فرنسا تُعّرِّي المسلمات أم تُعَرِّي علمانيتها؟
إن الدولة الفرنسية تفترض أن العلمانية تعني المساواة، لكنها لا تراعيها.
أثارت انتهاكات فرنسا المتصاعدة لأبسط حقوق المسلمين فيها من مواطنين ومقيمين، ردود فعل غاضبة حتى لدى شركائها في الدين العلماني المادي الشهواني، إذ انقلبت الشعارات العلمانية من حرية العري والمجون إلى فرضهما بالقهر على من يرفضونهما!
سقوط القانون وتحدي القضاء
بدأت القصة بتعسف عدد من البلديات الفرنسية، حيث منعت لباس سباحة فيه شيء من الإحتشام، يسمى: بوركيني، فاحتج المسلمون على هذا القهر الإضافي الذي ليس له سابقة، فهو بمثابة انتقال من التضييق الشديد على المسلمين في بلاد الغرب إلى قمعهم المباشر، وكانت عمليات التضييق المنهجية تجعل إلتزام المسلم بأبجديات إسلامه عملًا معقدًا ومُكْلفًا، مع ما يصاحبه من تشهير وترهيب تتسابق في تأجيجهما المؤسسات الحكومية والأحزاب المعارضة لها.
وتصاعدت في الأسبوعين الأخيرين قضية ارتداء المسلمات لـ"البوركيني"، بعد أن فرضت بعض البلدات غرامات على مرتديات لباس البحر الذي يغطي كامل جسد المرأة. وأثار إجبار الشرطة الفرنسية امرأة مسلمة على خلع "البوركيني" سخط كثير من المسلمين في فرنسا.
ثم وصلت أصداء هذا الظلم إلى المؤسسات القضائية الفرنسية، التي أرادت إنقاذ سمعة فرنسا من هذا العار، وتحديدًا إلى مجلس الدولة الذي يتربع على رأس الهياكل القضائية الفرنسية.
في يوم أمس الجمعة حسم المجلس المذكور، الجدل الدائر في البلاد حول لباس السباحة الإسلامي "البوركيني"، مؤكدًا تعليق قرار منع ارتدائه في الشواطئ الفرنسية. وحسب ما أفادت وكالة "فرانس برس"، فإن المجلس الذي يعد أعلى سلطة قضائية إدارية في البلاد أصدر قرارًا يلغي حظر "البوركيني"، الذي فرضته بلدة فيلينوف لوبيه الساحلية، لكنه ينطبق على 30 بلدية أخرى اتخذت القرار ذاته. وجاء قرار المجلس بعد الطعن الذي قدمه محامو منظمتين حقوقيتين، قائلين إن الحظر ينتهك حقوق الإنسان، مشيرين إلى أن رؤساء البلديات تجاوزوا صلاحياتهم بشأن حرية الملبس. وتحدث الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، يوم الخميس، للمرة الأولى حول "البوركيني"، داعيًا إلى عدم الاستسلام إلى"الإستفزاز" ولا إلى "التمييز" في البلاد التي تضم عددًا كبيرًا من المسلمين في أوربا!!
وأعلن عدد من رؤساء البلديات في جنوب شرق فرنسا أنهم سيبقون على قراراتهم القاضية بمنع ارتداء زي البحر الذي يغطي الجسم بالكامل والمعروف باسم البوركيني، وذلك بعد أن علق مجلس الدولة قرار حظره. وأبدى رؤساء البلديات ومن بينهم رئيسا بلديتي نيس وفريجوس تمسكهم بحظر البوركيني وطالبوا بإقرار قانون لحظره في البلاد. وقالت بلدية نيس إنها "ستواصل تحرير محاضر" للنساء اللواتي يرتدين هذا اللباس ما لم يلغ قرارها. وقال رئيس بلدية فريجوس "ليس هناك أي إجراء سار ضد قرارنا".
كما أبقى رئيس بلدية سيسكو (كورسيكا) الاشتراكي على قرار الحظر الذي اتخذه إثر مشادة بين مغاربة وسكان قرويين في بلدته منتصف أغسطس/آب. واعتبر أن هناك فعلًا تهديدًا للنظام العام. وأكد المجلس أن "مظاهر القلق الناجمة عن اعتداءات إرهابية استهدفت مناطق فرنسية لا تكفي لتبرير حظر السباحة بالبوركيني".
ورأى المجلس أن قرار الحظر "شَكَّل انتهاكًا خطيرًا وغير قانوني للحريات الأساسية المتمثلة في حرية التنقل وحرية الضمير والحرية الشخصية". وهذا القرار-نظريًا على الأقل- نهائي، لكونه صدر عن أعلى سلطة قضائية إدارية في فرنسا، ويجب تطبيقه في كافة أنحاء البلاد.
هستيريا لتغطية عورات النظام
اتهمت نيويورك تايمز فرنسا بالتعصب بسبب موقفها من ارتداء النساء لباس البحر الإسلامي أو "البوركيني" على الشواطئ، وقالت إن المسؤولين الفرنسيين يثيرون هذه الضجة للتغطية على مشاكلهم الأخرى. وقالت الصحيفة في افتتاحيتها: إن فرنسا تمنع ارتداء لباس البحر الإسلامي للنساء على الشواطئ بعد أن كانت حظرت لبس النقاب والحجاب بالمدارس، وبعد أن وضعت شروطًا تتعلق بطول التنورة بالنسبة للطالبات. وأضافت الصحيفة الأمريكية أن هذه "الهستيريا" السائدة في فرنسا بهذا الشأن تهدد بمزيد من وصم وتهميش مسلمي فرنسا، في وقت تسود فيه مشاعر الخوف بالبلاد في أعقاب تعرضها لسلسلة من الهجمات الإرهابية المروعة.
وأشارت إلى أن مسؤولين فرنسيين سرعان ما أبدوا دعمهم لقرارات رؤساء البلديات الذين حظروا ارتداء "البوركيني" وذلك في ظل تزايد شعبية الجبهة الوطنية اليمينية بالبلاد التي تنتظر انتخابات رئاسية مقررة الربيع القادم. ونسبت إلى رئيس الوزراء مانويل فالس "البوركيني" بأنه لا يتوافق مع القيم الفرنسية وأنه يشكل استعبادًا للمرأة، وقوله إن على الأمة الدفاع عن نفسها في هذا المجال.
وأشارت الصحيفة إلى أن الأسترالية أهيدا زانيتي هي من صممت هذه الزي البحري للمرأة، وأن الكاتبة المتخصصة بشؤون الأكل والتغذية والمذيعة البريطانية نايجيلا لاوسون ارتدت "البوركيني" على أحد الشواطئ الأسترالية عام 2011 بمحض إرادتها. وقالت نيويورك تايمز إن العالم شاهد المسلمين يتنافسون بفخر في الألعاب الأولمبية بالعاصمة البرازيلية ريو دي جانيرو وهم يرتدون ملابس تغطي الجسم كاملًا بما فيه الرأس.
وأضافت أن الفرنسيين أنفسهم كثيرًا ما يُلبسون صغارهم ملابس مشابهة لتحميهم من أشعة الشمس على الشواطئ.
وقالت أيضً إن المسؤولين الفرنسيين يثيرون هذه الضجة بشأن "البوركيني" للتغطية على مشاكلهم الأخرى مثل ارتفاع البطالة والتباطؤ الإقتصادي والتهديد الإرهابي.
يؤذي المعتدلين ولا يمنع الإرهاب
وقد انتقد الكاتب شين أوغرادي المسؤولين الفرنسيين الذين قال إنهم يتخذون قرارات تعسفية بشأن ما يجب أن ترتديه النساء المسلمات على شاطئ البحر، وقال إن حظرهم لما يعرف باسم "البوركيني" -أو ما يطلق عليه لباس البحر الشرعي للمسلمات- يأتي في سياق هذه القرارات.
وأشار الكاتب في مقال بصحيفة ذي إندبندنت إلى أن حظر هذا اللباس بدعوى أنه يدل بوضوح على الإنتماء الديني في زمن الإرهاب ولأسباب تتعلق بالصحة العامة، هي ادعاءات عدوانية ومثيرة للسخرية وغير مثمرة. "الجلبة التي تثار حول البوركيني جزء من نقاش أوسع حول اللباس الديني والثقافي مستمر منذ زمن وبتركيز غير منصف على الإسلام".
وقال إن قرارات المسؤولين يجب أن يحكمها أمران: الأول أنهم في موقع المسؤولية عن جدارة وقد انتخبوا لتكون قراراتهم تبعًا لذلك، والثاني أن تكون قرارتهم بعيدة عن حياة الناس الشخصية في ما يكشفون من أجسادهم أو ملابسهم على الشاطئ. واستشهد الكاتب بلباس البحر في الزمن الماضي الذي كان أقرب إلى البوركيني الحالي بأنه كان السمة العامة على الشواطئ آنذاك، حتى اختراع البيكيني عام 1946، ولم يعترض عليه أحد طوال هذا الوقت. واعتبر الجلبة التي تثار حول البوركيني جزءًا من نقاش أوسع حول اللباس الديني والثقافي مستمر منذ زمن وبتركيز غير منصف على الإسلام.
وفي هذا السياق علق مقال بصحيفة ذي غارديان على الجدل الدائر حول البوركيني بأن هناك أسبابًا لارتدائه بعيدًا عن كل ما يقال، منها أنه يوفر المال الذي ينفق على مستحضرات العناية بالبشرة في الشمس، وتلك الرحلات الموجعة لصالونات التجميل، ويمكن ترك كل هموم سرطان الجلد من التعرض للشمس في المنزل.
واستنكرت الكاتبة جوليت صامويل في مقال لها بصحيفة تلغراف منع "البوركيني" في فرنسا، والذي وصفته بأنه موضة جديدة نسبيًا ولا يتعارض مع القانون الفرنسي الحالي الذي يمنع تغطية كامل الوجه، وهو أقرب إلى بدلة الغوص بغطاء رأس مثبت بها. وانتقدت الكاتبة هذا التصرف بأنه ليس هناك أي دليل مطلقًا على أن النساء اللائي يرتدين هذا اللباس لهن صلة بالإرهاب، وليس هناك سبب مقنع يفيد بأن حظره سيساعد في إحباط "الإسلاميين المتطرفين" في فرنسا، والأرجح أنه سينفر ويزعج المسلمين المعتدلين.
كشف النفاق العلماني
وكتبت الصحفية البريطانية من أصل جزائري: إيمان عمراني تؤكد أن حظر فرنسا البوركيني يكشف نفاق علمانية الدولة. وقالت إن الدولة الفرنسية تفترض أن العلمانية تعني المساواة، لكنها لا تراعيها، وهذا التضييق الشرطي على مواطنيها المسلمين يتعارض مع حرية التعبير التي لها قصب السبق فيه.
أما افتتاحية الإندبندنت فقد لخصت حظر فرنسا البوركيني بأنه سيثير العنف والانقسام المجتمعي، ورأت أنه إذا كان هدف الإرهابيين الذين أزهقوا أرواح الكثير من الأبرياء في باريس ونيس وفي أماكن أخرى هو إثارة الكراهية والصراع فإن السلطات الفرنسية بتصرفها هذا قد حققت لهم أكثر من طموحاتهم.
كما علقت صحيفة التايمز بأن محاولات الفرنسيين تعرية النساء المسلمات على الشواطئ فعل خاطئ، وقالت إن شواطئ جنوب فرنسا اعتادت الاشتعال غضبًا من مشاهد العري، والآن في عالم انقلب بسبب الخوف من الإرهاب أصبحت الملابس الكاملة هي المثيرة للإستفزاز.
ورأت الصحيفة أن مشهد إرغام أربعة رجال من الشرطة الفرنسية امرأة على خلع البوركيني هو دلالة على أكثر من مجرد تغير الأخلاق، فهو يظهر كيف يمكن للدولة العلمانية أن تدمر نفسها. وأضافت أنه ليست مهمة الدولة فرض قواعد للباس البحر، لكن يبدو أنها تسير إلى أبعد من ذلك؛ حيث يستعد ساركوزي للإنتخابات الرئاسية باقتراح حظر صريح للحجاب في الجامعات. وقالت الصحيفة إن هذا من شأنه أن يجبر النساء اللائي تربين على اعتبار الحجاب رمزًا للأنوثة على الإختيار بين احترام القانون وتقاليدهن الأسرية، وأن هذا الدمج الإجباري سيثير الغضب والانقسام في نهاية المطاف.
إلغاء الحظر لا يكفي
نشرت صحف بريطانية مقالات تنتقد بشدة حظر البوركيني في فرنسا وتشيد بحكم المحكمة الإدارية العليا بتعليق حظره، وقالت إحداها إن هذا الحكم مجرد بداية، ولإنصاف المسلمين هناك العديد من القضايا التي يجب على فرنسا معالجتها.
وقالت غارديان في مقال كتبته ناتالي نوغايريد إن فرنسا لم تجد حتى اليوم طريقًا لضمان عدم التمييز ضد مواطنيها المسلمين، مضيفة أنها لا تتذكر يومًا في التاريخ الحديث بدت فيه فرنسا معزولة على المسرح العالمي بسبب خياراتها السياسية مثلما هي معزولة اليوم. وأعربت الكاتبة عن استغرابها من أن ينتهي تبني فرنسا المعلن للقيم العالمية إلى هذه النهاية التي وصفتها بـ "المؤلمة" وعن دهشتها من إمكان إجبار النساء هناك على ارتداء أو عدم ارتداء ملابس معينة.
وأشارت إلى أن فرنسا سقطت في حفرة تحتاج الآن للخروج منها، وأن الأمر الإيجابي الوحيد في الوضع الفرنسي الذي يكتنفه التشويش والخوف والتشكيك والعنصرية والنفاق حاليًا هو حكم المحكمة الإدارية العليا بتعليق حظر البوركيني وتوضيحها ما ينص عليه القانون والمبادئ التي يجب الحفاظ عليها. ولفتت الكاتبة إلى أن المحكمة قالت إن ذلك يمثل تهديدًا فاضحًا وغير قانوني للحريات الأساسية أي الحرية في التنقل وحرية الضمير والحرية الشخصية، كما أنها لم توافق على ما يدعيه المدافعون عن حظر البوركيني بقولهم إنه ضروري للحفاظ على علمانية الدولة والنظام العام "خاصة في هذا الوقت الذي تعيش فيه فرنسا رسميًا حالة طوارئ عقب الهجمات الإرهابية".
صحيفة تايمز نشرت مقالًا للكاتبة جانيس تيرنر قالت فيه "إن فرنسا التي شلها الرعب من الإرهاب تقوم بإذلال المسلمات وتصنع من الحلفاء المحتملين أعداء مؤكدين". أما صحيفة التايمز فقد نشرت مقالًا للكاتبة جانيس تيرنر قالت فيه إن فرنسا التي شلها الرعب من "الإرهاب" تقوم بإذلال المسلمات وتصنع من الحلفاء المحتملين أعداء مؤكدين.
وأشارت إلى أن مطالبة المسلمات بالتعري لا تحررهن، وأن الحجاب وغطاء الرأس عمومًا أصبح إعلانًا للهوية بالنسبة للمسلمين في الغرب، كما أن البوركيني ربما يصبح هو الآخر رمزًا لهوية المسلم كما تدل الأنباء عن تصاعد الطلب على شرائه. واختتمت تيرنر مقالها بأن على فرنسا أن تفهم أن المسلمات جزء من الحل لمعضلات مجتمعها الممزق، ويجب أن تكف عن محاربتهن على شواطئها.
ويتضح الغباء العلماني الفرنسي أكثر في عنصر توقيته، حيث تزامن مع خطوتين إيجابيتين نحو الحجاب الإسلامي، اتخذتهما كندا وسكوتلاندا. فقد سمحت شرطة الخيالة الملكية الكندية لعناصرها من النساء بارتداء الحجاب كجزء من الزي، وذلك لتشجيع المسلمات على الإنخراط في صفوف هذه الشرطة.
وصرح سكوت برادسلي المتحدث باسم وزير السلامة العامة رالف غوديل لوكالة الصحافة الفرنسية بأن "مفوض شرطة الخيالة الملكية وافق مؤخرًا على هذه الإضافة إلى الزي". وقال إن "الهدف من ذلك هو تشجيع مزيد من المسلمات على التفكير في العمل في شرطة الخيالة الكندية الملكية"، وأضاف أن الشرطة في بريطانيا والسويد والنرويج وبعض الولايات الأميركية تبنت سياسات مماثلة.
كما أعلنت أسكتلندا رسميًا أن الحجاب أصبح جزءًا إختياريًا وكان بالإمكان ارتداؤه في السابق بعد الحصول على موافقة، لكنه أصبح الآن جزءًا رسميًا من الزي.
ولقي القرار الجديد ترحيب جمعية مسلمي شرطة أسكتلندا -وهي منظمة أنشأت عام 2010 لإقامة علاقات وثيقة مع الجاليات المسلمة- .
منذر الأسعد
- التصنيف:
- المصدر: