الدعوة الإسلامية في عام آت
منذ 2010-12-15
مضَى عامٌ كامل مِن أعمارنا، وكأنَّه ساعة من نهار، أو غفوة في ليلةٍ صيفيَّة قصيرة، مضَى بساعاته وأيَّامه وأشهُره كأنْ لم يكن، مضَى بإنجازاته وإخفاقاته، وأفراحِه وأتراحِه، مضَى فكان من نصيبِ بعضنا القُرْب والرِّفعة، وبعضنا البُعد والذِّلة..
مضَى عامٌ كامل مِن أعمارنا، وكأنَّه ساعة من نهار، أو غفوة في ليلةٍ صيفيَّة قصيرة، مضَى بساعاته وأيَّامه وأشهُره كأنْ لم يكن، مضَى بإنجازاته وإخفاقاته، وأفراحِه وأتراحِه، مضَى فكان من نصيبِ بعضنا القُرْب والرِّفعة، وبعضنا البُعد والذِّلة ومزيد مِن الهوان، مضَى بأحداثه الجِسام العظيمة، وبأحداثه التافِهة التي لم تلفت انتباهَ أحد، مضَى ومضَيْنا معه، نسيرُ في رِكابه، تحركنا الوقائع والأحداث ولا نُحرِّكها، نُدفَع دفعًا نحوَ أقدارنا المحتومة دون حراك منَّا أو أدْنى مواجَهة، فكثيرون منَّا لا يَملِكون من أمرِهم شيئًا، يَدورون مع عجلةِ الحياة حيث دارتْ بخيرها وشرِّها، فإن دُفعوا نحوَ الإنجازات أنجزوا وتميَّزوا، وإنْ دُفعوا نحوَ الفَشَل وسوء الفِعال خاضوا واقتحموا، ليس لهم رؤيةٌ أو إرادة في دفْع أنفسهم نحوَ ما يُعليها ويَنهض بها، أو ما يَدْفع عنها التكاسُلَ والدَّعة ومقاومة الفَساد والمفسِدين.
ولعلَّنا نتوقَّف في هذه الإطلالةِ القصيرة؛ لنُسلِّطَ الضوءَ على أمرٍ مهم يَقتضيه سياقُ الحال في مطلع هذا العام الهِجري الجديد.
إنَّ عاملاً مهمًّا من عواملِ رِضَا الإنسان عن نفْسه يأتي من خلالِ تحقيقه لذاته في عملِه للدنيا أو للآخِرة، فإن تحقَّق له نجاحٌ ما في عمله أو مؤسَّسته، أو معركته إزاءَ الظلم والفساد، أو على مستوى عملِه الدعوي وتربية الأفراد، وبثِّ الحماسة في نفوس الشباب، وتحريكهم نحوَ العمل لدِين الله تعالى - إنْ تحقَّقَ له شيءٌ من ذلك شعر بحالة من النشوة، ولُغة من الانتصار تُسيطر على جوارحه، هذه الحالة تَدفعه إلى مزيدٍ من البذل والعطاء والتضحية، أمَّا حالة الخمول والكسَل والترهُّل الدعوي التي يعيش فيها البعضُ، فإنَّها تدفع نحوَ مزيدٍ من الدَّعَة والإخلاد إلى الأرْض؛ ذلك أنَّ الماء الراكد آسِن، وكلَّما ازداد ركودُه زاد أُسُونُه، والنفس البشريَّة تَميل أكثرَ ما تَميل إلى الالْتصاق بالطين، فهو طبيعتُها التي تحنُّ إليها، فإن تُركت وما تشاء تبعتْها الجوارحُ فكانتْ به أشدَّ التصاقًا، وبات نزعُها من التصاقها أمرًا عسيرًا يحتاج مجاهدةٍ ومكابدةٍ لإعادته إلى سياقِه الصحيح.
قد تمرُّ بالإنسان حالاتٌ من الفتور، أو الملَل، أو الإرهاق؛ مِن كثرة الأعباء الدعويَّة أو الحياتيَّة، وقد يكون التخفُّفُ من الأعمال أو أخْذ قدْر من الراحة - أمرًا ضروريًّا في بعضِ الأحيان، ولكن ينبغي ألاَّ تطولَ هذه المدَّة؛ فتُحدِث لدَى الداعية أو العامل نوعًا من استمراءِ القعود، وتبرير التقاعس، وقد يُزيِّن له شيطانُه رؤيةً ما حول فساد الواقِع، وانقطاع الأمل في إصلاح الناس، لا سيَّما مع استشراءِ الفساد، وسيطرته على مواقعِ النفوذ، واعتياد العامَّة - والنخبة - على رُؤيته، بل والخوْض فيه أحيانًا مع الخائضين، فهذه الحالةُ التي تسيطر على الداعيةِ أشْبه ما تكون بالفَيضان، تُفيض فيه مشاعرُه السلبيَّة على أرضِ دعوته الخِصْبة، فتُغرِقها وتُفسد زَرْعَها، أما الحالة الصحِّية التي يعيشها الفردُ المتوازن نفسيًّا، فهي حالة المدِّ والجزر القمريَّة، والتي فيها تمتدُّ مشاعرُه السلبية حينًا كسحابةِ صيْف عابِرة، سرعانَ ما تَنقشِع وتعود إلى طبيعتها، فتُشرِق شمسُ الحقيقة في قلْبه، ويثوب إلى رُشْدِه من جديد، فتجزر تلك المشاعر لتحلَّ محلَّها الهِمَّة العالية، والدفعات الذاتية التي تسوقه نحوَ الهدف، فيُسيطر المدُّ على الجَزْر، ويكون مَدُّه في حياته أكثرَ من جَزْره.
