حول واقعنا وآلامنا.. (2)
كيف هلكت الأمم، وكيف تهلك أخرى من بعد الأولين؟
كيف هلكت الأمم، وكيف تهلك أخرى من بعد الأولين؟؟ (معنى الذنوب المهلكة)
قامت حضارات ذكرها الله في كتابه، حصلت على التمكين وأسبابه، من العلوم والنظام، والتنظيمات الاجتماعية، وكانت لهم قوانين حاكمة {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} [الأنعام جزء من الآية: 6].
وحصلوا على اقتصاد قويٍ ومترف، وقامت بهم حضاراتٌ زراعية بما اشتملت عليه من مشاريع زراعية وشق أنهار وبناء لمستلزمات الحضارة، وأبنية ومساكن وعمران وترع وجسور وقنوات، وقامت قرى ومدن ومهّدت طرق ومواصلات، وزرع وحصاد، وتجارة وسفر وتبادل تجاري، وقوانين لتنظيم حال هذه المجتمعات، وقضاة وشرطة وجيوش، ومهن وحرف، وطبقات مجتمعية، وحكام وأمراء، وأشراف وسادة وعبيد وفقراء، وتمتعت باقتصادٍ مترفٍ وقوي {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} [ الأنعام جزء من الآية: 6].
ثم إنهم ارتكبوا ذنوبًا مجتمعيةً عامة توطأ عليها المجتمع وسرت فيهم واستقرت بغير نكير، وقبِلها المجتمع.
ذنوبٌ في اتجاه العبادة فتوجهوا بها للأوثان أو في جهة التشريع فتلقوه من غير الله، وذنوبٌ أخرى في استقرار الفواحش وشيوعها وقبول الأسر لها وشيوع الدياثة.. واستقرار الظلم والتجبر والبطش، وحدوث الخلل القيمي المجتمعي، أو في مظالم المال والعدوان على الحقوق..
وهذه الذنوب هي ذنوب عامة «إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم» (موطأ مالك: 1823) (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب) ( سنن الترمذي)
إنها ذنوب جماعية، في اتجاه العبادة أو رد الشرائع السماوية (الشرك)، أو المظالم الطبقية، أو الخلل المجتمعي، أو خللٍ عام في القيم بسريان الفواحش واستقرارها وقبول الناس لها وتربية الأم ابنتها عليها، أو خللٍ سياسي في التكبر والبطش وقطع الطرق وتخويف الآمنين، وعلى هذا النسق.
وللذنوب الفردية جزء من هذه العقوبات بحسبها، فإن كان ذنب امريء فيما بينه وبين ربه له عقوبته وشؤمه؛ فالمهلِك العام هو سريان تيارات انحلال ومظالم عامة واستقرار تبديل أحكام الله ومحادته تعالى.
فلا بد من معرفة ترتيب فحش وعقوبة الذنوب، وأن الذنوب الجماعية العامة والمجتمعية والسياسية، وفي المعنى نفسه الفحش العام المجاهر بها في الفن والإعلام والمؤثرات العامة، والشوارع الممتلئة بالتبرج الفاحش والدياثة من المحارم وإقرار المجتمع لها بلا إنكار، ثم ما دونها..
بهذا تفهم معنى كلمة (الذنوب) التي قال الله {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام جزء من الآية: 6]. وضرورة تصحيح الحالة العامة للمجتمع، فإذا جاء (شيخ) أو (داعية) فقال للناس غضوا أبصاركم ولا شأن لكم بما وراءها من الإباحية، تصدقوا ولا شأن لكم بما وراء ذلك من إباحة الربا وقيام الأنظمة عليها، وأطلقوا اللحى ولا شأن لكم بتبديل الشرائع، وحافظ على الأذكار ولا شأن لكم بولاء الكافرين وحصار المستضعفين من المسلمين..
عندئذ اعلم أنهم لا يعلمون معنى الذنوب، أو يعلمون ويلبّسون، أو لم يفقهوا عن الله تعالى قوله، ولم يبلغوا دين الله بل زوروه، ولم يواجهوا الباطل بل باركوه، وأن الباطل لا يكرههم ولا يرفضهم بل يحيا في ظلّهم ويأنس بهم ويدفع الناس عن مواجهة المظالم برقية هؤلاء، ولا نجاة للخلق بطريقتهم بل سيهلك الناس برقيتهم!
إن التوبة ـ كما تعني التوبة الفردية ـ فهي تعني التوبة العامة تقنينًا وتشريعًا، مؤسسات واتجاهات، ثقافة وتربية وإعلام وتعليم، أوضاع اجتماعية وسياسية وفكرية، ومن لا يسعى في هذا التغيير بل يقر الانحراف العام ويبارك الإستبداد ويحمي رموزه ويطالب الناس بالتزامٍ فرديٍ في ظل إقرار أوضاع الانحراف فاحذروه فليس وراءه إلا الهلاك، دينًا ودنيا.
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: