العبيد لا يصنعون حضارة

منذ 2010-12-20

ماذا يفعل الإنسان عندما يجد أن القيم قد فقدت قيمتها، وكيف يتصرف وهو يرى حضارته تتحشرج في صدرها الأنفاس الأخيرة، ويهاجمها السوس ينخر أصل جذورها، والجراد يلتهم الخضرة من فروعها وأوراقها، فلا تملك الطيور المبدعة إلا أن تهجر الأعشاش التي بنتها...


ماذا يفعل الإنسان عندما يجد أن القيم قد فقدت قيمتها، وكيف يتصرف وهو يرى حضارته تتحشرج في صدرها الأنفاس الأخيرة، ويهاجمها السوس ينخر أصل جذورها، والجراد يلتهم الخضرة من فروعها وأوراقها، فلا تملك الطيور المبدعة إلا أن تهجر الأعشاش التي بنتها، وتأوي - يائسة أو مترفعة- إلى حزنها وصمتها؟
ماذا يفعل هذا الإنسان، وهو يشعر بالاضطراب والخلل في كل شيء، ويفزعه خلو الساحة لعقارب الخسة والغدر، وكلاب السلب والنهب، وقرود الوصولية والإنتهازية؟
أيبقى أمامه إلا أن يصرخ ويحذّر وينذر؟!! أو يسقط في الهاوية التي تتعطل فيها إرادة الحياة، وتشلّ القدرة على الاختيار، والمبادرة والفعل الحر؟!!!


القابليـة للإسـتعباد:

لا شك أن الطغيان مأساة في حياتنا، ولا شك أيضاً أننا لم نستطع بعد أن "نقبض" على أسباب هذه المأساة عبر تسليط أضواء البحث العلمي الجاد على كل أبعادها؛ فعلى الرغم من الكم الهائل من الكتابات والتحليلات والتفسيرات التي خرجت إلى النور حول هذه المأساة لم تزل ظلال الطغيان وأصداؤه المعتمة تتردد في صرخات الشكوى والأنين التي تنبعث بين الحين والحين.
"ومع أن مفهوم الطغيان يرتبط بمفاهيم أخرى عديدة: كالاستبداد، والتسلط، والحكم الفردي المطلق... ويثمر ثماره المسمومة في ألوان التعصب والتطرف، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، التي نشقى بغصصها، ونتوجس خيفة من أخطارها؛ فإن المشكلة تظل قائمة، وهي أن الطغيان لم يأخذ حقه من اهتمام الدارسين والباحثين في العلوم الإنسانية بوجه خاص، على الرغم من أنه هو رأس المشكلات والأزمات، وأوْلاها بالدرس، والتحليل والنقد والعلاج...."(1).


لم يحدث هذا الذي يحدث، وكيف يحدث؟.. يا إلهي.. إنه نوع من الانتحار نُستدرَج إليه بأيدينا!!
كيف يسقط البشر في أصفاد العبودية، وكيف يخضعون لجبروت فرد مثلهم، يأكل مما يأكلون منه؛ ويشرب مما يشربون؟
"لست أبتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس أن يحتملوا طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على ذلك إلا بقدر احتمالهم الأذى منه. إنه لأمر جلل حقاً، وأدعى إلى الألم منه إلى العجب أن ترى الملايين يخدمون في بؤس، وقد غُلّت أيديهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر، بل هم فيما يبدو قد سحروا؟"(2).
إن القرآن يعيب على المستضعفين تذللهم للمستكبرين، وخضوعهم لهم في غير ما أمر الله: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْـمَلائِكَةُ ظَالِـمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إلاَّ الْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْـمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 97-100].

وصوّر القرآن في عدة آيات النقاش الذي يدور في النار بين المستضعفين والمستكبرين.. الضعفاء يعتذرون بأن الكبراء أغروهم.. والكبراء يتنصلون، ووضّح القـرآن أن هذا الاعتذار لا يعفي المستضعفين من المسؤولية، وأنه لا يخفف عنهم العذاب.
{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِـمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَـمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[سبأ: 31 - 33].
{وَإذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}[غافر: 47-48].
وغيرها من الآيات كثير، تصور مسؤولية المستضعفين، ومغبة تسليمهم، وخضوعهم المطلق للمستكبرين.


وتدعو بكلماتها وحوارها كل مؤمن أن يتحدى العقبات التي تعترض طريقه في السعي والتحرك، وأن يعد لكل عدو سلاحاً، فأما الجبن فيواجهه بالتوكل، وأمّا الخوف فيستعين عليه بالثقة بالله، وأمّا مغريات الدنيا فيستعد لها بقوة الإرادة، وأمّا لوم اللائمين ومدح المادحين، أو الأغلال الاجتماعية الأخرى فيتسلح ضدها باليقين؛ فلا يخاف في الله لومة لائم، كما لا يثنيه مدح المادحين عن الاعتراف بعيوبه ونقائصه.
إن الأغلال التي وضعت على الجاهليين في مكة هي التي أركستهم إلى العبودية الذليلة؛ فلما جاءت رسالة الإسلام وضعت عنهم هذه القيود.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْـمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْـخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].

واليوم تشكّل الأفكار الخاطئة، والمفاهيم المنحرفة قيوداً وأغلالاً تمنع المسلم من التحرّك لتغيير واقعه، واقع العبودية الذليلة، ولن يضع عنه الأغلال التي صارت عليه إلا تصحيح تلك الأفكار، ومنها:
ـ اعتقاد أن "لا إله إلا الله" كلمة تطلق في الهواء، وأنه ليس لها مقتضيات!!
ـ حصر العبادة في الشعائر.. بينما هي غاية الوجود الإنساني كله: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ـ الخضوع لأي سلطة مهما كانت الشريعة الذي تقوم عليها، بزعم أنها أولو الأمر(1).
إنه لا يؤدي بالناس إلى "كارثة الاستعباد" إلا عدم وضوح حقيقة الألوهية، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة، وحقيقة الكون.
وما حياة المستعبدين في حقيقتها إلا قصة جهل، وإهمال، وسوء استخدام، وخيانة لأفكار الإسلام الصحيحة.
وهذه الخيانة التي هي جذور إخفاق الأمة من جميع النواحي الأخلاقية والسياسية.
لقد كان ضعف تأثير الإسلام في الحياة العملية للمسلمين مصحوباً دائماً بانحطاطهم، وانحطاط مؤسساتهم السياسية والاجتماعية.
إننا إذا استمسكنا بإسلامنا استمساكاً حقيقياً لا يمكن استعبادنا، أو إيقاعنا في الجهالة، أو تجهيلنا، أو تمزيق وحدتنا.


إن ظاهرة التخلي عن الإسلام، أو هجره تتجلى بوضوح في محاولات قمع الفكر الإسلامي، واستبعاده من الحياة النشطة المتوثبة، كما تبدو في تحجيم الإسلام إلى حالة من السلبية والتسطيح. ويمكن ملاحظة هذا بأكبر قدر من الوضوح في طريقة تناولنا اليوم للقرآن.
إن الإخلاص للقرآن لم يتوقف، ولكنه فقد خصوصيته الفاعلة. لقد استبقى الناس في أفئدتهم من القرآن ما أشيع حوله من تصوف ولا عقلانية؛ بينما فقد القرآن سلطانه كشريعة ومنهج حياة، واكتسب قداسته (كشيء).
وفي دراسة القرآن وتفسيره استسلمت الحكمة للمماحكات اللفظية، واستسلم الجوهر للشكل، واستسلمت عظمة الفكر للمهارة والحفظ. أما ما يحث عليه القرآن من: جهاد، واستقامة، وتضحية بالنفس والمال، كل ذلك قد ذاب وتلاشى في ضباب الصوت الجميل لتلاوة القرآن، وحفظه عن ظهر قلب. هذه الحالة الشاذة قد أصبحت الآن مقبولة كنموذج سائد بين الشعوب المسلمة؛ لأنها تتناسب مع أعداد متزايدة من المسلمين لا يستطيعون الانفصام عن القرآن، ولكنهـم من ناحية أخـرى لا يملكون القوة، أو الإرادة على تنظيم حياتهم وفق منهج القرآن.
ولعل التفسير النفسي لهذه المبالغة التي يخلعها الناس على التلاوة المنغمة للقرآن يكمن في هذه الحقيقة؛ فالقرآن يُتلى، ثم يفسر ويُتلى، ثم يدرس ويُتلى مرة أخرى، وهكذا تتكرر الآية ألف مرة ومرة، حتى لا نطبقها في حياتنا مرة واحدة.

إن واقع المسلم بكل تناقضاته، وكل ما فيه من فصام بين الكلمة والفعل، وانحرافه عن الواجب، وشيوع الفساد والظلم والجبن، وافتقاره إلى المثل العليا وإلى الشجاعة، وانتشار الشعارات الإسلامية المثيرة، والتشدد المتنطع في أداء التكاليف الدينية، والاعتقاد بدون إيمان حقيقي فعّال كل هذا ليس إلا انعكاساً خارجياً للتناقض الأساس الذي أحطنا به القرآن، والذي يتمثل في الحماس المشتعل للقرآن من ناحية، والإهمال الكامل لمبادئه في الممارسة العملية من ناحية أخرى.
إن هذا التناقض في التعامل مع كتاب الله: هو السبب الأول والأكبر أهمية في الطغيان، وقبول الاستعباد.


الحـريّة المفقـودة:

في الجاهلية الأولى، "وفي كل جاهلية كانت القدرة على الظلم قرينة العزة والجاه في عرف السيد والمسود!!
وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحاً مبالغاً في القدح حين استضعف مهجوه؛ لأن:
قبيلته لا يغدرون بذمة، ولا يظلمون الناس حبة خردل.
وكان حجر بن الحارث يستعبد بني أسد بالعصا؛ فيتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص، فيقول:


أنت المملك فيهمُ وهم العبيد إلى القيامهْ ***ذلّوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه


وكان عمرو بن هند يعوّد الناس أن يخاطبهم من وراء ستار..!
أمّا النعمان بن المنذر فقد بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوماً للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء، ويوماً للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء"(1).
أمّا في الإسلام فقد "تضافرت مصادر التربية الإسلامية على إدانة الظلم، وتنفير المسلم منه في جميع مظاهره وأشكاله.
فالقرآن يشيد بالذين يرفضون الظلم، ويتناصرون لمقاومته، ويستنهض هممهم لمنازلته: {وَالَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ * وَلَـمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 39-42].
والرسول -صلى الله عليه وسلم - يجعل خنوع الأمة، وعدم تناصرها لمقاومة الظلم من العلامات الدالة على موتها، وانتهاء مسوغات وجودها: «إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت ظالم، فقد تُوُدِّعَ منها» " [أخرجه أحمد برقم 11/47 بإسناد صحيح](2).


ومن هنا كان من السلوكيات الهامة التي يجب أن نرشد إليها أبناءنا: نصرة العدل في مواجهة الظلم، ونصرة دعاة الحق في مواجهة المتسلطين من دعاة الباطل.

يقول محمد إقبال في كتابه "أسرار خودي" في افتتاح الكتاب: "رأيت البارحة شيخاً يدور حول المدينة، وقد حمل مشعلاً، كأنه يبحث عن شيء، قلت له: يا سيدي! تبحث عن ماذا؟ قال: مللت معاشرة السباع والدواب، وضقت بها ذرعاً، وخرجت أبحث عن «إنسان» في هذا العالم، لقد ضاق صدري من هؤلاء الكسالى والأقزام الذين أجدهم حولي، فخرجت أبحث عن عملاق من الرجال، وبطل من الأبطال، يملأ عيني برجولته وشخصيته، وبروح نفسي.
قلت له: لقد غرتك نفسك يا هذا! فخرجت تقتنص العنقاء. بالله عليك لا تتعب نفسك، وارجع أدراجك؛ فقد أجهدت نفسي، وأنضيت ركابي، ونقبت في البلاد، فـلم أرَ لهذا الكائــن عيناً ولا أثراً. قال الشيخ: إليك عني، أيها الرجل! فأحب شيء إلى نفسي، أعزه وجوداً وأبعده منالاً".


أين هذا الإنسان الصالح الذي لا يرى تقدمه في استعباد العباد، وقهر النفوس؟ أين هذا الإنسان الذي يسعى بكل إخلاص من أجل الإنسان كل الإنسان، في الأرض كل الأرض، ويردد ما قاله ربعي بن عامر: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"؟(3).

ويعلم أن "الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيداً لله وحده إلا أن ترتفع راية: "لا إله إلا الله"، لا إله إلا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته،: لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد؛ لأن السلطان كله لله، ولأن «الجنسية» التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله(4)".
عن أبي عثمان الهمدي قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة، فعبرها إلى أهل فارس، فأجلسوه، واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيّروا شيئاً من شارتهم تقوية لتهاونهم، فأقبل المغيرة بن شعبة والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة (والغلوة مسافة رمية سهم، وتقدر بثلاثمائة، أو أربعمائة خطوة) لا يصل إلى صاحبهم، حتى يمشي عليها غلوة، وأقبل المغيرة، وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته، فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه.. فقال: "كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم. إنا معشر العرب سواءٌ لا يستعبد بعضُنا بعضاً... فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض..".

كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية...
قد نسمع بعضاً الآن يؤكد قائلاً: إني لا أفتقد الحرية.
وأنا أؤكد معه ذلك؛ فالإنسان لا يفتقد أبداً شيئاً لم يحصل عليه، ولا يشعر بالأسى إلا من ذاق السعادة؛ وذكرى الفرح المنقضي تأتي فقط مع الألم.
إن موضوع الحريّة من الموضوعات التي هُجرت في البحث والبيان؛ ولذلك يصعب على الإنسان التوجه إلى بحثها وفهمها، وحتى إذا بحثها، فربما يعجز عن تفهيمها للآخر الذي يسمع منه هذا الأمر، وكأنه يسمع إلى مجنون يهذي.
أمّا نحن فنؤكد أن النفس البشرية لن تسعد أبداً، ولن يطيب لها عَيش وهي مستعبدة من أحد غير خالقها، حتى ولو ملكت ما في الأرض جميعاً فستظل هكذا حائرة، تائهة، طريدة، تصرخ من الألم، وتضحك كالمجنون، وتجري كالمطارد، وتعربد كالسِكير؛ تبحث عن لا شيء، وتجري وراء أخيلة، وتقذف بأثمن ما تملك، وتحتضن أقذر ما تمسك به يداها من تفاهات، ثم تسأل ـ إن أفاقت من نومها العميق ـ: كيف حدث لها هذا؟ وما هذه اللعنة التي أصابتها؟ فتدرك أنها فقدت حريتها، ومن ثم فقدت قيمة حياتها.


الهروب إلى الحريّة:

عندما ينغلق أحد الطرق الموصلة للهدف، تنفتح طرق أخرى.. وأولو الألباب هم الذين يجدون عندها ما يمكن عمله؛ فماذا يمكننا عمله، حتى نخرج مما نحن فيه من استبداد؟
إن الخطــوة الأولى في الطريق إلى الحريّة هــي: الــوعـي بـ «كيف» يعمل الاستبداد؟
إن المستبد لا يعمل منفرداً بل تتعاون معه عصابة قليلة العدد تتقاسم معه الأرباح والجريمة.
والخروج من استبداده في جملتين اثنتين: "الشعور بالحاجة إلى التحرر، وتصور البديل لحياة الاستعباد" ذلك أن الأمة التي لا تشعر بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية؛ كما أنــه لا يقوم مهندس عاقل بهدم البيوت القديمة، ليترك أصحابها تحت المطر والريح، بل هو يهيئ البيوت الجديدة، فإذا انتقل السكان إليها لم يرجعوا إلى القديم قط.
لقد حاول الكواكبي قبل قرن أن يضع ثلاث معادلات للخلاص من الاســـتبداد: "أن الأمــة التي لا تشــعر بالحـرية لا تستحقها، وأن التغيير يتم بالتدريج واللين، وأنه ليس المهم استبدال الحاكم، وإنما تقويض الاستبداد، تقويض الطغيان، كل الطغيان، وليس زحزحة تاج الطاغية إلى طاغية آخر.."(1).
إن الناس حينما تبتلعهم مشاغلهم اليومية، ويغرقون في مستنقعاتها الآسنة، لا يشعرون بأدنى حاجة للحريّة، فضلاً عن أن يبدوا أدنى رغبة في التضحيّة لأجلها.


ـ وقصة أصحاب الأخدود مع الغلام المؤمن خير شاهد...

لقد كان القوم أهل كفر.. يعبدون غير الله.. ملكاً جباراً.. زادهم غرقاً وانقياداً لعالم المادة.
وفي مثل هذه الظروف العصيبة، وهذا الظلام الدامس يأبى الله العزيز الحكيم إلاّ أن تبقى قلّة من الناس يرفضون الانسياق، ويتواصون بالحق الذي بين أيديهم.
وكان من عناية الله بالفتى أن عثر على أحدهم، وعنه تعلّم الدين الحق، وتجنّد لحمل أعباء الإيمان به؛ في زاوية متطرّفة؛ بعيداً عن أعين الناس.
والناس لا يزالون في غيّهم يعمهون، حتى جُمعوا في صعيد واحد بأمر الملك ليشهدوا قتل الغلام.
كان مقيّداً والملك يرميه سهماً تلو سهم دون أن يصيبه.
فقدَ الملك توازنه، وبدا وكأن الناس لا يقوون على تصديق أن إلههم عاجز عن قتل غلام.


