الحج وآثاره السلوكية - لماذا الحديث عن الآثار السلوكية؟
الإنسان إذا تحققت فيه آثار العبادات وتحلى بالآداب الشرعية ، وأصبحت أخلاقه انعكاساً لما يعلمه ويعمل به من دين الله عز وجل ،صح أن يقال له : إن فلاناً سلوكه حسنٌ ،لأنه تشرّب الأخلاق الطيبة ،وانتظمت في تصرفاته حتى أصبحت وصفاً له ....
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على خيرته من خلقه،نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين:
أما بعد: فهذه حلقات علميةٌ،تربويةٌ، تتصل بركن من أركان الإسلام العظام،ألا وهو الحج،وهي تركز على الجانب السلوكي،والأثر الذي ينبغي أن تحدثه هذه العبادة في قلوب مؤديها.
ولا ريب أن الحديث عن موضوع كهذا طويلٌ،لكنها ورقةٌ تضاف إلى مجلدات كتب في هذا الموضوع،لعلها تسهم في التنبيه إلى شيء من مقاصد الشرع العظيم في مشروعية هذه العبادات.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا القيام بعبادته على الوجه الذي يرضيه عنا،وأن يعفو عن ما زلت به الجوارح،إنه أكرم مسؤول.
وسأتناول في الحلقات الأربع ـ التي تنتظم هذه الورقة ـ المواضيع الآتية:
الحلقة الأولى: لماذا الحديث عن الآثار السلوكية؟
الحلقة الثانية: كيف تؤثر العبادات في سلوكياتنا؟ولماذا لا يجد الكثير آثارها في حياتهم؟.
الحلقة الثالثة: من آثار الحج السلوكية (الجزء الأول).
الحلقة الرابعة: من آثار الحج السلوكية (الجزء الثاني).
لماذا الحديث عن الآثار السلوكية؟
وأرى أنه يحسن ـ قبل الولوج إلى الموضوع ـ أن أوضح مفردات عنوان هذه الورقة (آثار الحج السلوكية):
أولاً: كلمة (الآثار) جمع أثر، هو في اللغة يطلق على معان منها: بقية الشيء، ويقال: أثّر فيه تأثيراً، أي ترك فيه أثراً وهذا الذي يعنينا هنا، فنحن نتحدث عما تتركه عبادة الحج العظيمة من آثار في الحجاج(1).
ثانياً: كلمة (السلوكية) السلوك أصله من سلك طريقا، أو مكاناً يسلكه أي دخل فيه، ومن ذلك قوله تعالى (أسلك يدك في جيبك) أي أدخلها في جيبك،ومنه أيضاً (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) أي أدخلنا الكفر والتكذيب،ونظمناه في قلوب أهل الإجرام كما يدخل السلك في الإبرة، فتشرّبته وصار وصفاً لها (2).
وهكذا الإنسان إذا تحققت فيه آثار العبادات وتحلى بالآداب الشرعية، وأصبحت أخلاقه انعكاساً لما يعلمه ويعمل به من دين الله عز وجل،صح أن يقال له: إن فلاناً سلوكه حسنٌ،لأنه تشرّب الأخلاق الطيبة،وانتظمت في تصرفاته حتى أصبحت وصفاً له.
إذاً فالحديث عن بقية الآثار التي تتركها عبادة الحج، وتؤثر في حياته... في عباداته ومعاملاته...في أخلاقه.
أما لماذا الحديث عن الآثار السلوكية؟ وهو عنوان هذه الحلقة،فيمكن إجمال الأسباب فما يلي:
أولاً: الحديث عن الآثار السلوكية في الحقيقة حديث عن الأخلاق ـ بمعناها الواسع ـ لأن العرب تقول عن السجية والطبع الملازم للمرء:خلُق (3)،وهذا معنى كونه سلوكا أي صار سجية ووصفا له، وليست هذه الورقة حديثاً عن الأخلاق ـ رغم أهميتها ـ إنما المقصود الإشارة إلى أن الأخلاق والسلوك الحسن له أهمية عظيمة وشأن كبير في حياة المسلم،بل الأخلاق لها شأنها ـ عند جميع الأمم ـ مسلِمها وكافرها،وحسبك أن تعلم أن من أعظم الطرق التي ملك بها النبي صلى الله عليه وسلم قلوب الناس في دعوته: سلوكه الحسن، وتعامله الفذ، وخلقه العظيم الذي امتدحه الله سبحانه وتعالى به في قوله: (وإنك لعلى خلق عظيم).
وما أجمل قول الشاعر الذي نبه إلى عظمة شأن الأخلاق حيث يقول:
أيها الطالب فخراً بالنـسب إنما النــــــاسُ لأم ولأبْ!
هل تراهم خُلقوا من فضـة؟ أو حـديد أو نحـاس أو ذهـبْ؟
أو تَرى فضلهـموا في خلْقهم هل سوى لحمٍ وعـظمٍ وعصـبْ؟
إنما الفضــلُ بعـقل راجحٍ وبأخـلاق كـــــرام وأدبْ!
ذاك من فاخرَ في النــاس به فـاق من فــاخرَ منـهم وغلبْ
فتبين مما سبق أن الحديث عن الحج وآثاره السلوكية حديث مهم، لارتباطه بأمر عظيم ألا وهو حسن الخلق، وسلامة السلوك.
ثانياً: أنه ما من عبادة وإلا وقد رتب الشرع المطهر عليها آثاراً على العبد في حياته.
وهذه الآثار تختلف بحسب مكانة هذه العبادة ومنزلتها من الدين،كما أنها تختلف باعتبار آخر ألا وهو العابد نفسه،إذ لا ريب أن الناس ليسوا على درجة واحد من العلم والخشية،وبالتالي ليسوا على درجة واحدة في تعظيم هذه الشعائر،ولا في درجة الإخلاص والصدق الذي يكون في قلوبهم حين الدخول في العبادة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ "إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه،فإن الرب تعالى شكور،يعني لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا،من حلاوة يجدها في قلبه،وقوة وانشراح وقرة عين،فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول"(4)ا هـ.
ولقد برّ في كلامه وصدق رحمه الله،فقد ثبت في السنة أحاديث كثيرة تؤيد ما قاله منها: ما ثبت في صحيح مسلم عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ".
ومنها: ما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ".
قال بعض أهل العلم: "إنما عبّر بالحلاوة؛لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: " مثلا كلمة طيبة " فالكلمة هي كلمة الإخلاص،والشجرة أصل الإيمان،وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي، وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جنى الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة،وبه تظهر حلاوتها "(5).
ثالثاً: نتحدث عن الآثار السلوكية لما يلاحظ من وجود الهوة الكبيرة بين العلم والعمل،وبين ما يتلقاه الناس ـ إما في حقول التعليم أو عن طريق خطب الجمعة أو المحاضرات أو غيرها من مجالات التلقي ـ وبين التطبيق، وتبعاً لذلك فإنه يُلاحظ ضعف أو تلاشي آثار العبادات على كثير من المؤدين لها، حتى أصبحت العبادات جسداً بلا روح عند كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هاهي الصلاة ـ أيها القارئ الكريم ـ عماد الدين،أعظم الأركان الخمسة بعد الشهادتين،والتي لها من المنزلة في الدين ما ليس لغيرها من العبادات..
الصلاة التي قال الله تعالى عنها (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)..
تأمل في أثرها في أكثر المصلين!!
أليس في المصلين من يخرج للتو من صلاة الجمعة،وهو مع ذلك يقارف كبيرة أو يصر على صغيرة،فهو يكذب في الحديث والمعاملة! ويطلق بصره في الحرام ـ وربما وهو في طريق عودته لمنزله من الصلاة! أو يستمع إلى ما حرم الله!!
وقل مثل ذلك عن رمضان الذي انصرم قبل شهرين تقريباً!!
فأين التالون لكتاب الله تعالى؟ وأين المحافظون على الصلاة جماعة؟ وأين من يغضون أبصارهم ويحفظون جوارحهم عن المحرمات مخافة أن يؤثر ذلك في تمام أجرهم؟!
وهكذا الحج فكم له من الآثار العظيمة والثمرات الهضيمة ـ والتي هي موضوع حديثنا ـ ومع ذلك، ورغم كثرة الحجاج، بل ورغم كثرة حجِّ بعض الناس إلى بيت الله الحرام، إلا أن المستفيد من الحج، ومن آثاره قليل، والله المستعان.
رابعاً: من أسباب طرق هذا الموضوع، أنك ترى كثيراً منا يحرص أن يكون أكله وشربه، وأوقات راحته على ما اعتاده ودرج عليه،فإذا وقع تغيير بسبب غيره تراه يغضب،ويحرص على أن يحترم الآخرون عاداته وأوقاته؛ لماذا؟!
لأن أكله ونومه حسب عادته مما يشرح نفسه ويريح بدنه،وهو مع ذلك لا يبذل ولا قليلا من الجهد لتفقد عباداته حتى تحدث أثرا عظيما في شرح نفسه،وراحة قلبه وبدنه، وتحقيق مراد الله تعالى منه في تلك العبادة.
إذا علم هذا، فإن سؤالاً ملحاً ينبغي أن يطرح،وهو: كيف تؤثر العبادات في سلوكياتنا؟ولماذا لا يجد الكثير من الناس آثارها في حياتهم؟ هذا ما ستجيب عنه الحلقة الثانية بإذن الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) القاموس المحيط (435،436) مادة أثر.
(2) ينظر: معجم مقاييس اللغة 3/97،ولسان العرب 10/442 مادة سلَكَ،وتفسير ابن كثير والسعدي للآية رقم (200) من سورة الشعراء.
(3) القاموس المحيط (1137) مادة خلق.
(4) نقله عنه ابن القيم في " المدارج " في منزلة المراقبة، ينظر "تهذيبها " للعزي 1/ 498، ط. الرسالة، وينظر كلام ابن القيم في 1/360 فهو مهم في هذا الموضوع.
(5) فتح الباري 1/77-78 ح(16).
عمر بن عبد الله المقبل
الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.
- التصنيف: