الهـرّيــّات !!

منذ 2011-01-20

من عجائب الموافقـات أنَّ صور الهراوات وهي تهوي على نوَّاب الشعب ! فتطحـن ضلوعَهم، وتفلق رؤوسَهـم، وتجلـد ظهورَهـم، وهـم يستغيثـون ولا مغيـث، ويستصخرون (الديمقراطية ) ولات حين صريـخ !




من عجائب الموافقـات أنَّ صور الهراوات وهي تهوي على نوَّاب الشعب ! فتطحـن ضلوعَهم، وتفلق رؤوسَهـم، وتجلـد ظهورَهـم، وهـم يستغيثـون ولا مغيـث، ويستصخرون (الديمقراطية ) ولات حين صريـخ !

وقـد جاءت متزامنة مع ما يسمَّى اليوم العالمي لحقوق الإنسان! حيث صدرت بيانات يصعب حصرها من جمعيات حقوق الإنسان العالمية، والعربية، تندد بما آلت إليه أوضاع الحريات في البلاد العربية من واقـع مزرٍ يندى له الجبـين .


وهي وإن اختلفت صياغتها، لكنها قـد اتفقت على بعض العبارات في المعنـى مثـل: ( نستشعر الأهمية البالغة لهذا المطلب الأساسي الذي لا تطـوّر، ولا تقدم لمجتمع من مجتمعاتنا إلاّ بولوج بابه، والحفاظ عليه، فلا معنى لوطن لا ينعم فيه أهله بالحريـّة، والكرامة، والاعتبار .. وبالرغم من تعدد مراصد حقوق الإنسان، وتطورها خلال العقدين الأخيرين، في كثير من البلدان، إلاّ أن الأمر ما يزال يسير بصورة سلحفاتية في وطننا العربي !
وقـد عددت الهيئات الحقوقية العربية الناشطة في أصقاع الوطن العربي، أشكال مصادرة الحريات والتضييق عليها فذكرت منها: (حبس كتاب، ومثقفين، وصحفيين في أكثر من بلد عربي بسبب ما كتبوه! وحجب وإلغاء أكثر من صحيفة ،ووسيلة إعلام ! ووضع قيود تشريعية على حرية التعبير! وممارسة الرقابة بمستويات مختلفة على وسائل التعبير والمطبوعات لاسيما الرقابة القبلية على الصحف! وأجهزة الإعلام !
واعتداء رجال الشرطة، وعناصر الأمن بالضرب، والإهانة على العديد من الكتاب والصحفيين، والمثقفين الذين يؤدون واجبهم، في تغطية الحدث، وتنوير الرأي العام..!!

والمراقبة بمستويات مختلفة في بعض الأقطار على استخدام شبكة الإنترنت !

ومصادرة حرية التظاهر والاجتماع، وجميع الأشكال السلمية للتعبير عن الرأي في كثير من البلاد العربية (!.

وبلا ريب،وفق الإحصاءات الدقيقة أنَّ عامة مصادرة الحريات في الوطن العربي بل تكاد تكون 100% منها بسبب انتقاد تعسُّف السلطة، واستبدادها، والدفاع عن الحقوق العامة التي تنتهكها السلطات في الوطن العربي ضدّ شعوبـها .


ولا يبدو في الأفق أي أمل لتحسُّن الأوضـاع من داخل أنظمة الحكم في البلاد العربية، وذلك للأسباب التالية :

*أولاً : لا أمل في أن تنتقل السلطات في الوطن العربي طوعاً من عقليّة المالك للقطيع الذي يملك(العصا والشعير)، إلى ثقافة الإشراك الكامل للشعب في السلطة، وتحمـّل المسؤولية الكاملة أمامه، كما في تراثنــا(قال أحد العلماء للخليفة: السلام عليك أيها الأجيـر)، وفيـه: (إن أحسنـت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني)، (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم(.
وأما الدساتير العربية، فهـي وإن طرِّزت بعبارة(الأمـّة مصدر السلطات جميـعاً)، فإنَّ لسان حال السلطة يقول"وفق التعبير المصري"(بلَّها واشرب ميّتها.(
لأنـّه- وبكلّ بساطة- هذه نقلة لا تسمح بـه القوى الدولية المهيمنة، إذ من شأن هذه النقلة إشعـال جذوة النهضة الحضارية للأمـّة.
ثـم إنّ هذه النقلة تعني التنازل عمـَّا يراه الزعماء(ممتلكاتهم الشخصية)، وذلك يشمـل حتّى الشعوب التي ينظر إليها الزعماء على أنها حظائـر تابعـة لهم، ولـ (حيواناتهـم المنوية)بعد وفاتهم، أعني:التوريث !!

* ثانياً : ارتبط إطلاق الحريـَّات في الوطن العربي بهاجس الخوف على زوال الكرسي، بحيث أصبحـا كاللفظين المترادفين، وهذا ما يفسِّر المبالغة في القمع الوحشي، ومـن الواضح أنّ هذه المعادلة ليست سوى انعكاس لفشل السلطة في تحقيق آمال الشعوب، فالنجاح لا يخشى النقـد، وهذا إنما هو نتيجة حتمية للتوريث، فآمال الشعوب لا تتحقق إلاّ بمن تختاره هـي،"لـما تختاره"!!
ولهذا السبب قـد أقيمت البيعة في النظام السياسي الإسلامي على هذا المبدأ .

* ثالثاً : لأنَّ المستفيدين من استبداد السلطة في الوطن العربي من طوابيـر النفـاق السياسي، أو الديني، أو الثقافـي، هـم أيضا يقاتلون بشراسـة دون السماح بالحريـّات، فهـم يشكلون خطوط دفاع سياسيّة، وثقافية، ودينيـّة زائفة، رديفة لأجهـزة الأمـن، تحمي القمـع، والاستبداد!!


وصفوف النفاق هذه التي مع السلطة، هـي أشبه بزوائد لحميّة متناثرة على جسم ضخم متخم بالفسـاد، تتحرك معه أينمـا تحرَّك، وتقتات على فساده .

وهـي أحيانا تتعرض لعمليات جراحية من السلطة نفسها، تزيلها من جسدها، وتأتي بغيرها، بحسب الحاجة إلى التجديد، وأحيانا هي تقاتل وهي متعلقة بذلك الجسد الضخم، و(تترافس) فيسقط بعضها، ببعـض، إلى أن يأتي دورها عندمـا تتخلص منها السلطة نفسها، أو أحد أفراد الهرم فوقهـا، هرم الزوائد المتعلقـة بذلك الجسد الضخـم المتخم بالفساد .


أما الطابور السياسي المزيَّف، فوظيفته أن يؤدي دور النقد اللطيف الخفيف المبطَّن بالتقديس، ليحـل بذلك محـل مشاريع الإصلاح الحقيقية فيزيحهـا بأخذ مكانها ويُشغـل النشاط السياسي في المجتـمع، ويستهلكـه في هذا النفق المزيـَّف، الذي ينتهي بالنشاط السياسي إلى سرداب أسفل القصر الرئاسي نفسه !

وأما الطابور الثقافي المزيّف فوظيفته وضع مساحيق التجميل على قمع الحريـّات، ومصادرة الحقوق !

وكم أضحكني تصريح أحد نوَّاب الحزب الحاكم في مصر بعد الانتخابات المهزلة عندما قال: كنت أتمنـّى لو نجحت المعارضة بأعداد كبيرة في مجلس الشعب، لكي يشكلوا ضغطا على الحزب الحاكم، ويحدثوا توازنا تكمل به العمليّة الديمقراطية !!

والعجيب أنَّ هذا الدور التمثيلي السخيف يتكرر كثيراً في الأنظمة العربية، رغم أن الذين يؤدّونه بإتقـان يعلمون أنـَّه لا أحـد يصدّقهـم !!


أما الطابور الديني المزيَّف فرسالته تلبيس الحريات لباس المروق من الدين! ولف عمامة التقوى والعمل الصالح على التسبيح بحمد الاستبداد، واستعمال سلطان الترهيب الغيبي بعذاب القبور، ونيران الثبور، للزجر عن المطالبة بالحقوق، وعلى رأسها حقّ نقد السلطة، والمطالبة بتغييرها إذا فشلت في تحقيق آمال الشعوب .


إنـّه في الوقت الذي يطوِّر العالـم كلـُّه ـ ضمن التطوُّر السريع للحيـاة في كلّ شيءـ أنظمته السياسية، وإدارة الدول إلى حيث مزيد من الكرامة للشعوب، واستمتاعها بحقوقها، وإيقافها جميع صور الاستبداد، ووقفها لنزيف الثروات، وذلك بفتح أبواب المعارضة السياسية، وتوفير مؤسسات المجتمع المدني، وإلـغاء القيود على الحريـّة لتستطيع المعارضة السياسية أن تصل للشارع، فإما أن يقتنع بمشروعها، فيوصلها إلى القمـَّة، أو يسقطها فشـلها، لا هراوات الأمـن !!


في الوقت الذي يحدث هذا كلُّه للعالم، يزداد قمع الحريات في بلادنا العربية، ويستمـر حرمان شعوبنا مما تتمـتَّع به شعـوب العالم من حولنا!

وبهــذا فإنَّ الأنسب أن يقال: ( الهريـّات) إذ كان لسان حال النظام العربي هو استبدال الهاء بالحاء في الحريـَّات، فتكون مشتقة من(هرَرَ)، أي كره الشيء، فالحقُّ أنـَّه لا شيء أبغض إلى النظام العربي من الحريـّات التي تسمح بنقده، وتقويمـه !!

وللإنصـاف فإنـّه يُستثنى من ذلك، عشقهم الهستيري لحرية الدعارة، والرذيلة، وتجارة الخنـا !!


وختاما فإنَّ التفاؤل الذي نبديـه دائما بأنَّ التغيير قادم لا محالة، هـوـ بحول الله تعالى ـ في محلّه، لكنه سيأتي بما أودعه الله في قـوى الطبيعـة ذاتهـا، الآخذة في التطـوُّر، وهي سنن الله تعالى في خلقه التي لا تتبدل، وهو ما يبشـِّر بنهضة شاملة قادمـة، تنطـلق فيها أمَّتـُنا نحو آفـاق حضارية توحِّدها، وترقى بها إلى قمة التفوُّق الحضـاري العالمي بإذن الله تعالى .

والله المستعان، وهو حسبنا، عليه توكّلنا، وعليه فليتوكـّل المتوكـّلون.

 

المصدر: موقع الشيخ حامد العلي

حامد بن عبد الله العلي

أستاذ للثقافة الإسلامية في كلية التربية الأساسية في الكويت،وخطيب مسجد ضاحية الصباحية