من هنا نبتت الفتنة

منذ 2011-01-10

أربعون عاما مرت على تولي البابا شنودة قيادة الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، لم أسمعه مرة واحدة خلالها يقود حملة لمطالبة الدولة بالتوسع في إنشاء مستشفيات لرعاية البسطاء والفقراء والمهمشين ، لم أسمعه مرة واحدة يناشد الدولة التوسع في إنشاء المدارس والمؤسسات


أربعون عاما مرت على تولي البابا شنودة قيادة الكنيسة الأرثوذكسية في مصر لم أسمعه مرة واحدة خلالها يقود حملة لمطالبة الدولة بالتوسع في إنشاء مستشفيات لرعاية البسطاء والفقراء والمهمشين ، لم أسمعه مرة واحدة يناشد الدولة التوسع في إنشاء المدارس والمؤسسات التعليمية للنهوض "بمصر" ، كل ما سمعته منه طوال هذا العمر الطويل هو المطالبة بإنشاء المزيد من الكنائس لا المدارس ، لأن البعد الطائفي هو الخيال الحاضر والمهيمن على فكر البابا ، ومصلحة مصر الشعب والأمة والوطن مختزلة عنده في مصلحة الطائفة ومنشآت الطائفة ، ومصر التي تعيش فينا ، حسب ما نشر عنه ، مجرد فضاء جغرافي يتمدد فيه ، ويحاول فيها تحقيق أحلام في المستقبل القريب أو البعيد يمليها عليه طموح طائفي قديم ، وهي أحلام مسجلة له في كلمات وعظات محفوظة ومسجلة ومكتوبة ، وبعضها موثق في حيثيات أحكام تاريخية للقضاء المصري ، فمشروع البابا شنودة منذ اليوم الأول مشروع طائفي وليس مشروعا وطنيا .


على الرغم من أن مفتتح الأحداث الأخيرة ومنشأها وجوهرها ومفجرها ، كان في السلوك "الخارج على القانون" الذي تمثل في احتجاز سيدات مصريات داخل أديرة أو منشآت كنسية بأوامر مباشرة من البابا شنودة ، بعد أن تردد أنهم أعلن إسلامهن ، وخاصة من كانت منهن زوجة لكاهن ، حيث كانت المظاهرات القبطية تتحرك بسرعة ويتم حشد المئات أو الآلاف داخل الكاتدرائية وفي العديد من الكنائس الأخرى ، بصورة منظمة بدقة ومؤقتة بدقة ، والهتافات موحدة ومنسقة ، من أجل إجبار الدولة على "تسليم" المواطنين إلى البابا يتصرف فيهم بمعرفته ، باعتبارهم من رعاياه ، وليسوا من رعايا الدولة .


على الرغم من أن مفجر الأحداث الأخيرة كلها هو هذه النقطة تحديدا ، وهي التي ولدت مظاهرات الغضب المقابلة على الجانب الإسلامي الذي وجد الدولة تتخلى عن سيادتها وسلطاتها لصالح سيادة كنسية طارئة ومخيفة ، وعلى الرغم من التوابع التي تهز الوطن هزا الآن ، إلا أن البابا يصر حتى هذه اللحظة على تجاهل "المسألة الجوهرية" للأحداث ، ويصر حتى هذه اللحظة على احتجاز المواطنات كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين وماري عبد الله وماريان ، وغيرهن ممن عرفن إعلاميا "بسجينات الكنيسة" ، وعلى الرغم من الوفود التي تذهب والوفود التي تجيء إلى الكاتدرائية والاتصالات والسهرات الإعلامية الثرية والانتفاضة الثقافية عن الوطن الواحد والهلال والصليب ، إلا أن البابا يصر ويعاند بصورة مذهلة في رفض اطلاق سراح "سجينات الكنيسة" ، ويتجاهل الأمر تماما كأن لم يكن ، ويصر على إهانة الدولة وإظهارها بأنها عاجزة عن إلزام الكنيسة بالقانون والدستور ، بوصفها مؤسسة وطنية مصرية تخضع لسلطات الدولة مثل الأزهر وأي مؤسسة دينية أخرى ، تعجز الدولة عن إلزامها بإطلاق سراح "السجينات" على الأقل من باب تخفيف الاحتقان الطائفي وتسكين الخواطر ، وطمأنة الرأي العام إلى أن الكنيسة ليست دولة داخل الدولة ، وأنها لا تفكر في سجن المواطنين الذين يفكرون في الخروج على مذهبها أو معتقدها .


البابا شنودة الذي يتحدث كثيرا عن الحب والتسامح ، يمارس في الواقع العملي أكثر السلوكيات عصبية وعنفا وتطرفا ، ويكفي أن نذكر ما حدث في هجمات العمرانية التي روع فيها متطرفون أقباط مسلحون مدارس الأطفال وأحرقوا سيارات المواطنين وممتلكاتهم وأدمت رجال الشرطة وشوهت وجوه بعض الضباط واستعملت فيها قنابل مولوتوف ، فقد رفض البابا شنودة أن يعتذر للوطن عن هذا الهوس الطائفي البغيض ، كما رفض الاعتذار للدولة عن هذا الخروج السافر على القانون ، ليس هذا فقط ، بل إنه عندما قدم كاهن الجيزة مع وفد قبطي الاعتذار لمحافظ الجيزة ومدير الأمن عن ما حدث ، سارع البابا بتعنيف الكاهن وأرسل نفيا لوسائل الإعلام عن هذا الاعتذار وقال بعصبية واضحة : نحن لم نعتذر لأحد ، بل هاجم الدولة ورجال الشرطة والنيابة وجعلهم هم المعتدين ، وهذا مستوى من العنف والتهييج لم تعرفه مصر من قبل .


نحتاج إلى شيء من الجدية والصراحة في حوارنا الوطني ، إعلاميا وثقافيا ودينيا ، مع الحالة القبطية ، ومع الكنيسة وقيادتها تحديدا ، وهي المهيمنة بشكل مطلق الآن على صناعة الوعي القبطي وانتماءاته بعد نجاح البابا في تهميش النخبة القبطية العلمانية والمدنية المستنيرة وعزلها وأجبرها على الاختفاء من المشهد ، إن تجاهل الحقائق الواضحة واستخدام النفاق الفكري والديني والسياسي في هذا الموقف الجلل يضر ولا ينفع ، ولو أن الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وكذلك النخبة الثقافية ورموزها الوطنية والجسورة والناضجة ، وكذلك الإعلام الوطني الحكومي والخاص والحزبي ، لو أن هؤلاء جميعا واجهوا مبكرا هذه السلوكيات الطائفية من قيادة الكنيسة بأمانة وجدية وصراحة ، مثل التي استخدموها مع مؤسسات وقيادات دينية إسلامية ، لما وصلنا إلى ما نحن فيه الآن من النواح والفزع على وحدة الوطن ، الصراحة والوضوح تبدو أحيانا قاسية أو جارحة ومؤلمة ، ولكنها هي الطريق الأكيد لاستئصال الأورام والقيح والصديد الذي يدمر نسيج الوطن ، وهي الأداة الحاسمة لردع التمدد الطائفي من أي جانب ، وبالتالي هي السبيل الأكثر ضمانا وفعالية لحماية الوطن ووحدته على المدى الطويل .


09-01-2011 م
 

المصدر: جمال سلطان - جريدة المصريين