الشعب يريد .. والرئيس يرفض

منذ 2011-02-08

لا تبدو في الأفق حتى الآن نذر بوادر تشير إلى رغبة الرئيس المصري محمد حسني مبارك بالتنحي عن السلطة في الوقت الراهن كما يهدف المحتجون الذين يطالبون بإسقاطه من الحكم بعد نحو 30 عاماً من وصوله إلى السلطة، مع تشبثه بمقعده !!



لا تبدو في الأفق حتى الآن نذر بوادر تشير إلى رغبة الرئيس المصري محمد حسني مبارك بالتنحي عن السلطة في الوقت الراهن كما يهدف المحتجون الذين يطالبون بإسقاطه من الحكم بعد نحو 30 عاماً من وصوله إلى السلطة، مع تشبثه بمقعده حتى انتهاء ولايته الرئاسية في سبتمبر المقبل، لكن الاحتجاجات لا تزال متواصلة والمعتصمون الذين اتخذوا من ميدان التحرير منبراً للمناداة بمطالبهم لم يتراجعوا عن مطلبهم الأساسي بإسقاطه ورحيل نظامه، رافضين الدخول في حوار قبل الاستجابة لمطالبهم.

وتكتسب مطالبة المحتجين قوة دعم كبيرة من القوى الدولية التي تنادي الرئيس مبارك (83 عاماً) بالتخلي عن الحكم والسماح بتداول سلمي للسلطة، في الوقت الذي لا تبدو فيه تلك القوى وعلى رأسها الولايات المتحدة غير مقتنعة بسلسلة التنازلات التي أقدم عليها مبارك في محاولته الرامية لتهدئة ثورة المصريين الغاضبين.

ويراقب قطاع كبير من المصريين عن كثب هذه التطورات بحالة من القلق الممزوج بالخوف من انتشار أعمال الفوضى والترهيب التي يرى محللون أن مصدرها "البلطجية" المدعومون من رجال أعمال نافذين وكذلك من قبل قوات الأمن، ومن خلال الدفع بعناصر أمنية متخفية في لباس مدني للاعتداء على المحتجين، بهدف إشاعة أجواء من الخوف ومحاولة تفكيكهم، وهي إستراتيجية لم تحقق جدواها كما يرى المراقبون.

الشرارة التي فجرت جذوة الانتفاضة الشعبية لم تولد من رحم قوى المعارضة التقليدية في مصر بل جاءت عبر ناشطون على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" استطاعوا أن يشكلوا جبهة قوية قادت انتفاضة الشارع، لكنهم في حقيقة الأمر استمدوا قوة الدفع من وقود الغضب الذي اندلعت شرارته في تونس حيث تتشابه الأوضاع إلى حد كبير في كلا البلدين اللذين يحكمهما نظامان يفرضان سطوتهما بالحديد والنار.

25 يناير
يوم 25 يناير 2011 لن ينساه المصريون، وهو بالمناسبة اليوم الذي تصدت فيه الشرطة المصرية للقوات البريطانية إبان احتلال مصر، فقد انطلقت مظاهرات ومسيرات جماهيرية معادية للحكومة فيما أطلق عليه "يوم غضب" بمشاركة آلاف الأشخاص بالقاهرة وعدد من المحافظات استجابة لدعوات نشطاء على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وسقط أربعة قتلى، أحدهم من رجال الأمن في مصادمات بين المتظاهرين وقوات الأمن بعد تصاعد حدة الاحتجاجات التي عمت العديد من محافظات مصر.

لم تحل تحذيرات وزارة الداخلية ولهجة الترهيب التي استخدمتها في استمرار المظاهرات لليوم الثاني؛ حيث ارتفع عدد الضحايا إلى خمسة قتلى وعشرات الجرحى، إضافة إلى اعتقال المئات بينهم ثمانية صحفيين، واتجهت الأنظار قبالة مدينة السويس وجماهيرها التي صبت جام غضبها على الشرطة بسبب رد فعلها العنيف تجاه المتظاهرين، حتى أن البعض أطلق عليها اسم "سيدي بوزيد مصر" تيمناً باسم المدينة التونسية التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي.

ولجأت السلطات المصرية في مواجهة ذلك إلى فرض قيود على الإنترنت وحجب مواقع للتواصل الاجتماعي, للحد من مساعي المتظاهرين المطالبين بالتغيير, نحو التواصل وإعادة تجميع الصفوف، لكن مع ذلك تواصلت المظاهرات في القاهرة وعدد من المدن الرئيسة لليوم الثالث على التوالي؛ حيث ردد المتظاهرون هتافات مناوئة للنظام الحاكم، واندلعت اشتباكات بين مئات المتظاهرين وقوات الأمن التي استخدمت القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي في محافظتي السويس والإسماعيلية.

