تأملات في سيرة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه!! (3)

منذ 2017-03-15

الصلة بالله تعالى

!!
الصلة بالله تعالى عنوان الفالحين على ظهر هذه الأرض، وما رأيت إنساناً لزم بابها إلا انقادت له الدنيا بحذافيرها.. الصلة بالله الباب الذي من ولجه فتحت له الخيرات، ووصل إلى ربه من أقرب الطرق، ونال خيري الدنيا والآخرة... وكُتّاب التاريخ من تلك العصور إلى عصرنا اليوم هم ممن صدق الله تعالى في هذا الطريق فصدقه الله تعالى..



في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائماً» ؟ قال أبو بكر أنا. قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟» قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن فيي امرئ إلا دخل الجنة». 

 

وفي إنفاقه للمال في سبيل لله تعالى ما يعجز اللسان عن الوصف والحال عن التعبير فقد قال عمر رضي الله عنه أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أن نتصدّق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً فجئت بنصف مالي فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» فقلت: مثله قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً.

 

ويعقد اللسان عن الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم «ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر» وهل بقي بعد ذلك برهان لمزيد من التأكيد على مثل هذه المعاني في شخصية هذا العلم..؟ لكن دعني أختم لك بهذه الخاتمة من قول نبيك صلى الله عليه وسلم في البخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنفق في زوجين من شيء من الأشياء دُعي من أبواب ـ يعني الجنة ـ يا عبد الله هذا خيرٌ، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الصيام وباب الريان» ، فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: هل يُدعى منها كلها أحدٌ يارسول الله؟ قال: «نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر» وهل تتصوّر رجلاً يحلم بهذه الأمنيات لا يكون له تلك الفضائل والمناقب؟! لله در الصالحين في مثل هذه الهمم، ولله درك يا أبا بكر في هذه الأماني، وتلك التضحيات! إنني على يقين وأنا أكتب هذا المساء في صور هذا المثال الرائع والقدوة المثلى في تاريخ أمة الإسلام أن أمة هذه قدواتها لن تموت على ظهر الأرض! فعلى آثار أبي بكر كثير بإذن الله تعالى يعيد تراث الأمة، ويكتب امتداد تاريخها الطويل! إن الصلة بالله تعالى هي ميراث أبي بكر رضي الله تعالى عنه من رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي ميراث الأمة والدعاة على وجه الخصوص منهم من قدواتهم إلى يوم الدين، وهي الكفيلة بإذن الله تعالى بصنع تاريخ الأمة من جديد أو بإحياء ما اندرس منه.. وقد قال الأول: 

فإذا أحب الله باطن عبده *** ظهرت عليه مواهب الفتّاح


وإذا صفت لله نية مصلح *** مال العباد عليه بالأرواح


لقد كان أبو بكر مثالاً فريداً في هذا الصورة المكتملة التي يصنعها للأجيال من بعده، وندرك بعين الحق واليقين أن هذا الطريق هو الذي يصنع عالم الروح في أوج علوها ومجدها فيرحل بها إلى عالم السماء، ومن تشبه بقوم فهم منهم! والأرواح التي تكتمل صناعتها وفق هذه المبادئ وهذه المُثل يحق لها أن تركل كل عوائق الدنيا، وتطمس كل المعالم التي تعترضها في سيرها لتكتب صورة حية لحُمّال الرسالة وأصحاب المنهج...

 

وعذراً أيها القرّاء الكرام فسيرة هذا الإمام تهتف بالمعالي وأراكم أهلاً لبلوغها بإذن الله تعالى، ونصر الأمة كلها هذه بوابته الأولى، وتلك بدايته، ولا طريق آخر غير هذا، والله المستعان!.

 

وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وإذا عُلم هذا فمن الناس من يكون سيّد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفّر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله.... ثم ساق بعد ذلك المسالك التي ينتهجها الصالحون في سيرهم من الذكر، والصلاة، والإحسان، والنفع المتعدي، وتلاوة القرآن، والصوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... ثم قال: ومنهم جامع المنفذ، السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق... قد ضرب من كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك، إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو مراقبة ومحبة وإنابة إلى الله تعالى وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنى أستقلت ركائبها، ويتوجه إلى الله تعالى حيث استقرت مضاربها... إلى أن قال: فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة... فإذا سلك العبد على هذا عطف عليه ربه فقربه، واصطفاه وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه وتولى تربيته أحسن وابلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده... فلو كُشف الغطاء على ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه حباً له وشوقاً إليه. اهـ

 

وإنّي والله لأرى هذه المعالم في سيرة رجل فأحبه ويهفو قلبي إليه، ويزدان لساني بذكره.. وهل غير الله تعالى لطف به فهيّج هذه المحاب في قلوب عباده؟! إنني أتحدث إلى أصحاب المعالي، ولئن كان فُتح للإنسان في طريق فالأشواق إن شاء الله تعالى إلى أكبر منه.. والأماني إلى أفضل وأوسع،قد قال ربك {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69 ] وسنن الله تعالى التي لاتتغيّر أن من سار على الطريق وصل، ومن هتف بالمعالي تنزّلت لتأخذ بعناقه {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد 11]  والله المستعان عليه التكلان.