إنها ليست فتنة !! 1/3
يحلو لكثير من المتابعين لأحداث ثورة مصر المباركة أن يصفوا الأحداث بأنها فتنة، ومن ثَم فإن اعتزالها أولى في رؤيتهم، فهو من جانب لا يشارك مطلقًا في هذه الأحداث، ومن جانب آخر أخطر يثبِّط الناس عن العمل الذي يُفضي إلى حريتهم وكرامتهم..
يحلو لكثير من المتابعين لأحداث ثورة مصر المباركة أن يصفوا الأحداث
بأنها فتنة، ومن ثَم فإن اعتزالها أولى في رؤيتهم، فهو من جانب لا
يشارك مطلقًا في هذه الأحداث، ومن جانب آخر أخطر يثبِّط الناس عن
العمل الذي يُفضي إلى حريتهم وكرامتهم..
مَنْ هؤلاء الذين يصفون الأحداث بأنها فتنة؟ وما هي أهدافهم؟
واقع الأمر أنهم طوائف متباينة للغاية، ويختلف بعضها عن بعض تمام
الاختلاف، وأستطيع أن أتبين منهم ثلاث طوائف كبرى..
أما الطائفة الأولى: فهي تتبع الحزب الفاسد الذي يحكم البلاد بالحديد
والنار، وهؤلاء مستفيدون من وجود الفساد والظلم والسرقات والنهب،
ويرون أن الظالم لا بد أن يستمر في ظلمه، والفاسد يستمر في فساده،
فإذا وقف أحد في طريقه فإن هذه عندئذٍ فتنة! قد تراق فيها دماء زكية
طاهرة! فلا داعي للفتن، ولْيَبْقَ الوضع كما هو عليه..
ويتولى كِبْر هذه الطائفة الإعلام الكاذب الذي يحمي النظام الحاكم،
والذي يحميه كذلك النظامُ الحاكم، وقد يوظِّف هذا الإعلام بعض علماء
السلطة، وبعض المفكرين المأجورين، وبعض الشباب المغيَّبين؛ لكي يعضدوا
من رؤيته، ويرسخوا من نظرته.
وأما الطائفة الثانية: فهي طائفة المساكين من عموم الشعب الذين يريدون
الحياة الآمنة ولو كانت مهينة، ولا ترقى أحلامهم إلى حرية وعدالة
ونظافة وريادة، إنما يحلمون بلقمة العيش فقط، وتأمين المستقبل القريب
جدًّا، وهؤلاء سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم (بالإمعة)، فقال صلى
الله عليه وسلم: «لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ
أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ
وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا،
وَإِنْ أَسَاءُوا فَلاَ تَظْلِمُوا
» [1].
هذه الطائفة الثانية ترقب دائمًا الأحداث دون أن تشارك فيها، ولو نجحت
الثورة فسيكونون من أحبابها وماديحها، وإذا فشلت سيقولون للثوار: ألم
نقل لكم إنها فتنة؟! وهؤلاء -في رؤيتي- ليسوا منافقين، ولكنهم مساكين
جبناء إمعة يريدون للأحداث أن تهدأ وتنتهي؛ حتى يستكملوا رحلتهم في
البحث عن لقمة عيش أفضل.. وهم يجدون في لفظ "فتنة" مخرجًا لطيفًا
لهم!
أما الطائفة الثالثة: فهي طائفة من العلماء المخلصين، والذين لا نشكُّ
أبدًا في نواياهم وإخلاصهم، وهم يتبعون مذهبًا فقهيًّا يرى أن مجرد
التقاء المسلم مع المسلم بسيفه فتنةٌ لا بد أن تُتجنَّب، وأن الخروج
على الحاكم الذي يقيم الصلاة، أو الذي لم يَكْفر أمرٌ غير جائز
شرعًا.
وهذه الطائفة -كما ذكرت- تضم علماء مخلصين لهم باع طويل في العلم
والدعوة، كما أنها تضم بالتبعية فريقًا كبيرًا من طلاب العلم الذين
يتتلمذون على أيدي هؤلاء العلماء، وإلى هؤلاء الكرام أتوجه بالكلمات
الآتية:
يتمسك هؤلاء العلماء بعدة أحاديث نبوية صحيحة تناقش هذه المسألة، وليس
الاختلاف بيننا في صحة هذه الأحاديث، ولكن في تأويلها وتفسيرها
وإسقاطها على الواقع..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
إِذَا الْتَقَى
الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي
النَّارِ. فقال رجل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إِنَّهُ كَانَ
حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»
[2].
والسؤال: هل كل صراع بين مسلم ومسلم يكون مصير الطرفين في النار أم أن
هناك استثناءات لهذا الأمر؟ بعبارة أخرى: هل هناك تقييد لهذا المطلق
أم أن الأمر على عمومه؟
هل إذا تعدى أحد الظالمين المسلمين على داري أو مالي أو أهلي، فقمت
أدفع عن نفسي وأهلي الضُّرَّ، فرفع عليَّ الظالمُ سيفه وأراد أن
يقتلني، هل أنا مطالب هنا بتسليم رقبتي للذبح، وأموالي للنهب، وأهلي
للانتهاك، بدعوى عدم قتال مسلم؟!
أليس الذي قُتل دون ماله أو دينه أو عرضه أو أهله شهيد[3]؟
ماذا فعل النظام المسلم الظالم الفاسد؟
ألم يسرق مقدَّراتي وأموالي؟
ألم يحبس أهلي وشعبي ظلمًا وعدوانًا؟
ألم يزوِّر إرادتي عيانًا بيانًا؟
ألم ينهب ثروات بلدي فصرت فقيرًا، في حين تتكدس الثروات في جيوب
النظام وخزاناته؟
هل هنا يستوي المسلم الذي يدافع عن حقه وحقوق أولاده وشعبه مع
"المسلم" الذي يسرق ويقتل وينهب ويتعدى؟!
هل تستوي الطائفة المؤمنة المثقفة الداعية المؤدبة التي خرجت تطلب
حقها مع طائفة البلطجية المحترفين؟! مع قناعتنا أن الكل مسلمون.
بل أكثر من ذلك، أقول: إن الطائفة المظلومة المقهورة التي حُقَّ لها
أن ترفع سيفها دفاعًا عن أموالها وحقوقها لم ترفع هذا السيف ابتداءً،
إنما خرجت في مسيرة سلمية وادعة تقول للظالمين: "من فضلكم نريد
حقوقنا"، فكان الردُّ بالرصاص الحي والقنابل المولوتوف، والخيول
والجمال، والسنج والمطاوي والسيوف، والحجارة والسياط!! فحمل المسالمون
حجارة يدافعون بها عن أنفسهم وأهلهم وأولادهم وبناتهم..
أبعد هذا أقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما
» ، وأساوي كل طرف بالآخر؟ فما
المقصود إذن بالحديث النبوي؟
إن المقصود واضح لا لبس فيه.. لقد فقه ابن حجر العسقلاني في شرحه
للبخاري مغزى الحديث، وكذلك فقهه النووي عند شرحه لصحيح مسلم، فقالا:
"إن الوعيد المذكور في الحديث يُحمل على مَن قاتل بغير تأويل سائغ، بل
بمجرد طلب الملك"[4].
وأقول للعلماء الكرام: أليس هناك تأويل سائغ لهؤلاء المطالبين بحقوقهم
المشروعة والمنهوبة؟
بل دعوني أنقل لكم كلامًا نفيسًا للإمام الطبري رحمه الله -وهو من
كبار علماء السلف، وهو غنيٌّ عن التعريف، فقد كان أمةً وحده رحمه
الله- يقول الطبري: "لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين
الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف، لما أقيم حدٌّ، ولا أبطل باطل،
ولوجد أهل الفسوق سبيلاً إلى ارتكاب المحرمات من أخذ الأموال وسفك
الدماء وسبي الحريم بأن يحاربوهم، ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم بأن
يقولوا: هذه فتنة، وقد نُهينا عن القتال فيها، وهذا مخالف للأمر
بالأخذ على أيدي السفهاء"[5].
الله أكبر!!
أرأيتم روعة الكلمات؟!
إلى متى يقبل المسلمون بالذل والهوان والدعة والسكون مهما كانت
الأحداث، ومهما تفاقم الظلم؟!
وفوق ما سبق أنقل لكم زيادة جاءت في رواية البزار توضح الغرض من
القتال في الحديث المذكور.. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
هذه الرواية: «إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في
النار». قال القرطبي تعليقًا على
هذا الحديث: "فبيَّن هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهلٍ من طلب
الدنيا، أو اتباع هوى، فهو الذي أريد بقوله: «
القاتل والمقتول في النار
»"[6].
فهل يمكن أن نقول على ثورة 25 يناير أنها خرجت لطلب الملك
والدنيا؟
أم أن التوصيف الأمثل لها أنها خرجت لرفع الظلم ووقف الفساد؟!
ثم إن هناك تقييدًا مهمًّا جدًّا في الحديث يُسوِّغ بقوة للمسلمين أن
يدافعوا عن حقوقهم، ولو تطلب الأمر رفع السيف، فقد سُئل رسول الله صلى
الله عليه وسلم: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ فقال: "إنه كان حريصًا
على قتل صاحبه". فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الآثم هو من
كان حريصًا على قتل صاحبه، فهل ادعى أحدٌ مطلقًا أن هؤلاء الشباب
الواعين خرجوا حريصين على قتل الذين تصدوا لهم من قوات الشرطة
والبلطجية؟ إن الحكومة الفاسدة نفسها لم تدَّعِ ذلك"؛ لأن الجميع رأى
الثوَّار يخرجون دون سلاح، ولا أي شيء يدافعون به عن أنفسهم..
لقد خرجوا يحملون لافتات تطلب حقوقًا أقرها الشرع، وأقرها الدستور
المصري، وأقرها العرف العالمي، وأقرها كل حرٍّ في الدنيا..
إنهم لم يكونوا حريصين أبدًا على مجرد إيذاء الآخرين، ولو لم تتصرف
القوات الفاسدة برعونة ما أريقت قطرة دم واحدة في هذه الثورة السلمية،
ولقد حرص الثوار -وأنا منهم- حتى تاريخ كتابة هذه السطور أن يعلنوا
على الدوام أن ثورتهم سلمية.
إن العلماء الأفاضل لا بد أن يأخذوا الأمر من جميع جوانبه، ولا بد
للاطلاع على كل آراء علماء السلف الذين اجتهدوا في فهم هذه النصوص،
وليس ابن حجر العسقلاني، أو النووي، أو القرطبي، أو الطبري بالعلماء
العاديين، بل هم من جهابذة العلماء المسلمين، ورأيهم في غاية
الاعتبار، ويتوافق تمامًا مع روح الشريعة، ومع المنطق والعقل السليم،
وليس فيه أي تجاوز على النصوص، حاشا لله!!
وأنا أعلم أن الأمر لا يقف عند هذا الحديث فقط، بل هناك أدلة كثيرة
نحتاج أن نناقشها، وهناك العشرات من الأسئلة نحتاج أن نجيب
عليها..
فهل يجوز الخروج على الحاكم الذي يقيم الصلاة؟
وهل يجوز الخروج على الحاكم المسلم بوجه عام؟
وهل ما حدث يُسمَّى خروجًا على الحاكم؟
وهل الحاكم المسلم يفعل ما يشاء طالما أنه مسلم؟
وهل عند رؤية تصادم بين المسلمين يلزم الاعتزال؟
وما هو موقف عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- من الفتنة، وتأويل هذا
الموقف؟
وماذا لو مات أحد الثوار في هذه الثورة، هل هو شهيد أم ما هو
توصيفه؟
وما هي أهداف الثورة؟
وماذا نريد لمصر؟
هل يريد لها الثوار صلاحًا وإعمارًا؟ أم يريدون فسادًا
وتدميرًا؟
أسئلة كثيرة تدور في أذهان الكثيرين، وقد سألني إياها كثير من شباب
الثورة، وأنا معهم في ميدان التحرير، أردُّ عليها -بإذن الله- في
مقالي القادم إن كان في العمر بقيَّة.
وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
الأربعاء، 09 شباط/فبراير 2011 م
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه الترمذي (2007)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
[2] رواه البخاري (6481).
[3] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
من قتل دون ماله فهو
شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل
دون أهله فهو شهيد» (رواه الترمذي
(1421)، وأبو داود (4772)، والنسائي (4095)، وصححه الألباني).
[4] ابن حجر: فتح الباري 13/34.
[5] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[6] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
راغب السرجاني
أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.
- التصنيف: