مكاتبة الحسن البصري الخلفاء ومعاملاته مع الأمراء وولاة الأمور

منذ 2017-02-18

وكان إذا ذكر الملوك قال: لا تنظروا إلى شرف عيشِهم، ولين رياشِهم؛ ولكن انظروا إلى سرعة ظعنِهم، وسوء منقلبِهم.

 

روي عنه رحمه الله أنه كان يقول: إن الله  سبحانه وتعالى أخذ على الخلفاء والأمراء والحكام ثلاثة أشياء، فمن أوفى بعهد الله منهم نجا، ومن قصر هلك، أخذ عليهم: ألا يتَّبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنًا قليلاً.

 وكان إذا ذكر الملوك قال: لا تنظروا إلى شرف عيشِهم، ولين رياشِهم؛ ولكن انظروا إلى سرعة ظعنِهم، وسوء منقلبِهم.

 واتصل به عن بعضهم: أنه كان يأكل الخَشِنَ، ويلبس الدنيءَ من الثياب، فقال: يا ويحه! علامَ جُبِي له من الخراج، وملك من أطراف البلاد؟ فقالوا: إنه يفعل ذلك بُخلاً، فقال: الحمد الله الذي حرَمَه من دنياه ما لأجله ترك دينه.

 وكان يقول: إذا أراد الله بقوم شرًّا، جعل أمراءَهم سفهاءَهم، وفيئَهم[1] عند بُخلائِهم.

 وكان يقول: لقد حُدِّثتُ عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه كان يقول: إن من أشراط الساعة أن يكون في الأرض أمراءُ فجرةٌ، ووزراء كَذَبة، وأمناءُ خونة، وعلماءُ فَسَقَة، وعرفاء[2] ظَلَمة، وإني لأتخوف أن يكون وقتَنا هذا.

 وقيل: أحضر النضرُ بن عمرو[3] - وكان واليًا على البصرة - الحسنَ يومًا، فقال: يا أبا سعيد، إن الله - عز وجل - خلق الدنيا وما فيها من رياشها وبهجتها وزينتها، لعباده، وقال عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف جزء من الآية: 31]، وقال عز من قائل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف جزء من الآية: 32]، فقال الحسن: أيها الرجل، اتق الله في نفسك، وإياك والأمانيَّ التي ترخصت فيها؛ فتهلك، إن أحدًا لم يُعطَ خيرًا من خير الدنيا، ولا من خير الآخرة بأمنيته، وإنما هي داران، من عَمِل في هذه، أدرك تلك، ونال ما قُدِّر له منها، ومن أهمل نفسه، خسرهما جميعًا، إن الله سبحانه اختار محمدًا صلى الله عليه وسلم لنفسه، وبعثه برسالته ورحمته، وجعله رسولاً إلى كافة خلقه، وأنزل عليه كتابًا مهيمنًا، وحد له في الدنيا حدودًا، وجعل له فيها أجلاً، ثم قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة جزء من الآية: 6]، وأمرنا أن نأخذ بأمره، ونهتدي بهديه، وأن نسلك طريقته، ونعمل بسنته، فما بلغنا إليه، فبفضله ورحمته، وما قصَّرنا عنه، فعلينا أن نستعين ونستغفر، فذلك باب مخرجنا، وأما الأمانيُّ، فلا خير فيها، ولا في أحد من أهلها، فقال النضر: يا أبا سعيد، إن الله - عز وجل - قدَّر علينا ما شاء، وإنا لنحب ربَّنا.

 

فقال الحسن: لقد قال ذلك قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى عليه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران جزء من الآية: 31]، فجعل سبحانه اتباعه - عليه السلام - علمًا للمحبة، وأكذَبَ من خالف ذلك، فاتقِ اللهَ يا أيها الرجل في نفسك، وايم الله! لقد رأيت أقوامًا، كانوا قبلك في مكانك يعلون المنابر، وتُهزُّ لهم المراكب، ويجرُّون الذيول بطرًا ورئاءَ الناس، يبنون المدر[4]، ويؤثرون الأثر[5]، ويتنافسون في الثياب، أُخرِجوا من سلطانهم، وسُلِبوا ما جمعوا من دنياهم، وقدموا على ربهم، فنزلوا على أعمالهم، فالويل لهم، والويل لهم يوم التغابن[6]! ويا ويحهم! {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37].

 وقيل: دخل عليه يومًا آخر، فقال: أيها الأمير- أيدك الله - إن أخاك من نصَحك في دينك، وبصَّرك عيوبَك، وهداك إلى مراشدك، وإن عدوك من غرَّك ومنَّاك.

 أيها الأمير، اتق الله؛ فإنك أصبحت مخالفًا للقوم في الهدي والسيرة، والعلانية والسريرة، وأنت مع ذلك تتمنى الأماني، فترجح في طلب العذر.

 والناس - أصلحك الله – طالبان: فطالبُ دنيا، وطالب آخرة.

 وايم الله! لقد أدرك طالب الآخرة واستراح، وتعب الآخر وحُرِم، فاحذر أيها الأمير أن تسعى لطلب الفاني، وتترك الباقي، فتكون من النادمين.

 واعلم أن حكيمًا قال:

أين الملوك التي عن حظها غفلت ** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها؟[7]

نعوذ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، ومن الضلالة بعد الهدى.

لقد حُدِّثتُ أيها الأمير عن بعض الصالحين أنه كان يقول: كفى المرءَ جنايةً أن يكون للخونة أمينًا، وعلى أعمالهم معينًا.

 وقيل لآخر فقير: ألا تذهب إلى السلاطين، فتصيبَ من خيرهم؟ فقال: نعوذ بالله مما يكرَهُ تعالى؛ لأن أموت مؤمنًا مهزولاً؛ أحب إليَّ من أن أموت منافقًا سمينًا.

 وأحضر ابنُ هُبَيْرةَ[8] الحسنَ والشَّعْبيَّ، فقال لهما: أصلحكما الله، إن أمير المؤمنين يزيد بن عبدالملك[9] يكتب إليَّ كتبًا، أعرف في تنفيذها الهَلَكَة، فأخاف إن أطعته غضب الله، وإن عصيته لم آمَنْ سطوتَه، فما تريان لي؟ فقال الحسن للشعبي: يا أبا عمرو، أجِب الأمير، فرفق له في القول، وانحطَّ في هوى ابن هُبَيْرةَ.

 وكان ابن هُبَيْرةَ لا يستشفي دون أن يسمع قولَ الحسن، فقال: قل ما عندك يا أبا سعيد، فقال الحسن: أوَليس قد قال الشعبي؟ فقال ابن هُبَيْرةَ: ما تقول أنت؟ فقال: أقول - واللهِ - يوشك أن ينزِلَ بك ملكٌ من ملائكة الله، فظٌّ غليظ لا يعصي اللهَ ما أمره، فيُخرجك من سَعة قصرك، إلى ضيق قبرك، فلا يغني عنك ابنُ عبدالملك شيئًا، فبكى عمر بنُ هبيرة بكاءً شديدًا، وأجزل جائزة الحسن، وقصَّر في جائزة الشعبي.

 ثم خرج الشعبي إلى المسجد، فلما اجتمع أهل مجلسه، قال: أيها الناس، من استطاع منكم أن يؤثر الله - عز وجل - على خلقه، فليفعل؛ إن الأمير ابن هبيرة أرسل إليَّ وإلى الحسن، فوالذي نفسي بيده! ما علم الحسنُ شيئًا جهلته، ولكن راعيتُ ابنَ هُبَيْرةَ، وأردت رضاه، وقصَّرت في قولي له، فأقصاني الله وأبعدني، وكان الحسن مع الله - عز وجل - فقرَّبه وأدناه، وسخَّر ابن هُبَيْرَة فآثره وحَبَاه.

 

وقيل: خرج الحسن يومًا من عند ابن هبيرة، فإذا هو بالقراء على بابه، فقال: ما جاء بكم هاهنا؟ لا كثر الله جمعكم، تريدون الدخول على هؤلاء الجَرْبَى! فوالله ما مخالطتهم مخالطة الأبرار، ولا مجالسهم مجالس الأخيار، تفرَّقوا فرَّق الله بين أرواحكم وأجسادكم، ولا كثر الله في المسلمين مثلكم، حذوتُم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجزَرْتم رؤوسَكم، وكحلتم أعينكم، فكنتم شر عصابة، حلقوا الشوارب للطمع، فضحتم القراء، لا جمع الله شملكم.

 أمَا - والله - لو زهدتم فيما عندَهم، لرغبوا فيما عندكم، فأبعد الله من أبعد، وما أحسبَه غيرَكم، ثم انصرف مغضبًا.

 وروي أن الحجاج بنى دارًا بواسط[10]، وأحضر الحسنَ ليراها، فلما دخلها، قال: الحمد لله، إن الملوك ليرون لأنفسهم عزًّا، وإنا لنرى فيهم كل يوم عبرًا، يَعمِدُ أحدهم إلى قصر فيشيِّده، وإلى فرش فينجده، وإلى ملابس ومراكب فيحسِّنها، ثم تحفُّ به ذئاب طمع، وفراش نار، وأصحاب سوء، فيقول: انظروا ما صنعت. فقد رأينا أيها المغرور! فكان ماذا يا أفسق الفاسقين؟! أما أهل السموات، فقد مقتوك، وأما أهل الأرض، فقد لعنوك، بنَيْتَ دار الفناء، وخرَّبتَ دار البقاء، وعززت في دار الغرور، لتذل في دار الحُبور، ثم خرج وهو يقول: سبحانه أخذ عهده على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. وبلغ الحجاج ما قال، فاشتد غضبه، وجمع أهل الشام، فقال: يشتمني عبيد أهل البصرة وأنتم حضور، فلا تنكرون! ثم أمر بإحضار الحسن، فجاء وهو يحرك شفتيه بما لم يسمع، حتى دخل على الحجاج، فقال: يا أبا سعيد، أمَا كان لإمارتي عليك حق حين قلت ما قلت؟ فقال: يرحمك الله أيها الأمير؛ إن مَن خوَّفك حتى تبلغ أمنك أرفقُ بك وأحبُّ فيك ممن أمَّنك حتى تبلغ الخوف، وما أردت الذي سبق إلى وَهمك، والأمران بيدك: العفو والعقوبة، فافعل الأَوْلَى بك، وعلى الله فتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فاستحيا الحجاج منه، واعتذر إليه، فأكرمه وحباه.

 وقيل: جاء رجل من الشُّرَطِ كان على هنأة إلى الحسن، فقال: عزمت على ترك النبيذ، فقال الحسن: هلاَّ بدأت بترك ما هو أولى بك، أخِّر التوبة من النبيذ حتى يكون هو شر عملك، وحينئذٍ فتب منه.

 وقيل: سمع الحسن رجلاً من أصحاب الحجاج يذكر عليًّا - عليه السلام - بسوءٍ، فقال: لقد استوجبَها، فقال الرجل: النار يا أبا سعيد؟ فقال: نعم! وبئس المصير، قال: فهل توبة عافاك الله؟ فقال الحسن: ثكِلتْك أمُّك! وهل لك إن لم تتب بعذاب الله من طاقة؟! إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

 قيل: لما ولي ابنُ أرطأةَ[11] البصرة، عزم على أن يولي الحسن القضاء، فهرب الحسن واستتر، وكتب إليه: أما بعد: أيها الأمير، فإن الكارهَ للأمر غيرُ جدير بقضاء الواجب فيه، وإن العامل للعمل بغير نية حقيق ألا يعان عليه، ولك في المختارين للأمر الذي دعوتني إليه كفاية وقناعة، وقصدك إيَّاهم، وتعويلك عليهم: أولى بك، وأصون لعملك، وإنه لا خير في الاستعانة بمن لا يرى أن العمل الذي يُدْعَى إليه واجب عليه، ولا فرض لازم له، فعافني أيها الأمير عافاك الله، وأحسن إليَّ بترك التعرض لي؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. فأعفاه، وأكرمه، وقال: والله ما كنت لأبتليَه بما يكرهُه.

 روي أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله  كتب إلى الحسن: اكتب إليَّ يا أبا سعيد بموعظة وأوجز، فكتب إليه:

أما بعد: يا أميرَ المؤمنين، فكأن الذي كان لم يكن، وكأن الذي هو كائن قد نزل، واعلم يا أمير المؤمنين أن الصبر وإن أذاقك تعجيلَ مرارته، فلنعم ما أعقبك من طيب حلاوته، واعلم يا أمير المؤمنين، أن الفائز مَن حرص على السلامة في دار الإقامة، وفاز بالرحمة فأُدخل الجنة.

 

وقيل: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى الحسن: اكتب إليَّ يا أبا سعيد بذم الدنيا، فكتب إليه:

أما بعد: يا أمير المؤمنين، فإن الدنيا دار ظعنٍ وانتقال، وليست بدار إقامة على حال، وإنما أنزل إليها آدم عقوبةً، فاحذرها؛ فإن الراغب فيها تارك لها، والغني فيها فقير، والسعيد من أهلها من لم يتعرَّض لها؛ إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق، وجدها تُذلُّ من أعزها، وتفرِّق من جمعها، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه، ويرغب فيه من يجهله، وفيه –والله - حتفُه، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه، يحتمي قليلاً؛ مخافة ما يكره طويلاً، الصبر على لأوائها[12] أيسر من احتمال بلائها، واللبيب من حذرها ولم يغتر بها؛ فإنها غدارة حمَّالة خدَّاعة، قد تعرضت بآمالها، وتزينت لخطَّابها، فهي كالعروس؛ العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة[13]، وهي - والذي بعث محمدًا بالحق - لأزواجها قاتلة، فاتق أيها الأمير صرعتَها، واحذر غِيَرَها؛ فالرخاء فيها موصول بالشدة والبلاء، والبقاء مؤدٍّ إلى الهلكة والفناء.

 واعلم يا أمير المؤمنين أن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وتاركها موفَّق، والمتمسك بها هالك غرِقٌ، والفطن اللبيب من خاف ما خوَّفه الله، وحَذِر ما حذَّره، وقدم من دار الفناء إلى دار البقاء، فعند الموت يأتيه اليقين.

 الدنيا - والله يا أمير المؤمنين – حلم، وهي دار عقوبة، لها يَجمَعُ من لا عقل له، وبها يَغترُّ من لا علم عنده، والحازم اللبيب من كان فيها كالمداوي جراحه، يصبر على مرارة الدواء؛ لما يرجو من العافية، ويخاف من سوء عاقبة الدار.

 والدنيا - وايم الله يا أمير المؤمنين - حلم، والآخرة يقظة، والمتوسِّط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلام، وإني قائل لك يا أمير المؤمنين ما قال الحكيم:

وإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة  ** وإلا فإني لا إخالُك ناجيَا[14]

ولما وصل كتابه إلى عمر بن عبدالعزيز، بكى وانتحب حتى رحمه من كان عنده، وقال: يرحم الله الحسن؛ فإنه لا يزال يُوقظُنا من الرَّقدةِ، وينبِّهنا من الغفلة، ولله هو من مشفقٍ ما أنصحَه! وواعظٍ ما أصدقَه وأفصحَه!

 وكتب إليه عمر بن عبدالعزيز: وصلتْ مواعظُك النافعة، فأشفيت بها، ولقد وصفت الدنيا بصفتها، والعاقل من كان فيها على وَجِلٍ، فكأن كل من كُتِب عليه الموت من أهله قد مات، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

 فلما وصل كتابه إلى الحسن، قال: لله أميرُ المؤمنين من قائلٍ حقًّا، وقابلٍ وعظًا، لقد أعظم اللهُ - عز وجل - بولايته المنة، ورحم بسلطانه الأمة، وجعله بركة ورحمة.

 وكتب إليه:

أما بعد، فإن الهول الأعظم، والأمر المطلوب، أمامك، ولا بد من مشاهدتك ذلك، إما بنجاة أو بعطب.

 وكتب إليه - رحمة الله عليه -: احذر يا أمير المؤمنين، أن تكون فيما ملَّكك الله من أمر عباده كعبد ائتمنه مولاه، واستحفظه ماله وعياله، فبذر المال، وسرَّح العيال، وأفقَرَ أهلَه، وأتلف مالَه.

 واعلم يا أمير المؤمنين، أن الله - جل ثناؤه - أمر أنبياءَه أن يزجروا عباده عن الخبائث، وينهوهم عن الفواحش...

 اذكر يا أمير المؤمنين قلةَ أشياعك عند ربك، وأنصارِك عليه يوم حشرك، فتزوَّد ليوم الفزع الأكبر.

 واعلم يا أمير المؤمنين، أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، وبه يطول مقامك، وعنه يفارقك أحباؤك، يلقونك فيه وحيدًا، ويسلمونك إليه فريدًا، فتزوَّد يا أمير المؤمنين ليوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، واذكر إذا بُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، يوم تكون الأسرار ظاهرة، وقد نشر الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فاعمل الآن وأنت في مَهَل، قبل حلول الأجل، وانقطاع العمل، واحذر يا أمير المؤمنين أن تحكم في عباد الله بحكم الجاهلين، أو تسلك بهم سبيلَ الظالمين، ولا تسلِّط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم لا يَرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.

 فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ولَّى ظالمًا، أو أعانه، فقد ولَّى الإسلامَ ظهرَه» [15]، فاتق الله أن تبوء بأوزارك وأوزارٍ مع أوزارك، وتحمِلَ أثقالك وأثقالاً مع أثقالك، ولا يغرنك قوم يتنعَّمون ببؤسك، ويأكلون الطيبات بذهاب طيباتك، ولا تنظر يا أمير المؤمنين إلى قدرك اليوم، وانظر إلى قدرك غدًا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الرب، في مجمع من الملائكة والرسل، وقد عَنَت الوجوه للحي القيوم.

 يا أمير المؤمنين، وإن لم أبلُغْ في موعظتي ما بلغ أولو النهى، فلم آلك شفقة، ولا ادَّخرتُ عنك نصيحةً، ولا قصَّرت في موعظتك، فأنزِلْ كتابي إليك منزلَه، وتفرغ لسماعه فراغَ من يرجو الانتفاع به، ولْتَهُنْ عندك مرارةُ الدواء؛ لما ترجو من عاقبة الشفاء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

 وكتب إليه: أما بعد: يا أمير المؤمنين، خفِ الله ما خوَّفك، يكفِك خوفَك من الناس، وخذ مما في يدك لما بين يديك تسعد، فكأن قد، وعند الموت يأتيك اليقين.

 وكتب إليه عمر بن عبدالعزيز: اكتب إليَّ أبا سعيد بصفة الإمام العادل، وأين هو؟ وأنى للأمة به؟

وكتب الحسن إليه: أما بعد:

يا أمير المؤمنين، أرتعك الله في رياض نعمتِه، ونزَّهك في حدائق صنعته.

 فاعلم أن الله - سبحانه وتعالى - جعل الإمام العادل قِوَامًا لكل مائل، وقصدًا لكل جائر، وصلاحًا لكل فاسد، وقوة لكل ضعيف، ونَصَفَةً لكل مظلوم، ومَفزَعًا لكل ملهوف.

 

والإمام العادل كالراعي الشفيق، والحازم الرفيق، الذي يرتاد لغنمه أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكفيها أذى الحر والقَر.

 والإمام العادل كالأب الحاني على ولده؛ يسعى لهم صغارًا، ويعلِّمهم كبارًا، ويكسبهم في حياته، ويدخر لهم بعد وفاته.

 وكالأم الشفيقة، البرة الرفيقة، حملت ولدَها كُرهًا، ووضعته كُرهًا؛ تسهد إذا سهد، وتسكن إذا سكن، ترضعُه تارةً، وتُفطِمُه أخرى، تفرَحُ بعافيته، وتهتم بشكايته.

 والإمام العادل كوصي اليتامى، وخازن المساكين؛ يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم.

والإمام العادل كالقلب بين الجوارح؛ تصلُحُ بصلاحه الجملة، وتفسد بفساده.

 والإمام العادل هو القائمُ بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله فيسمعهم، ويبصر آثار نعمة ربهم فيبصِّرهم، وينقاد إلى أوامر الله تعالى ويقودهم.

 وأرجو يا أمير المؤمنين أن تكون هو إن شاء الله.

 ولولا أن الله افترض نصيحتَك، لكنتُ - لما منحك الله من هداية، ورزقك من توفيق وتسديد - في غنًى عن موعظتك، ولكن الله - جل ثناؤه - أخذ ميثاقَه على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه.

 

[1] أي: أموالهم، الفيء: الخراج والغنيمة. انظر: الرازي: مختار الصحاح.

[2] العَرِّيف: النقيب، وهو دون الرئيس، والجمع: عرفاء.

انظر: الجوهري: الصحاح؛ الرازي: مختار الصحاح.

[3] لم أجد له ترجمة.

[4] أي يشيدون المنازل والقصور. المدر محركة: قطع الطين اليابس.

انظر: الفيروزابادي: القاموس المحيط.

[5] يؤثرون: يفضلون، أي يفضلون متاع الدنيا وأثرها المادي على غيره.

والأثر: بقية الشيء، والجمع: آثار وأثور، وخرجت في إثره وفي أثره؛ أي: بعده، والأثر: الأجل، وسمي به لأنه يتبع العمر. انظر: ابن منظور: لسان العرب.

[6] يوم التغابن: يوم البعث، قيل: سمي بذلك لأن أهل الجنة تغبن فيه أهل النار بما يصير إليه أهل الجنة من النعيم، ويلقى فيه أهل النار من عذاب الجحيم، ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته، وضرب الله ذلك مثلاً للشراء والبيع كما قال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف: 10]، وسئل الحسن عن قوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن: 9]، فقال: غبن أهلُ الجنة أهلَ النار؛ أي: استنقصوا عقولهم باختيارهم الكفر على الإيمان.

انظر: ابن منظور: لسان العرب ؛ الجوهري: الصحاح.

[7] خطب عبدالله بن الحسن على منبر البصرة في العيد، فأنشد في خطبته:

أين الملوك التي عن حظها غفلت  ** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

تلك المدائن بالآفاق خالية  ** أمسَتْ خلاء وذاق الموتَ باليها

انظر: الجاحظ: البيان والتبيين، ابن عبدربه الأندلسي: العقد الفريد.

[8] ابن هبيرة (000 - نحو 110 ه‍ = 000 - نحو 728 م): عمر بن هبيرة بن سعد بن عدي الفزاري، أبو المثنى: أمير، من الدهاة الشجعان، كان رجل أهل الشام، وهو بدوي أمي، صحب عمرو بن معاوية العقيلي في سيره لغزو الروم، فأظهر بسالة، وشارك في مقتل مطرف بن المغيرة، المناوئ للحجاج الثقفي، وأخذ رأسه، فسيره به الحجاج إلى عبدالملك بن مروان، فسُرَّ به عبدالملك وأقطعه إقطاعًا ببرزة (من قرى دمشق)، ولما صارت الخلافة إلى عمر بن عبدالعزيز ولاه الجزيرة، فتوجه إليها، وغزا الروم من ناحية أرمينية فهزمهم وأسر منهم خلقا كثيرًا، واستمر على الجزيرة إلى أن كانت خلافة يزيد بن عبدالملك، فولاه إمارة العراق وخراسان، فكانت إقامته في الكوفة.

ثم عزله هشام بن عبدالملك سنة 105 ه‍ وولى خالد بن عبدالله القسري، فحبسه خالد في سجن واسط، ولم يطل حبس ابن هبيرة، فإن غلمانًا له من الأروام حفروا نفقًا إلى السجن وأحضروا له خيلاً، فهرب ومعه ابنه يزيد، وذهب إلى الشام، فأناخ بباب مسلمة بن عبدالملك، فكان واسطته عند "هشام" فرضي عنه هشام وأمنه، وللفرزدق في هربه شعر، قال ابن هبيرة: ما رأيت أشرف من الفرزدق؛ هجاني أميرًا، ومدحني أسيرًا.

انظر: الزركلي: الأعلام، 10/252.

[9] يزيد بن عبدالملك (71 - 105 ه‍ = 690 - 724 م) يزيد بن عبدالملك بن مروان، أبو خالد: من ملوك الدولة الأموية في الشام، ولد في دمشق، وولي الخلافة بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز (سنة 101 ه‍) بعهد من أخيه سليمان بن عبدالملك، وكانت في أيامه غزوات، أعظمها حرب الجراح الحكمي مع الترك وانتصاره عليهم.

وخرج عليه يزيد بن المهلب بالبصرة، فوجه إليه أخاه مسلمة فقتله، وكان أبيض جسيمًا مدور الوجه، مليحه، فيه مروءة كاملة، مع إفراط في الانصراف إلى اللذات، ومات في إربد (من بلاد الأردن) أو الجولان، بعد موت "قينة" له اسمها "حبابة" بأيام يسيرة، وحمل على أعناق الرجال إلى دمشق، فدفن فيها، وكان لحبابة هذه أثر في أحكام التولية والعزل على عهده، ونقل الديار بكري (في تاريخ الخميس) أنه: "مات عشقًا" قال: "ولا يعلم خليفة مات عشقًا غيره"، وكان يلقب ب‍ "القادر بصنع الله"، ونقش خاتمه: "فني الشباب يا يزيد!"، وربما قيل له: "يزيد بن عاتكة" نسبة إلى أمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية.

ونقل اليافعي أنه لما استخلف قال: سيروا بسيرة عمر بن عبدالعزيز، فأتوه بأربعين شيخًا شهدوا له أن الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب! وكانت مدة خلافته أربع سنين وشهرًا.

انظر: الزركلي: الأعلام، 17/489.

[10] واسط في عدة مواضع، نبدأ أولاً بواسط الحجاج؛ لأنه أعظمها وأشهرها، فأما تسميتها فلأنها متوسطة بين البصرة والكوفة؛ لأن منها إلى كل واحدة منهما خمسين فرسخًا.

انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان، 5 / 347.

[11] بسر بن أرطاة (000 - 86 ه‍ = 000 - 705 م): بسر بن أرطاة (أو ابن أبي أرطاة) العامري القرشي، أبو عبدالرحمن: قائد فتاك من الجبارين. ولد بمكة قبل الهجرة وأسلم صغيرًا، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين (في مسند أحمد) ثم كان من رجال معاوية بن أبي سفيان. وشهد فتح مصر. ووجهه معاوية سنة 39 ه‍ في ثلاثة آلاف إلى المدينة، فأخضعها، وإلى مكة فاحتلها، وإلى اليمن فدخلها. وكان معاوية قد أمره بأن يوقع بمن يراه من أصحاب علي، فقتل منهم جمعًا. وعاد إلى الشام، فولاه معاوية على البصرة سنة 41 ه‍ بعد مقتل علي وصُلح الحسن، فمكث يسيرًا وعاد إلى الشام، فولاه البحر، فغزا الروم سنة 50 ه‍، فبلغ القسطنطينية. وأصيب بعد ذلك في عقله، فلم يزل معاوية مقربًا له، مدنيًا منزلته، وهو على تلك الحال، إلى أن مات في دمشق، وقيل: في المدينة، عن نحو تسعين عامًا.

انظر: الزركلي: الأعلام، 4/124.

[12] اللأواء: الشدة وضيق المعيشة. انظر: ابن منظور: لسان العرب.

[13] (والهة) إذا ذهب عقله من فرح أو حزن، وقيل أيضًا: (ولهان). انظر: المصباح المنير للفيومي.

[14] من الأبيات السائرة التي نسبت لعدد من الشعراء، فقد نسبها إبراهيم البيهقي في "المحاسن والمساوئ" لذي الرمة، ونسبها ابن قتيبة الدِّينَوَرِيُّ في "المعارف" للأسود بن سريع التميمي، بينما نسبها النويري في "نهاية الأرب في فنون الأدب"، وابن سلام الجمحي في "طبقات فحول الشعراء" للفرزدق.

[15] لم أجد الحديث بهذا اللفظ أو قريب منه في كتب السنة.

أحمد عبد الوهاب الشرقاوي