لصوص المونديـال!

منذ 2010-12-16

وأضحى المودنيـال أولى من قضايا أمتنـا التي تعاني ما تعانيـه من تكالب الأعداء، وخيانـة الأبنـاء، وعلى رأسها قضية الأقصى السليب، وغـدا مقدَّما على كلّ مشاريع التنميـة التي تفتقـر إليها شعوبنا...



ما أرى الأمريكيين يثيـرُ قلقهم هذه الأيام، شيءٌ أكثر من توقعهـم صدور شريط قادم لأسامة بن لادن يشمت بهم بعد فضيحة الوكيليكس، كان الرجل يقول للعالم إنّ هؤلاء الذين يتعاملون مع العالم بعقول الأطفال التي لا تفهـم، ونفوس الوحوش التي لا ترحـم، يستحقون ما نفعل بهم، ثم جاء الويكليكس فنشر مئات الآلاف من الوثائق!!..
ما بال أوليـاء الطغاة لا يصطلون إلاّ بنارهـم، ولا يعذَّبون إلاّ بسيـاطهم، سبحـان الله.. {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} [سورة الحشر: 16].

دعونا من الويكيليكس فإنها أضحـت الناطقـة بألف ألف لسان، المجادلة عن نفسها، لا تحتاج إلى غيرها، ولا ريب أنّ قنبلتها العنقودية ستأخذ أقصى مدى في الزمان، وهي تفجّر فضائحها المتتالية إلى أمـدٍ لا يعلمه إلاّ الله تعالى، فهي بتدمير أعدائهـا كفيلة.

ولنأخذ في شأن هذه الهستيريا البلهاء التي تُسمَّى (المونديال)!

يقول السير توماس أرلوند في كتابه العجيب (الدعوة إلى الإسلام، ص 7): "ويظهر أنّ أخلاق صلاح الدين وحياته التي انطوت على البطولة، قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيراً سحرياً خاصاً، حتى أنّ نفراً من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه، أن هجروا ديانتهم المسيحية، وهجروا قومهم، وانضموا إلى المسلمين، وكذلك كانت الحال عندما طرح النصرانية فارس انكليزي من فرسان المعبد يدعى روبرت أوف سانت ألبانس Robert of St. Albans عام 1185 م واعتنق الإسلام، ثم تزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين، وبعد عامين غزا صلاح الدين فلسطين، وهزم الجيش المسيحي هزيمة منكرة في واقعة حطين، وكان جوي ملك بيت المقدس بين الأسرى، وحدث في مساء المعركة أن ترك الملك ستة من فرسانه، وفرُّوا إلى معسكر صلاح الدين بمحض إرادتهم".

جاء في كتب الأدب أنّ كبشة بنت معد يكرب الشاعرة الجاهلية، عاتبت أخاها عمرو بن معد يكرب، تعيـِّره بميله إلى قبول دية أخيه المقتول، فقالت:
ودع عنك عمْراً إن عمْراً مسالم *** وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم؟!

وهي ترمي إلى أن همَّته تعلقت ببطنه -وما هي إلاّ شبـر طعام- ولهذا آثر الدية على كرامة أخذه بالثأر، لكنه لما سمع بيتها، نهض بعدُ وأخذ بثأر أخيه.

وأظن أنَّ العلامة الندوي علـّق على هذا البيت بأن كيف لو رأت كبشة معدة هذه الجاهلية المعاصرة، وقـد تمدَّدت حتى وسعت الأرض.

وأقول فكيف لو رأت كبشة، ثم العلامة الندوي، أنَّ الهمة نزلت حتى تعلقت بأسفل ما في الإنسان وهو قدمه!، وصار الركض وراء الجلود المنفوخة، هو المجد الأعلى، والفخـر الأولى!

حياة صلاة الدين، وأخلاقه، وبطولاته، التي تحدث عنه السير توماس أرلوند، إنـما نبتت من أرض سُقيت بثقافة الهمم العالية، وأشرقت عليها شمس تشعُّ معالي الفضائـل، وتنفَّست هـواء أمجاد البطولة الحقيقية، بطولة التضحيات العظيمة في سبيل العـزَّة السامية.

ولم يكن صلاح الدين ليحرِّر الأقصى ويعيد لهذه الأمة العظيمة عزّتهـا بعد نحـو قرن من احتلال الصليبين للقدس إلاّ ومعـه جيـلٌ نبت معه، من نفس تربته، وأشرقت عليه تلك الشمس، وتنفّس ذلك الهواء النقي.

يقول المؤرخ البريطاني Stanley Lave في كتابه عن حياة صلاح الدين، واصفا الجيل الذي كان مع صلاح الدين: "لقد وقف العالم المسيحي وقفة رجل واحد إزاء المسلمين، ولكنّه لم يستطع أن يزحزح صلاح الدين عن مكانه، كان جيش صلاح الدين قد أعياه الجهاد الطويل، والمتاعب العظيمة، وقد ظل أعواماً طوالاً مرابطاً، مناضلاً، مكافحاً عدواً قوياً جـداً، لكن لم يسمع من جندي واحد أنين، أو شكاة، أنهم لم يتأخروا يوماً في الحضور، ولم يضنوا قط بالنفائس والنفوس، كلّما دعاهم صلاح الدين للجهاد، وكلّما استفزهم للقتال، وربما شكا أحد الأمراء التابعين له في بعض أودية دجلة البعيدة من هذه النجدة التي لا تكاد تنتهي، ولكن قدموا ببعوثهم، وحضروا بجيوشهم لنصرة السلطان كلَّما طُلبوا. وقد قاتل الجيش الموصلي بكـلّ بطولة، وحماسة في حرب أرسوف الأخيرة، وكان السلطان واثقاً بأنـّه سيأتيه المدد من جيوش مصر والعراق، وكذلك من جيش الشام الشمالي والمركزي، وكان التركمان والعرب والمصريون خدمة أوفياء للسلطان، وحضروا كالعبيد كلَّما طلبهم السلطان، وقد مزج السلطان هذه العناصر المختلفة مزجاً غريباً، وألف بينهم رغم ما فيها من اختلاف في الجنس، والقومية وما بين أفرادها من خلافات داخلية، ومنافسات قبلية فكانوا كالجسد الواحد".

إنَّ الأمة اليوم وهي تسمع على مدار الساعـة، ما يلقاه المسجد الأقصى من تهديدات تقترب من فاجعـة إنهياره، في ظـلّ إنتشار الجيوش المحتـلّة للبـلاد الإسلاميـة، والقواعد الصليبية المنتشـرة حول فلسطين الحبيبة، وعلى طول أصقاع الثروات من أفغانسـتان إلى جنوب السودان، هـي بأمسّ الحاجة إلى إشاعة الثقافة التي تثمـر مثل ذلك الجيل الذي كان مع صلاح الدين فحرر الله بهم الأقصى، فرسموا بأحرف النور، عنوان المجـد على نجوم سماء العـزّة.

ومـا أمـرُ هذا الذي يُسمَّى (المودنيال) عن هذا ببعيـد، ولا نقصد هنا الرياضة؛ فالرياضة في شريعتنا مباحة، وقد يُندب إليها -وما يحقق مصلحة الجهـاد يجب في بعض الأحـوال- إذ كلُّ محبَّب للنفس، مثير للبهجة، مفيد للحياة، مشروع في الإسلام، مرغـبٌ بـه في دين السماحة.

غير أنّ حكاية ما يسمى (المونديـال) ليس بهذه البساطة، إنها شيءٌ آخر تماما، إنها قصّة اللصوصية في أجلى تجلّياتهـا، ولا نقصد هنا ما في منظمة (الفيفا) من فسـاد مالي، ورشـوة -إذ هي من أكثر المنظمات فســادا في العالم- بل نعني أمـرا آخـر!

فأوّل شيء يُسرق فـي بيع أوهام المجد المزيَّف هـذا، مجـد الأقدام الراكضة، من (العارضة) إلى (العارضة)،
هــو هويـّة الجيـل، وأخـلاقه.

ولتنظروا إلى أولئك المساكين الذين خرجوا يصيحون في الشوارع، كأنهم قد زُفَّ إليهم نبـأ تحريـر الأقصى، كيف غـُرز في نفوسهم، أنَّ (المونديـال) هو أسمى غايات الحياة، وأعلـى سلَّم الهـمم، وأعظـم إنجازات الأمـم!!؛ ولهذا، فلاريـب أنّ كلَّ شيءٍ في قطـر سيُسخَّـر إلى أن يأتي عام 2022م، من أجـل تحقيق نجاح موهوم، وشرف معدوم، في شهر واحـد لـن يتكرر في التاريخ!

وهذا يعني أنْ تفتح الأبواب على مصاريعها لكـلّ فساد يرغب القادمون من أنحاء العالم أن يرثعوا فيـه، وهم في (دوحة المودنيال)، أثنائـه، أو قبل ذلك، من الشركات التي ستعـدّ البـلاد لشهـره المنحوس!

وأنـَّه كلَّما علت أصوات الغيورين على هوية المجتمع من الضياع سيقال لهم أتريدون أن يفشـل (المونديال)؟!،
وسيتحوَّل المونديال إلى إلـه يُستباح لـه كـلّ محرم -من الخمور إلى الدعـارة- كل محـرَّم حرَّمـه ربُّ العالمين، في شريعة سيـِّد المرسلـين، حتى يرضـى!

وسيُقضى على ما تبقـَّى في قطر من سمات المحافظة الفاضلة، في شعب طيب كريم محـبِّ لدينه، معـتزّ بانتمائه لأمّتـه.

كلُّ ذلك باسـم (صنم المودنيال)؛ فالمودنيال قـد يلزم لـه صالات الرقـص!، والمودنيال لا يحقق أهدافـه على التـمام إلاّ بحانات الخمـر، والمودنيال لا يتوقع نجاحه إلاّ بتعليم شبابنا ثقافـة التحـلُّل، وشاباتنا فنون الترحيب بالضيوف بالهـزّ، واللـزّ!

وأما السرقة الثانية فهي سرقة المفاهيـم الحقـّة في الأمـَّة، مفاهـيم البطولة الحقيقية، والإنجاز الذي يستحق الاعتزاز، وذلك بتزييف (الوعي المفاهيمي) لدى الناس بإضفـاء ألقاب البطولات، والأمجـاد، والإنجازات العظمى، وتحقيق الأهداف العليـا، على ما ليس له من هذا كلـَّه أدنى نصيب، على ركض، ولعب، ولهـو، لا ينتهي بالناس إلى صلاح في دينهم، ولا إصلاح في دنياهـم!

ثـمَّ تكريس هذا الزيف حتى يصبح هـو ثقافة الناس، فلا يبقى في عقولهم، وقلوبـهم مكانٌ لسواها، ويلتهون بذلك عن كـلّ مهم من قضايا أمّتهم.

وأما السرقة الثالثة فهي سرقة الثروة، ثروة الأمـّة التي هـي عزُّها، وسـرُّ قوّتهــا، ومعقـد نهضتها، وقـد غـدت في هذا العصـر نهبـاً لكلّ ناهب، وسلبـاً لكلِّ سالب، من أجنبيّ يسخـّرها لهيمنته، وأنظمة تستنزفها في ملذاتهـا، وأطماعهـا.

فسيُهدر على إنجاز هذه (الأوهام المونديالية)، مئات المليارات -في وقت ترزح فيه الشعوب العربية بالفقـر، والجوع، والجهـل- تتقاسم أرباحها الشركات الأجنبية الغربية، والمتنفّذين المحلييّين، ويجري تحت ذلك ما لا يحصيه إلاّ الله من التجاوزات -كعادة البلاد العربية- بلا رقيب، ولا حسيب، فلا يوجد في بلادنا العربيـة، مجلسٌ نيابـيُّ يمارس دورا رقابيا حقيقيـا على المال العام، ولا مؤسسات مدنيـّة تتحــرّك ضـد هذا الفساد محميـّة بالنظام نفسه، وتدعمها صحافة حـرّة.

لقد أصبح المونديـال أهم من مشاريع الإنقاذ السياسية التي تحقق لشعوبنا آمالها، وترقى بها إلى مصاف النظم السياسيّة المتطوِّرة، التي تنتخـب فيها الشعوب قيادتها، وتحاسبها، وتسخـّر إمكانات الأمـّة وثروتها لمصلحة الأمّـة وعزّتـها.

وأضحى المودنيـال أولى من قضايا أمتنـا التي تعاني ما تعانيـه من تكالب الأعداء، وخيانـة الأبنـاء، وعلى رأسها قضية الأقصى السليب، وغـدا مقدَّما على كلّ مشاريع التنميـة التي تفتقـر إليها شعوبنا.

والسرِّ وراء ذلك، أنَّ (المونديـال) هو مصدر المال، معبود الأنظمـة العربية، أمـّا مشاريع الإصلاح الحقيقية فهي مصدر الإزعاج والقلق بالنسبة إليها!!

هذا ولا يظننّ أحـدٌ أنَّ الدول الأخـرى ليسـت بأحرص على مثل هذا السقوط، بل هي أضحـت متحسِّرة على ما لـم تنل، حاقدة على قطر حقد الجمـل!

ولو قيل إنَّ هذا كلَّه قـد أُعـدِّ سلفا لتحقيق ما ذكرت، وللوصول إلى ما إليه أشرت، لكي تغـرق الشعوب العربية أكثـر بهذه الأوهام.

لاسيما والتهديدات على المسجد الأقصى بلغت ذروتها، وتهويد القدس ماض بلا هوادة، والمخطط الصهيوغربي يعـدُّ خططا جديدا لتفتيت الأمة، أشدّ مما هي مفتتة، وتمزيقها أكثر مما هي ممزقة، فليس ببعيـد قوله، ولكن يبـدو أنـَّه لم يعـد ثمة حاجة إلى عقد هذه المؤامرات الخفيـّة، بينما الأنظمة العربية أصبحت تتحرك تلقائيا وفق خطط الإنحطاط بالأمـّة بسبب ما أحاط ويحيط بها من ظروف وجودها، وإستمرارها ، فكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضح!

وأخيـرا فإنَّ المكلَّف شرعا اليوم -فرضا جازمـا- بمراقبة ما يجري في قطر من خطط خطيـرة لتهيئة المجتمـع القطري لتغييرات مخيفة، تحت شعـار (ثقافة مونديال 2022م) هـم العلماء، والدعاة، والغيورون على دين الناس، وأخلاقهم، وهويتهم.

فعليهم أن يؤسِّسوا من الآن هيئة رقابة صالحـة، تقوم بواجبها بالوسائـل المشروعة، يُختار لها من أبناء المجتمع القطري الكريم، صفوة منتقاة، فيتابعون ما يجري عن كثب، ويقومون بما يجب عليهم من واجب حماية الدين، والذود عن الهوية الإسلاميـّة، والدفاع عن الأخلاق، ووقايـة المجتمع القطري من فيروسات الرذائل، وجراثيـم الفساد.

لاسيما والناس تسمع عما يجري من تغريب مخيف في المجتمع القطري آخـذٌ بالإنتشـار سريـعا، بالإضافة إلى تفريـخ مفزع لمؤسسات تخريب الهوية التي تتكاثـر وسط صمـت غير مقبـول!، وسكوت غير مسؤول!

والله المسـتعان،

اللهم إنـّا قد بيّنـا، وعليك اللهمّ البلاغ، والله حسبنا، عليه توكلنا وعليه فليتوكـل المتوكـلون.

بتصرف يسير
 

المصدر: موقع الشيخ حامد العلي

حامد بن عبد الله العلي

أستاذ للثقافة الإسلامية في كلية التربية الأساسية في الكويت،وخطيب مسجد ضاحية الصباحية