حالة التجاوب الشعبي التي وجدها الداعون للاحتجاجات جعلتهم يصعدون من تحركاتهم واختاروا يوم الجمعة 28 يناير ليكون "جمعة غضب" وكان بالفعل يوم غضب غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث لم تنجح محاولة السلطات بشتى الطرق دون تفجره، حتى مع قيامها بقطع خدمة الإنترنت وخدمة الهاتف الجوال والمضايقات على وسائل الإعلام لمنعها من التغطية في محاولة لعزل المصريين عن العالم، فضلاً عن حملة الاعتقالات التي استهدفت خصوصا جماعة "الإخوان المسلمين".

خروج الملايين في أنحاء مصر الذي عكس تزايد حالة الاحتقان والرغبة في إسقاط نظام قوبل بعنف شديد من جانب قوات الأمن التي عملت على التضييق ضد المتظاهرين ومنعهم من التظاهر انطلاقاً من المساجد، وقتلت وأصابت العشرات من المشاركين في المظاهرات في عدة مدن مصرية، ورد المتظاهرون بإحراق مقار للحزب الحاكم في بعض المدن ومهاجمة أقسام الشرطة، وانتظر المصريون كثيراً دون صدور رد فعل رسمي ولتسود أعمال نهب وسلب تزامناً مع انسحاب قوات الأمن من الشوارع ونزول آليات الجيش، وأخيراً جاء البيان الذي رأى كثبرون من المصريين أنه لم يسمن ولم يغن من جوع للرئيس مبارك حيث طلب من الحكومة التقدم باستقالتها وتكليف حكومة جديدة.


تنازلات النظام
وتلاحقت الأحداث بسرعة كبيرة مع اتساع موجة الغضب وانتشار حالة من الفوضى التي أفزعت المصريين في بيوتهم, وجاء التنازل الثاني للرئيس مبارك متمثلة في إصداره قراراً بتعيين مدير المخابرات العامة اللواء عمر سليمان نائباً له، وتكليف وزير الطيران المدني الفريق أحمد شفيق بتشكيل الحكومة المصرية الجديدة، لم يهدأ ذلك من الاحتجاجات الغاضبة التي تواصلت في القاهرة والمدن المصرية مطالبة الرئيس بالتنحي عن السلطة، في وقت ارتفعت فيه حصيلة القتلى إلى 68 من المحتجين ورجال الشرطة في القاهرة والإسكندرية والسويس.

في خامس أيام الاحتجاجات، تزايد عدد القتلى في عدة مناطق بمصر في وقت أعلنت فيه القوات المسلحة المصرية أنها ستدفع بقوات كبيرة في كل المدن لحفظ الأمن وحماية الأحياء السكانية، وبدأت محاولات تمرد داخل السجون، وكان أكثرها دموية في سجن أبو زعبل شديد الحراسة، حيث أطلقت قوات الأمن الرصاص الحي على المعتقلين، وأدى ذلك إلى سقوط عشرات القتلى في هذا السجن وسجون أخرى، وصاحب ذلك حالة من الذعر من إمكانية إقدام هؤلاء المساجين على ارتكاب أعمال سلب ونهب، لكن المواطنين المصريين نجحوا في استعادة الأمن في كثير من المناطق بمبادرات شعبية؛ حيث قاموا بتشكيل لجان لحفظ الأمن وشكلوا نقاط تفتيش من الأهالي.

وواكب ذلك تحركات سريعة من جانب الدول الأجنبية لإجلاء الرعايا الأجانب في مصر بشكل عاجل خشية تفاقم الوضع، في ظل تصاعد أعمال العنف والانفلات الأمني، ووسط اتساع استمرار الاحتجاجات لعشرات الألوف في ميدان التحرير مع إصرار المتظاهرين على إسقاط النظام الحاكم، وبعد مواقف اعتبرها كثيرون أقرب إلى دعم الرئيس من الوقوف مع المطالب المشروعة للمتظاهرين، خرجت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون لتدعو إلى ما أسمته "تحولاً منظماً" بمصر لا يؤدي إلى فراغ في السلطة، معتبرة أن تعيين نائب للرئيس غير كاف، وأكد الرئيس باراك أوباما دعمه لانتقال سلمي للسلطة إلى حكومة تلبي تطلعات الشعب المصري.

كما دعت كاثرين أشتون الممثلة العليا للشؤون الأمنية والخارجية بالاتحاد الأوروبي الرئيس مبارك للدخول في حوار فوري مع المعارضة والتجاوب مع تطلعات المحتجين المناهضين للحكومة، وسارع الرئيس مبارك لمواجهة الغضب الشعبي المتزايد عبر تكليف رئيس الوزراء الجديد أحمد شفيق ببدء حوار مع المعارضة بعد خمسة أيام من تفجر الاحتجاجات، كما كلفه بأن تحافظ الحكومة على الدعم وتضع حداً للتضخم وتوفر فرص العمل، وكلف نائبه عمر سليمان بإجراء اتصالات مع جميع القوى السياسية بشأن حل كل القضايا المثارة المتصلة بالإصلاح الدستوري والتشريعي.

لكنه بدا أن ذلك غير كاف بالمرة للمتظاهرين الذين تمسكوا بشعارهم "الشعب يريد إسقاط النظام" رافضين أي محاولات لتسكين غضبهم وتهدئة ثورتهم، وجاء الثلاثاء الذي وافق الأول من فبراير ليشهد احتشاد أكثر من مليون شخص في ميدان التحرير في القاهرة تلبية لدعوة القوى السياسية لمظاهرة مليونية للمطالبة برحيل الرئيس مبارك وسط احتجاجات في بقية المدن، ورد الرئيس مبارك على ذلك بخطاب بثه التلفزيون الرسمي قال فيه إنه لن يترشح لولاية رئاسية جديدة، وإنه سيعمل خلال الشهور القادمة الباقية من ولايته للسماح بانتقال سلمي للسلطة.


"البلطجية":
وكان ذلك بداية لمسار جديد حيث خرج ما قيل إنهم مؤيدون لمبارك وهم في واقع الأمر مجموعة كبيرة من المسلحين ممن يسمون بـ "البلطجية" وقاموا بالتعرض للمتظاهرين في ميدان طلعت حرب قرب ميدان التحرير، حيث يحتشد مئات الآلاف مطالبين بتنحي الرئيس مبارك، وذلك بعيد خطاب الأخير الذي وجهه للمصريين، بينما عمل الإعلام الرسمي في مصر على إظهار أن هناك حالة من التأييد داخل الشارع لحكم الرئيس وسلط الأضواء على مظاهرة لم يتعد المشاركون فيها ألفين على الأكثر أمام مبنى التلفزيون للإيحاء بذلك.

وقابل ائتلاف المعارضة ذلك بالدعوة لمظاهرة كبرى الجمعة لإرغام مبارك على ترك منصبه، وسط مبادرات من جانب بعض الشخصيات السياسية المرموقة لتولي المسئولية في هذه المرحلة العصيبة، ومن بين هؤلاء الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي قال إنه سيفكر بجدية فيما إذا كان سيسعى للترشح للانتخابات الرئاسية، في الوقت الذي اعلن فيه الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس البرلمان المصري عزمه إقرار التعديلات الدستورية التي تطرق إليها الرئيس مبارك في خطابه خلال فترة قصيرة، وأكد أنه سيتم تعليق عمل البرلمان إلى حين الفصل في الطعون المقدمة بشأن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

وتحول ميدان التحرير الأربعاء الموافق 2 فبراير إلى ساحة حرب قام خلالها متظاهرون مؤيدين للرئيس مبارك باقتحام الميدان بالخيل والجمال والأسلحة لمحاولة تفريق المحتجين وتواصلت المواجهات منذ ذلك اليوم حيث قام "البلطجية" برشق المتظاهرين بالحجارة وإطلاق النار عليهم، وقاموا بإطلاق نار كثيف على المحتجين، ليزيد ذلك من إصرارهم على التمسك بمطالبهم، بينما أعلنت أبرز قوى المعارضة بمصر في اليوم التالي رفضها عرض رئيس الحكومة أحمد شفيق بدء حوار وطني, مشترطة التنحي الفوري للرئيس مبارك وتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم جميع الأطياف على الساحة السياسية بالبلاد.

في المقابل عمل اللواء عمر سليمان نائب الرئيس على محاولة طمأنة المصريين بشكل أكبر حول تعهدات الرئيس بعدم الترشيح وقال إنه لا الرئيس ولا ابنه جمال مبارك سيترشحان لانتخابات الرئاسة, في الوقت الذي قال فيه الرئيس إنه يود الاستقالة من منصبه، لكنه يخشى إن فعل ذلك الآن أن تغرق مصر في فوضى، ملمحاً إلى مخاوف من وصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة.


جمعة الرحيل:
وجاء الرابع من 4 فبراير ليشهد قيام أكثر من مليون شخص بأداء صلاة الجمعة في ميدان التحرير على الرغم من التضييق على كثيرين ومحاولة منعهم من الدخول، وقد دعا الخطيب الحشود والشباب إلى الصبر حتى إسقاط نظام مبارك. وشهدت مدن أخرى مظاهرات عارمة كان أبرزها بالإسكندرية في إطار ما أسمي بـ "جمعة الرحيل". وتحرك البعض في مسار آخر حيث طرحت "لجنة الحكماء" التي تتشكل من شخصيات عامة مجموعة من المقترحات على الشباب المحتجين بميدان التحرير بوسط القاهرة لتكون محورا للحوار مع الحكومة المصرية.

غير أن المقترحات التي تستهدف بشكل أساسي إلى التوصل لاتفاق ينهي اعتصام الشباب المحتجين الذين يطالبون بإسقاط حكم الرئيس مبارك مقابل الإبقاء عليه لحين انتهاء الفترة المتبقية من رئاسته لا تلقى تأييداً كبيراً. وفي صبيحة الخامس من فبراير أصدرت جماعة "الإخوان المسلمين" كبرى جماعات المعارضة في مصر بياناً تعهدت فيه بعدم ترشيح أي من قادتها لمنصب الرئاسة في مصر خلفاً للرئيس حسني مبارك الذي يطالب المحتجون بإسقاطه عن السلطة.


السبت 05 فبراير 2011 م
 
المصدر: موقع مفكرة الإسلام