وفي قمّة انفعال الملك واضطرابه أدرك الغلام أن الفرصة حانت لجعل المكر يحيق بأهله، فنادى في الملك على مسامع الجميـع: إنك لن تقتلني إلاّ باسم ربّي.
ولم يتأخّر رأس الكفر، وأطلق سهمه، وقتل الغلام؛ فاستفاق الناس على حقيقة كبيرة هزتهم من أعماقهم.. "هنالك رب أقوى من الملك" هذا يعني أنه أوْلى بالعبادة والخضوع له، وأنهم ليسوا مرغمين على بذل الخنوع والذل الذي يقتات عليه ملكهم منذ أن استخف عقولهم، ومرّغ كرامتهم في التراب.
لماذا كان هذا هو رد فعلهم؟
لأنهم لم يتلقّوا الحقيقة في مجالس باردة، ولم يتلقوا الحقيقة من كلمات وحروف جافة ميتة لا حركة معها، بل تلقوها حيّة تنتفض مختلطة بدماء أصحابها.
كان أمام الغلام عشرات الخيارات الأخرى الأقل تكلفة، لكنه اختار أشدّها وقعًا في النفوس، اختـار ما تهابه النفوس غالباً ولا تقـوى على بذله.
فما أذكى الغلام، وما أتعسنا!
إن أكثرنا -آباء ومربين- يقلّب وجهه في السماء، ويعمل فكره في الكون باحثاً عن السبب الذي يجعل تربيتنا لا تصيب هدفها، وكلماتنا لا تأتي بتأثيرها التربوي المطلوب.
ونحن إذا أردنا الحقيقة، لا تنقصنا الكلمات، وإنما تنقصنا «روح» الكلمات.
إننا نمنح أبناءنا ما عندنا من خبرة ووعي في صورة ذهنية باردة، فلا يشعرون بها نديّة رطبة بعرق جهودنا.

بينما الواجب أن نجعل هؤلاء الأبناء يدركون أننا بذلنا جهداً كبيراً، وسهرنا الليالي الطوال، حتى ننتزع لهم نسخة من أعماق ما نحمله ونؤمن به.
إن الأفكار التي لم تقطف إلا شوك العبودية، لا ينتظر منها أبداً أن تعطينا رحيق التحرر.
إن هذه الأفكار الميّتة ليس لها مكان أليق بها إلا مقابر الفكر.. فهذا هو أكرم مكان لجثث الموتى.
إننا في أمسّ الحاجة لأفكار تبث روح الأمل في أبنائنا، وتبعث فيهم القيم الحضارية، وعلى رأسها قيمة العدل والحرّية؛ تلك القيمة العظيمة التي لا يستحقها إلا من "يغزوها" ويقتحمها، ويكافح في سبيلها كل يوم.
إننا لا بد أن نربأ بأبنائنا عن هذه الرذيلة التعيسة، رذيلة "العبودية" لبشر من البشر، بل عن هذا المسخ من مسوخ الرذيلة التي لا يستحق حتى اسم الجبن، ولا يوجد في اللغة كلمة تعبّر عن قبحه تعبيراً كاملاً، بل إن اللغة ربما تأبى تسميته.
إن القرآن يعلمنا أسباب هذا الاستعباد، ومن الجاني فيه، ومن الضحية؟ وهو يؤكد أن ما يقع لنا إنما هو بما كسبت أيدينا، ويعلمنا الطريق إلى الخروج منه، وأن الله لا يغيّر ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم.


تفكّروا معي! هل يمكن لطفل أن يقود جملاً إلا أن يكون الغلام يحمل من الوعي ما يفقِده الجمل؟
وبالمثل لا يمكن لطاغية أن يقعد على رقبة أُمّة إلا أن تكون هذه الأُمة تملك استعداداً للعبودية "القابلية للاستعباد".
إن الإنسان باختياره وإرادته يتنازل عن حريّته، بل لو أن الظفر بحريّته كان يكلفه شيئاً لم نحثه على السعي إليها.. ولكن نوالَ الحريّة لا يتطلب من كل إنسان إلا أن يرغب فيه ويريده.
إن من يستقرئ وقائع التاريخ وسجلات الماضي يتأكد لديه أن من عقدوا العزم على الخروج من عبودية الطغاة، وبذلوا الجهد في سبيل ذلك نجحوا في الوصول إلى أهدافهم.
كان بلال بن رباح ـ رضي الله عنه ـ عبداً حسب قانون المجتمع الذي يعيش فيه، ولكنه كان يمارس الحريّة حين كان يعلن «أحد.. أحد»، وهو تحت التعذيب. كان يمارس الحريّة بشكل قد لا يقدره من يعيشون في عالم أغليت فيه العبودية «قانونياً».
بل إن هؤلاء محرومون من لحظة يشعرون فيها بأنهم يمارسون ما يرونه حقاً.
نعم! إن حرية الإنسان مرتبطة بحياته؛ فإذا فقد الإنسان حريته فقد ذاته؛ فلماذا نُدهش حين نسمع قصص الشجاعة التي تملأ بها الحريّة قلوب المدافعين عنها؟
إن الشِّهام لا يخشون الخطر من أجل الظفر بمطلبهم.
ولا يريد العبودية إلا من استعبدتهم الشهوات.

والطغيان داء عضال إذا أصاب أمة حوّلها إلى قطيع من البائسين اليائسين الخائفين المتملقين.
إننا نقدر على الخلاص من الطغاة إذا حاولنا ـ لا أقول العمل على ذلك ـ بل مجرد الرغبة فيه.
ليس مطلوباً منا أكثر من "الامتناع" عن مساندة الطاغية، وعندها يسقط كتمثال سُحبت قاعدته، فهوى على الأرض بقوة وزنه وحدها فانكسر.
إن الاستعباد شجرة خبيثة، وهي ليست للبقاء؛ لأنها ضد الحياة، وهي لابد ساقطة في النهاية تحت ثقلها الخاص، وكلما اشتد الظلام اقترب الفجر، وكلما ظهر الكمال على الطغيان كان إيذاناً بانبلاج الصبح.

فلا يفتتنكم ـ يا بني ـ "قافلة الرقيق وما فيها من عبيد تزين أوساطهم الأحزمة، أو يحلي صدورهم القصب، ولنتطلع إلى موكب الأحرار، وما فيها من رؤوس تزين هاماتها مياسم التضحية، وتحلي صدورها أوسمة الكرامة، ولنتابع خطوات الموكب الوئيدة في الدرب المفروش بالشوك، وكن على يقين من العاقبة... فالعاقبة للصابرين..." (1). {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].


.. وبعد:

فلست أزعم أنني قلت كل ما ينبغي أن يقال؛ فنحن في زمان يجعل ما يسكت عنه المرء ـ في بعض الأوقات ـ أهم مما يقوله، ويشبه الخوض في بعض قضاياه الدخول إلى جحور الأفاعي.
ولكني أطمع من وراء هذا المقال أن أكون قد ألقيت حجراً يحرّك مياه وعينا التربوي، ليصبح قادراً على اكتشاف جذور العبودية الغالبة على حاضرنا، والمعوقة لمسيرة مستقبلنا.
ومن ثم يتخلص المسلم من أغلاله، فيعود كالنور دائم الحركة في الصراع للخروج من العبودية إلى الحـرية، لا يكلّ ولا يملّ ولا يكسل، ولا يقبل العبودية الذليلة.
وهو "بداية البدايات" في طريق خروجنا من النفق المظلم الذي دخلناه، مأزق الانتحار الحضاري والانقراض المعنوي؛ وعندها نصنع الحضارة.
________________________________________
(1) جذور الاستبداد ـ د. عبد الغفار مكاوي ـ ص 10، 11.
(2) كتب المفكر الفرنسي (إتيين دى لابواسييه) في عام 1562 م، مقالة بعنوان «العبودية المختارة» قام فيها بتحليل آلية الاستبداد، فراجعه إن شئت.
(1) راجع إن شئت «الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة» للمؤلف ـ ص 30.
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، ج 2 ص 845. (2) إخراج الأمة المسلمة، د. ماجد عرسان الكيلاني، ص 89.
(3) البداية والنهاية ـ ابن كثير ـ ج 7. (4) راجع إن شئت «معالم فى الطريق»، سيد قطب، فصل: طبيعة المنهج القرآني.
(1) طبائع الاستبداد ـ الكواكبي.
(1) دراسات إسلامية ـ سيد قطب ـ ص 127 بتصرف.
مجلة البيان، العدد ( 214)،جمادى الآخرى 1426،أغسطس 2005.