إنَّ أكبرَ ما يُفتِّت الفؤادَ، ويُحرِّك ماء العين أن يكونَ لدَى الفرْد من الإمكانات العقليَّة والعلميَّة والفِكرية ما يُؤهِّله للقيادة والرِّيادة، والدعوة والإصلاح، ثم هو قاعدٌ ليس له عملٌ ضمنَ سعي العاملين، ولا قلم ضِمنَ أقلام الكاتبين، ولا رُؤية عميقة ضِمنَ رُؤى المفكِّرين، فهو عبءٌ على الدعوةِ، وعلى الأمَّة ليس إلاَّ، يأكُل ويَشْرَب، ويحيا ويموت كالأنعام، فعِلمه لا يتعدَّى حدودَ جمجمته، ورؤاه محبوسة في قُمقمٍ عميقٍ في ضميره، وحَرَكته الدؤوب التي بلغتِ الآفاق قَبْلاً، باتتْ مجرَّدَ ذكريات تُساق على سبيلِ التفكُّه والتندُّر، وتذكُّر الأيَّام الخوالي، والتباكي على أطلالِ الدعوة.
إنَّ عجزَ الثِّقات في زمانِنا هذا بات غيرَ مقبول في ظلِّ جَلَد الكفَّار والمفسِدين ومثابرتِهم وتواصيهم على الشرِّ والإفساد، وإنَّ هذا المكان الذي يترُكه داعيةٌ مؤهَّل لشرَف حمْل هذه الرِّسالة، هذا المكان الشاغِر سيُملأ حتمًا بأحدِ مَن لا يستحقون، فيضل الأمَّة، ويُميِّع لديها القضايا، أو يُدخِلها في مواجهات كانتْ أغْنَى ما تكون عنها.
لقدْ تَصدَّر في هذا الزمان أدعياء، فَتَنوا الناسَ في دِينهم، وشكَّكوهم في عقيدتهم وثوابتِ إسلامهم، حتى صارتِ المجتمعات تَحمِل من التناقضاتِ الفَجَّة الزاعِقة الشيءَ الكثير، سيما الصلاة التي تُزيِّن جباه كثير من المسلمين أصبحتْ مجرَّد ديكور تتجمَّل به الوجوهُ الراشية والمرتشية والمزوِّرة، وحجابُ المرأة تحوَّل لدَى كثير مِن النِّساء في مجتمعاتٍ إسلاميَّة واسِعة إلى عادةٍ تَزيده المرأةُ وقتَما تشاء، وتُقلِّص مساحتَه متَى أرادت!
وما هذا التناقض إلا نتيجة طبيعيَّة للتناقض الموجود لدَى بعضِ الداعين إلى الله أنفسِهم، بدءًا من الأطروحات الفِكرية التي قد تُصادِم الشَّرْع، وتتأثَّر بالمناهج الغربية المعادية للإسلامِ أحيانًا، وانتهاءً بالخَلَل الموجود لدَى الكثيرين في هديهم الظاهِر أو موافقتهم للظالمين والمفسِدين أحيانًا أخرى.
مِن أجْلِ ذلك فعَلى كلِّ مَن شهِد لنفسه، وشهِد له غيرُه من أهلِ الثقة بقوَّة الحُجَّة، وسلامة المنهج، وعُمْق الفِكرة، ونفاذ البصيرة، والتمكُّن من الدعوة، ألاَّ يترُكَ موقعه لمتطفِّل آخرَ ربَّما أفسد أكثرَ مما يُصلح، بل ربما أفسَد مِن حيث يظنُّ أنَّ فيه الإصلاح، فالموتورون والمبتسرون والمتصدِّرون قبلَ تمام النُّضج من الأدعياء يُعرِّضون أنفسَهم إلى أمراض قلبيَّة ودَعويَّة خطيرة، كفيلة بتحوُّلهم الكامِل عن الطريق، وتُشْرَب قلوبهم بحبِّ المناصِب والرِّياسة، والكراسي والميكروفونات؛ ما يدفعهم لتقديمِ مزيدٍ مِن التنازلات في سبيلِ إرضاء ذواتهم ونزعاتهم، والمحافظة على مناصبِهم وكراسيهم، حتَّى وإنْ كانت مناصبَ دعويَّة، وكراسي دعويَّة، وميكروفونات دَعوية - فضلاً عمَّا تُنتجه دعواتُهم مِن أفرادٍ ناقصِي الأهلية خاوي العُقول والأفئدة مِن المعاني الإسلاميَّة الحقَّة، بل وتَجْعَلهم متشبِّعين بمعانٍ مَدْخولة مستعمَرة تُروِّج لإسلامٍ لا نعرِفه، ودِين غير محترَم يَزدريه الأعداءُ والأصدقاء.
إنَّ الثِّقات مُمْتطي الخيول في الأمَّة كثيرٌ، ولكنَّهم مدفونون تحتَ تراب الانعزال، وفي رِمال الغَيْبة عن المجتمعِ، والمشاركة في فعالياته وصناعةِ أحداثه، يعيشون في المعاملِ الدعويَّة والعلميَّة المغلَقة، وإنَّ لشبابِ الأمَّة عليهم حقًّا في الاقتداءِ بهم والتأسِّي، وما لم يرَ الشباب ثقاتٍ شجعانًا يَقفون في وجهِ الظُّلم، ويَهتِفون برفضه بعلوِّ الصوت، فلن يكونوا شُجعانًا، ولن تتحقَّقَ في الأمة شجاعتها، وسيُسيطر عليها الجُبنُ والخوف والإذعان لجلاَّديها، وسيعلو صوتُ الباطل، ويُصِم آذانَ الحقِّ بموجات صوتِه العالية.
ورغم مرارةِ الواقِع، وسوادِ الصورة، وتكالُبِ الأعداء، وإعجاب كلِّ ذي رأي برأيه، وضياعِ الكلمة، وتشتُّت الجهود، يرى المتابعُ وميضَ نار، تُوشِك أن يكونَ لها اضطرام، فالمِنحة تَخرُج مِن رَحِم المِحنة، وقوَّة ضغط الباطِل أيقظتْ طائفة من الثِّقات النائمين فوقَ سَرير العُزلة، وتحت لِحاف الغَفْلة، والأيام حبلى بالمزيدِ مِن التيقُّظ لمحاولاتِ الباطل اختراقَ الصالحين من الدُّعاة، والطالحين من الأدعياء، واستخدامهم بوعيٍ أو بلا وعي لتجميلِ الباطل، وتزيين أربابِه، ودَحْر الحقِّ، والإساءة إلى معتنقيه، ولعلَّ في ذلك التفاتةً أخرى إلى ضرورةِ التمسُّك بالمنهج النبويِّ في القَبول والرد، فما كان موافقًا للشريعةِ فهو الدِّين، وما كان مخالفًا لها، محرِّكًا بذورَ الشك في القلوب فليس منه كائنًا مَن كان قائلُه، فالرِّجال يُعرَفون بالحقِّ الذي معهم لا الحق يُعرَف بالرجال.
ومع بدايةِ عام جديد وانتهاء مَوْسم الأرباح السياسيَّة، وانتخابات مجلس الشَّعْب الذي رَبِح فيه من رَبِح، وخَسِر فيه مَن خَسِر؛ فلعلَّه يَتعيَّن على ثِقات الأمَّة على جميعِ المستويات أن يَقِفوا وقفةَ تأمُّل ومحاسَبة لِمَا سبَق، وما هو آتٍ، بنظرةٍ متعمِّقة في أسلوبِ ممارسةِ العمل الدعوي والتربوي والسياسي، يَتبصَّر فيه العاملون مِن جميع الأطياف الدعوية جدْوَى ممارسة العمل بطريقةٍ ما، وتَقييم المرحلة السابقة، وكيفية تعاطيهم مع مذاهبِ أهلِ الباطل، وتعاملهم مع الفصائلِ العاملة الأخرى، وهل يُمكن أن يكونَ هناك نوعٌ مِن التنسيق والتعاون فيما بَينهم؛ لتحقيقِ مزيدٍ من المنافع المتعلِّقة بالعمل، كل هذه رُؤى جديدة تحتاج إلى مزيدٍ مِن الدراسة، والبحث والتنقيح.
فإلى عامٍ جديدٍ سعيد، نقترب فيه من ربِّنا، ونقترب فيه من إخوانِنا، ونقترب فيه من أهلِنا وذوينا، فلعلَّ الرحمة تكمُن في القُرب، ولعلَّ النصرة تسكُن في القُرب، ولعل القُرْب من الله يتحصَّل بالقُرْب من خَلْقه، وإصلاح ذات البَيْن، والتعاوُن على البِّرِّ والتَّقْوى، ونبْذ العصبيَّة والمذهبيَّة المقيتة، التي فتَّتِ الكلمة وشتَّتَتِ الجهد، والله من وراءِ القصد.
المصدر: محمد الغباشي
- التصنيف: