الهوية العـَقـَدية والقانون الاسلامي - في تفعيل المادة الثانية من الدستور

منذ 2011-02-20

الهُـوية بضم الهاء هي مصدر صناعي من الضمير المنفصل "هو"، وهي تشير إلى أخص خصائص الذات والصفات الذاتية التي لا تنفك عن "جوهر كيان الشخصية سواء الإنسانية أو القومية (المجتمعية) أو الحضارية.."


الهوية والتعددية الإنسانية
الهُـوية بضم الهاء هي مصدر صناعي من الضمير المنفصل "هو"، وهي تشير إلى أخص خصائص الذات والصفات الذاتية التي لا تنفك عن "جوهر كيان الشخصية سواء الإنسانية أو القومية (المجتمعية) أو الحضارية، وهي التي تضمن تـَعَيـُنـَهُ عن غيره وثبات كيانه مع تغيُّر بعض صفاته على الدوام."
"والحاجة للمحافظة على الهُوية حاجة ثابتة لدوام التميّز والتنوع والتعدد بين الكيانات المختلفة، فلكلٍ هُوية مختلفة عن الآخر، وبقاء هذا الاختلاف في الهُويات -سواء الشخصية أو القومية أو المجتمعية أو الحضارية- هو الذي يضمن بقاء التعددية والتنوع في الأفكار والثقافات والحضارات، وإلا يكون هناك مسخ للكل في شخصية واحدة فتكون التبعية وعدم الاستقلالية ويختفي التنوع والتمايز الملازم لكل ما هو سوى الذات الإلهية." (1)

"فالتنوع حقيقة إنسانية تبدأ من الاختلاف في التكوين العضوي (ذكر وأنثى) وتنتهي بعشرات الصور التي تعكس هذا الاختلاف والتنوع في الألوان والأمزجة والطبائع وأنماط الحياة والسلوك.. الخ، وهذا التنوع هو الميزة الأرقى لهذا الكائن البشري، وهو النتيجة الطبيعية لعناصر الحرية والاختيار اللذين يتميز بهما الكائن البشري" (2) وبالتالي تنوع ما يصل إليه هذا الكائن بتأمله وتفكيره.

فاختلاف الهُويات ملازم للكيان الإنساني بدءاً من الفرد وأفكاره ومبادئه وتصوراته وقدراته وطاقاته وانتهاءاً بالمجتمع الإنساني الذي هو مجموع الأفراد والجماعات.
وهذا التنوع من سنن الله تعالى في خلقه كما بيـّن سبحانه وتعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴿٢٧﴾ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ} [فاطر:27-28]
وفي الانسان:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [هود:118]
وقوله تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم:22]

قال الزمخشري في الكشاف: "الألسنة: اللغات أو أجناس النطق وأشكاله. خالف عزّ وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، ولا جهارة، ولا حدّة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا لكنة، ولا نظم، ولا أسلوب، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها، والألوان وتنويعها، ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما، وتعرف حكمة الله في المخالفة بين الحليّ وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد." اهـ

بعد هذه المقدمة يتبين لنا أمران:
الأمر الأول: لزوم التعددية في المجتمعات البشرية وأن محاولات مسخ الهُويات للآخر هي من المحاولات المستنكرة المضادة للقيم المجتعية الفطرية، والتي ينتج عنها خلق أجيال ليس لها غايات أو أهداف أو أفكار ذاتية، وبالتالي يخسر المجتمع كثيراً من طاقات أبنائه بسبب تمييع المفاهيم الخاصة بالهُوية.
وبالتالي فإن أي محاولة لطمس معالم الهوية الشخصية أو المجتمعية أو الحضارية لأي مجتمع بشري هي محاولة يجب التصدي لها بزيادة الوعي المجتمعي بأهمية الهُوية للمجتمع وأفراده، وأهمية المحافظة عليها ثانياً من مثل هذه المحاولات الفاسدة والتي تعتبر من آليات السيطرة للإمبريالية الغربية.

الأمر الثاني: هو ما تقتضيه هذه التعددية من وجود نوع من أنواع الصراعات رغبة في الدفاع عن الهويات (باعتبارها أخص خصائص الكيانات) والمصالح والرغبات النابعة عنها بسبب الاختلاف في الأفكار والمعتقدات والمفاهيم والتصورات والقيم والمبادئ والدوافع والنزعات: ما بين صحيح وفاسد وما بين خير وشر، ما بين متقٍ وفاجر وما بين إيمان وكفر:
قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]
وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } [البقرة:217]
وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]

وأصول هذه القيم والمبادئ والمعتقدات -وبالتالي ما يترتب عليها من تصورات ومفاهيم ودوافع وسلوكيات- إما حق وإما باطل:
قال تعالى: {فَذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } [يونس:32]

فجعل الله أصناف الناس في صنفين اثنين:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن:2]
وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [القلم:35]
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿٢١﴾ وَخَلَقَ اللَّـهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [الجاثية:21-22]

"فالمعرفة هي إدراكٌ ما لصور الأشياء أو صفاتها أو سماتها وعلاماتها، أو للمعاني المجردة سواء أكان لها في غير الذهن (أي في الواقع) وجود أو لا.
وإدراك الشيء أو المعنى على ما هو عليه في الواقع هو ما يسمى بالعلم.
وحين يجزم المدرِك بأن ما أدركه مطابق للواقع قطعاً دون أن يقترن جزمه بالدليل القاطع على مطابقته للواقع فهو ما يطلق عليه اسم الاعتقاد الجازم.
وقد يكون هذا الإعتقاد في حقيقة الأمر مطابقاً للواقع فيكون اعتقاداً صحيحاً وقد لا يكون فيكون حينئذ اعتقاداً فاسداً."(3)

فنقول- بناء على ما سبق- أن من أخص خصائص الكيان البشري وعناصر الهوية الإنسانية هو المعتقد والفكر والإدراك والمعرفة والقدرة على التأمل، والتفكير الناتج عن التساؤلات التي تبدأ في ذهن ابن آدم أثناء حياته ومحاولته لفهمه ذاته وكنهه وما حوله، وقدرته على التحليل والاستنباط والجدال والبيان والتعبير عن الذات والأفكار والتصورات والمعارف، فهو الذي اختلف به الإنسان عن سائر المخلوقات، وهو ما انقسم عليه بنو آدم إلى أهل حق وأهل باطل تبعاً لما يتبنونه من مبادئ وقيم وأفكار.

لذلك فالهُوية الدينية (منظومة المعتقدات والمفاهيم) هي من أخص عناصر الكيان البشري والتي إذا تم تمييع أو محو معالمها نتج عن ذلك التبعية الفكرية في التصورات والمفاهيم والمعتقدات، مع التأكيد بشدة أن هذا يكون باعتبار المفهوم الإسلامي لكلمة الدين ومدلولها كمجموعة من النظم والقوانين والاعتبارات التي تحكم وتنظّم جميع النواحي الحياتية للإنسان والتي وضعها له صانعه، وليس المفهوم الغربي الذي يصوِّر الدين كمجموعة من المفاهيم المساوية للخرافة والأسطورة ولا يعتبرها من الطاقات الإيجابية للفرد البشري ويعتبرها مجرد روحانيات صوفية مجردة وباردة ليس لها علاقة بمختلف الأنشطة والمجالات الإنسانية.

وبالتالي فإن المحافظة على الهوية الإسلامية للفرد والمجتمع المسلم وزيادة الوعي بأهميتها هي من الأمور البالغة الأهمية كبداية للقدرة على تفعيل طاقات هذه الهوية وظهور تأثيرها في سلوكيات أفراد المجتمع وبالتالي الوصول إلى الصورة المطلوبة للمجتمعات الإنسانية على وفق منهج الله تعالى الخالق سبحانه.

منظومة القوانين في المجتمعات التعددية
نبين فيما يأتي أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يكفل التعايش السلمي بين أفراد المجتمع التعددي أياً كان مجال هذه التعددية، بما يكفله من حقوق وواجبات واضحة لأتباعه ولغيرهم، ولما يتميز به من الشمولية والعموم ومنظومة القيم والمبادئ التي تحكم قوانينه، وذلك بالمقارنة مع الأنظمة غير الإسلامية من الاتجاهات الفكرية والاجتماعية والإنسانية الأرضية، بل وحتى تلك التي لا تزال تنسب إلى السماوية، إلا أنها بسبب ما نالها من التحريف والتبديل فقدت شرعيتها ونسبتها إلى الوحي الإلهي الذي يضمن صلاحيتها وشموليتها لجميع النواحي الحياتية.

فالإسلام بهذا الاعتبار (الحفظ من التحريف وبقاء اتصافه بالالهية) هو المنهج الصالح الوحيد المتضمن لمنظومات القوانين وأصول القواعد العامة والتفصيلية المتعلقة بجميع الأنشطة الإنسانية المختلفة، ونبين فيما يلي بعض مميزات التشريع الإسلامي بالاستعانة بكتاب "أصول الدعوة" للدكتور عبدالكريم زيدان(4):

يقول الدكتور زيدان في تمهيد الفصل الثالث "خصائص الإسلام" من الباب الأول "موضوع الدعوة":
"للإسلام خصائصه الخاصة به التي تميزه عن غيره تمييزاً واضحاً بارزاً، فهو من عند الله وهذه هي خصيصته الأولى.
وهو من حيث مدى ونوعية العلاقات التي ينظمها والأفعال التي يحكمها شامل، وهذه هي خصيصته الثانية.
وهو من حيث الأشخاص الذين يحكمهم عام لجميع البشر باقٍ لا يزول، وهذه هي خصيصته الثالثة.
وهو من حيث نوع الجزاء الذي يصيب مخالفه أو متبعه ذو جزاء أخروي بالإضافة إلى جزائه الدنيوي، وهذه هي خصيصته الرابعة.
وهو من حيث نزوعه إلى المثالية دون إغفال للواقع مثالي وواقعي، وهذه هي خصيصته الخامسة."

ثم يشرع الدكتور في تفصيل وبيان كل خصيصة في مبحث مستقل.

نقول أن الإسلام يشمل مايلي:
1- المفاهيم والتصورات والاعتقادات والأفكار التي ينبغي أن يعتقدها المرء ويجعلها من معارفه، مثل ما ينبغي أن يعرفه عن الحق وعلاماته وعلامات أتباعه، وعن الباطل وعلاماته وصفات أتباعه ورجاله، وعن الكون والحياة وحقائقها والإنسان وبدايته وحياته والغاية من وجوده ونهايته والموت وما هو وما بعده، وعن الخالق المدبّر والملك المالك والمتصرف في هذا الكون وصفاته وما يتنزه عنه وما يريده من خلقه وحكمته في إرادته ومشيئته وما يجب على الإنسان تجاهه وما لا يجب، وعن ما بعد النهاية من الأمور الغائبة عن نطاق الحواس البشرية، والآخرة وما فيها وحقائقها وعن النبوات والوحي وحقيقته والرسالات والمعجزات والملائكة والشياطين والجنة والنار وحقيقة كل منها .. الخ.

2- الأخلاق والقيم والمبادئ ودرجاتها إفراطاً أو تفريطاً وما منها وما ليس منها والدوافع السلوكية الصالحة والفاسدة: من الصبر والصدق والعفة وحب الحق والخير والرحمة والتواضع والشجاعة والإحسان والعفو وشكر النعمة والحكمة والتعاون والمودة والنظافة والوفاء بالعهد ... الخ.
والأخلاق المذمومة: مثل اتباع الشهوات والكبر والإسراف والبخل والبطر والبغض والبغي والظلم والبهتان والتجسس والجبن والتنابز بالألقاب والحسد والخيانة والربا والسرقة وسوء الظن والطمع ... الخ.

3- علاقة العباد بربهم:
- من الصلاة وإقامتها ومكانتها وشروطها وواجباتها ونواقضها وأوقاتها، والصيام وشروطه وأوقاته ومفسداته، والصدقة وأهلها والزكاة ونصابها والحج وشروطه ومفسداته والعمرة والأضحيات وغيرها من أنواع القربات.

4- العلاقات الاجتماعية:
- الأسرة: والزواج ومن يحل نكاحه ومن يحرم والأولاد والحمل والرضاع والإيلاء والطلاق والصداق والظهار وعدة المتوفى عنها زوجها والقوامة والنشوز وغير ذلك مما يسمى بقوانين الأحوال الشخصية.
- المجتمع: وآداب الاستئذان والإخاء والإصلاح بين الناس وأدب الضيافة والجليس والوصية بالجار وترك الشائعات ونبذ التقليد الأعمى ... الخ.
- المرأة والحجاب وحقوقها وواجباتها وميراثها وأموالها وعملها وجهادها وبيتها وتربيتها لأبنائها ... الخ.
- أحكام أهل الكتاب والذميين من أهل البلاد والمعاهدين والمستأمنين من الأجانب وغيرهم من غير المسلمين وحقوقهم وواجباتهم وما لهم وما عليهم.

5- العلاقات والمعاملات المالية:
- من البيع والشراء وشروطه والإشهاد على التبايع والإجارة والرهن والكفالة والوكالة وأحكامها والمداينات والمشاركة والميراث والميسر والربا والوصية وإعتاق الرقاب وأكل الأموال بالباطل وأموال اليتامى ... الخ.

6- العلاقات القضائية (قانون المرافعات والقانون الجنائي):
- الدعوى وأصول الحكم والشهادات والأيمان والقصاص والحدود والاستثناء والاضطرار والإعفاء والترخيص والنفي والمسؤولية الشخصية والتثبت من الخبر والعدل والشهادة وحكم كتمانها ووجوب أدائها والزور وأنواع الجرائم والتعزيرات والعقوبات ...الخ.

7- نظام الحكم (القانون الدستوري):
- من اختيار الإمام أو الرئيس وحق الأمة في اختياره والمركز القانوني للرئيس وشروطه، وأحكام عزله وتنفيذ العزل، وأهل الحل والعقد وأحكام ولاية العهد، والشورى وأحكامها وما تجب فيه وما لا تجب، وأحكام الخلاف بين الإمام وأهل الشورى، وحق الأفراد في إبداء الرأي وحدود حرية الرأي ... الخ.

8- النظام الاقتصادي (القانون المالي بمختلف فروعه):
- من حق العمل وسد الحاجات وحق الملكية الفردية والإرث، وأحكام بيت المال (خزينة الدولة) ومصارفه وموارده، والزكاة والخراج والعشور والفيء ... الخ.


مميزات نظم القوانين في التشريع الإسلامي
وبمقارنة الأنظمة الإسلامية بغيرها نرى أن التشريع الإسلامي يتميزبأمرين هامين:
1- أخلاقية القانون.
2- الحل والحرمة في نفس الأمر.

يقول الدكتور عبد الكريم زيدان في "أصول الدعوة" صـ53 في المبحث الثاني من خصائص الإسلام "الشمول" مقارناً بين شمول الشريعة وشمول القوانين الوضعية، ننقل منه ما يلي بتصرف:

"أما بالنسبة للأمر الأول وهو مراعاة المعاني الأخلاقية فالشريعة الإسلامية تسمح لها بالتسرب إلى القواعد القانونية والامتزاج بها وإقامة الأحكام التنظيمية عليها، بخلاف القوانين الوضعية التي لا تراعي المعاني الأخلاقية والأصل فيها هو الفصل بينها وبين القواعد القانونية."

"ونكتفي هنا بضرب مثال ليظهر لنا مدى تمسك الشريعة بالأخلاق:
يقرر الفقهاء المسلمون أن الأجنبي (غير المسلم) إذا دخل إقليم الدولة الإسلامية بأمان ولمدة معينة فلا يجوز تسليمه إلى دولته إذا طلبته في هذه المدة ولو على سبيل المفاداة بأسير مسلم عندها، ويبقى المنع من تسليمه قائماً ولو هددت دولته الدولةَ الإسلامية بالحرب إذا لم تسلمها إياه. ويعلل الفقهاء هذا الحكم بأن الأجنبي دخل إقليم الدولة الإسلامية بأمان منها، فعلى الدولة الإسلامية أن تفي بعهدها له فيبقى آمناً فلا يمسه سوء، وتسليمه بدون رضاه غدر منها بعهدها له لا رخصة فيه فلا يجوز في شرع الإسلام. ويبقى المنع من تسليمه وعدم إلحاق أي ضرر به حتى لو قتلت دولته جميع رعايا الدولة الإسلامية المقيمين بأرضها لأن فعلها ظلم ولا مقابلة للظلم بالظلم."

أما بالنسبة للمسألة الثانية يقول د. زيدان:
"فإن الفعل قد يكون صحيحاً في ظاهره لاستيفائه شروط الصحة المطلوبة، ولكنه يكون محرماً لمخالفة قصد الفاعل للشرع، وهذه الصفة تبقى لاصقة بالفعل وإن صدر بصحته الظاهرة حكم قضائي يقضي بخلاف الباطن الفاسد". اهـ (بتصرف)
قال صلى الله عليه وسلم:
«إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار » (رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها).
يقول د. زيدان:
"فإن الشيء يبقى بالرغم من ذلك موصوفاً بالحل أو الحرمة بناء على الحقيقة الباطنة وما يترتب عليه من جواز الإقدام عليه أو الإحجام عنه وبالتالي ما يتبع ذلك من الثواب أو العقاب، لأن الحكم حسب الظاهر لا يقلب الحلال حراماً أو الحرام حلالاً، وبالتالي لا يحل للمسلم أن يبيح لنفسه ما حرم الله وإن أباحه له القضاء."
ثم يقول د. زيدان:
"إن أهمية ما بيناه هو حفظ حقوق الناس وكف بعضهم عن بعض، ذلك أن المسلم يعلم بأن إقدامه على فعل المحرم يوجب له عقاب الله في الآخرة وإن عوفي من المسؤولية الدنيوية نتيجة لهذا الظاهر الصالح" اهـ (بتصرف).

وهذه الأمور لا توجد في القوانين الوضعية العلمانية مهما وضعت من ضمانات لاستمرار أداء الفرد لواجباته المنوطة به ومهما وضعت من إلزامات لإلزام الفرد بأداء الحقوق المطلوبة منه، فهي لكونها بشرية يشوبها النقص والخلل بسبب محدودية الإدراك البشري مقارنة بعلم الله المحيط وحكمته البالغة فهو الخالق الصانع للإنسان وهو الأعلم ممن هم سواه بما يصلحه وبما يفسده:
قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]
وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } [الأعراف:54]

فهذا الأمر يؤثر تأثيراً إيجابياً لا يجب التغافل عنه في أداء الحقوق والواجبات وتحقيق العدل طلباً لمرضاة الله تعالى المطلع على كل شيء وخوفاً من غضبه الذي لا تقوم له قائمة، فهو الرقيب الحسيب الذي إليه المآل في النهاية ويحاسب عباده مؤمنهم وكافرهم على ما قدمت أيديهم، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

فاستحضار هذه الحقيقة من مراقبة الله ودوام محاسبة النفس وطلب تزكيتها وإلزامها بشرع الله تعالى يأتي بصالحين:
1- الضامن الوحيد لصلاح باطن الفرد وبقائه على الإخلاص في أداء الحقوق والواجبات .
2- أنه أمر ملازم للفرد ببقاء إيمانه بالله تعالى وكلما زاد إيمانه كلما زاد تبعاً لذلك التزامه بمقتضيات ذلك الإيمان.

هذا بالإضافة إلى أن هذه القوانين والأنظمة الوضعية تصب في مصالح أفراد عن أفراد وليس ذلك في منهج التشريع الإسلامي، فالإسلام من مقاصده صلاح الإنسان كجنس ولا يفرق بين طائفة أو عرق عن آخر.

المحصلة
يقول الشيخ سفر الحوالي في دراسته حول العلمانية نشأتها وتطورها:
"إن العلمانية لا تستدعي في طبيعة الأمر كبير جهد في بيان تناقضها مع دين الله تعالى الإسلام فهي من ذلك النوع من الاتجاهات والأفكار التي قال عنها علماؤنا قديماً: إن تصوره وحده كاف في الرد عليه!" (5)

فإن التحاكم إلى شرع الله تعالى أمر من لوازم التوحيد والشهادة بأنه لا إله إلا الله، والآيات في ذلك من كتاب الله تعالى كثيرة نذكر منها:

{إن الْحُكْمُ إلاَّ للّه أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إلاَّ إيّاهُ} [يوسف:40]

{وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لحُكْمه } [الرعد:41]

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة:50]

{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الفاسقون} [المائدة:47]

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلئِكَ همُ الظـَالمون} [المائدة:45]

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة:216]

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65]

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } [المائدة:49]

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب:36]

{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء:59]

{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } [النساء:66]

{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]

{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } [الأعراف:54]

{فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:63]

{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [النور:54]

{لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّه} [الحجرات:1]

ولكن نضطر إلى مثل هذا التفصيل بسبب ما شاب التصورات والمفاهيم الإسلامية عند كثير من المسلمين بفعل ثقافة تلبيس الحق بالباطل والغزو الفكري الغربي للمجتمعات المسلمة بغرض تمييع المفاهيم الإسلامية التي تـَحُول دون تحقيق هؤلاء لمصالحهم في المنطقة، لذلك لزم توضيح هذه الأمور التي قد تبدو عند البعض - ممن أصابتهم رحمة الله عزّ وجلّ- من البديهيات ولكن يعجب إذا رأى العديد ممن ينتسبون إلى الإسلام يحاربونها ويتصدون لمن يطالب بها.

ومن ذلك الدعاوى الأخيرة المطالبة بإلغاء المادة الثانية من الدستور المصري التي تنص على أن الشريعة الإسلامية المصدر الأول للتشريع، بحجة المطالبة بدستور يعلن الدولة المصرية دولة مدنية علمانية وأن ذلك أقرب لتحقيق المساواة بين المواطنين على مبدأ المواطنة وعدم التمييز بينهم على أساس الدين.

وللرد على ذلك نكتفي باقتباس ما يلي من مقال سابق لنا بعنوان "ولا يستخفنك الذين لا يوقنون":
"ثم إن التمييز في حد ذاته ليس من المخالفات وليس أمراً مضاداً لحقوق الإنسان، إلا إن كان معه هضم للحقوق بسبب التمييز، وإلا فقد فرّق الله تعالى بين المؤمن والكافر في كتابه العزيز ومع ذلك أمرنا بألا يدفعنا هذا التمييز بيننا وبينهم ألا نعدل فيهم وألا نبخسهم حقوقهم:
فقال تعالى: {هوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [التغابن:2]
وقال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } [يونس:32]
وقال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران:85]
وهو سبحانه وتعالى أيضاً القائل:
{منْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [المائدة:32]
وهو القائل سبحانه:
{لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]
وهو الآمر نبيه بأن يبلغ عنه سبحانه أمره:
"وذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " رواه البخاري ومسلم.
فالفروق موجودة وحقيقية ولا ينكر وجودها إلا جاهل بالإسلام والنصرانية على حد سواء، وإنما الإنكار لمن تجعله هذه الفروقات يتجاوز الحد إلى منع الحقوق من أن تؤدى إلى أصحابها ولو كانوا من الطرف الآخر.
والذين يطالبون بمحاربة انتشار مثل هذه المبادئ إنما يريدون أن تظل أسباب الفتنة قائمة وهم أسبابها وليس ما يدّعون."

________________________________
(1) خطاب الهوية الاسلامية - برنامج الشريعة والحياة - ضيف البرنامج د. فتحي عمارة. 21-10-2007
(2) الجدل عند الأصوليين - د. مسعود بن موسى فلوسي- ص 18 - مكتبة الرشد ط 1 1424هـ - نقلاً عن "حول أسئلة الحوار والوحدة " - مقال للسيد محمد محسن الأمين، مجلة المنطلق - بيروت العدد 105 ربيع الأول 1414 هـ
(3) ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة - عبدالرحمن حسن الميداني - ط 10 - 1430 هـ دار القلم - دمشق . ص 124 بتصرف.
(4) أصول الدعوة للدكتور عبدالكريم زيدان- الطبعة الأولى 1431 هـ - مؤسسة الرسالة ناشرون - بيروت.
(5) العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة - ص 669 - تأليف سفر بن عبد الرحمن الحوالي - 2010 - دار العلماء للتوزيع والنشر - القاهرة.


13 ربيع الأول 1432 هـ | 16 فبراير 2011 م
 

المصدر: كريم محمود القزق - خاص بموقع طريق الإسلام