتخيل كل هذا ونحدد معالمه الرئيسة لا بد أن نعود إلى واقعنا المعاش ونرتب خططًا وتصورات ومناهج ومواقف تنبني على مقتضيات التفكير المستقبلي الذي حددناه بزيارتنا للمستقبل بعقولنا على النحو المذكور آنفًا، ومجموع هذا كله سيمثل البناء المتكامل لفكرنا السياسي والإستراتيجي.

وعندما نتم ذلك كله في إطار من الضوابط والقواعد الفقهية، سنتمكن من الوصول إلى مستوى ناضج من التفكير السياسي والإستراتيجي الإسلامي، كما سنستطيع أن نرتقي بوجداننا إلى مواكبة هذا النضج السياسي والإستراتيجي مما يساهم في جعل أعمالنا في نفس مستوى تفكيرنا من النضج و العمق، لأنه أحيانًا يكون تفكيرنا منضبطًا شرعيًا وإستراتيجيًا ولكن وجداننا ومشاعرنا تكون على حالة مختلفة، لذلك لا بد من التوحد بين التفكير والوجدان.

وهذا المستوى من الفكر والوجدان سيغير من طبيعة أعمالنا و أنشطتنا المعاصرة لأنه سيكون منطلقًا جديدًا من أرض جديدة عقليًا ووجدانيًا، ليست جديدة فقط في صلابتها ولكن أيضًا جديدة في طبيعة وأنواع مكوناتها.

وإذا كنا فيما مضى من سطور قد بسطنا سبيلًا للتفكير السياسي والإستراتيجي، فإن سؤالا يطرح نفسه بشكل طبيعي بعد كل هذا الكلام وهو:

كيف يتمكن المرء من ممارسة هذا النوع من التفكير أو بتعبير أدق ما هي الأدوات العلمية التي تساعد المرء على سلوك هذا المسلك من التفكير؟

أول هذه الأدوات هو فقه السياسة الشرعية فهو القاعدة الأساسية في ضبط التفكير بالمعايير الشرعية في السياسة والإستراتيجية خاصة فيما يتعلق بالقواعد والضوابط الفقهية في مجال السياسة والاقتصاد والإستراتيجية، وينبغي الاهتمام بأصول الفقه لأنه منهج الفهم والاستنباط لكل ما ذكرناه من موضوعات شرعية كما أن التركيز على باب مقاصد الشريعة أمر هام جدًا في مجال الاستفادة بعلم أصول الفقه كأداة من أدوات التفكير السياسي والإستراتيجي.

ويلزم الذي يبحث في السياسة والإستراتيجية أن يلم المامًا مناسبا بفهم صحيح لعلوم العقيدة والملل والنحل، والتاريخ الإسلامي والتاريخ بعامة، بالاضافة لعلوم الاقتصاد السياسي والاجتماع وجانب من الجغرافيا البشرية.

هذا كله فضلًا عن علمي السياسة والإستراتيجة اللذين هما لب تخصصه.

لكن هذا كله لا يشغلنا عن أمر هام وهو القدرة العالية على التخيل والتوقع من خلال الأطر العلمية المذكورة.

ـــــــــــــــــــــــــــ

تم نشر هذا الموضوع فى عدد من مواقع الإنترنت وفي مدونتى القديمة بتاريخ 14 ديسمبر 2008.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

عبد المنعم منيب

صحفي و كاتب إسلامي مصري