الهلال السنّي ينهار، والعالم على موعد مع الفوضى والثأر
أجيال أهل السنّة القادمة ستكون أكثر شراسة وضراوة، ولن تؤثر فيها مفاوضات الغرف المغلقة، ولن تبالي بتحالفات عسكرية دولية، فالغضب يملأ الصدور..
باختصار، مع ما حدث اليوم في كركوك هو عينة مصغرة لمستقبل المنطقة الإقليمية والعالم بأسره بعد تكسّر حواضر الهلال الخصيب أو السنّي في العراق والشام.
فقد قتل 16 شخصاً على الأقل الجمعة 21 أكتوبر 2016، بينهم 4 إيرانيين، في هجوم شنه مقاتلو تنظيم الدولة على محطة للكهرباء يجري تشييدها من قبل شركة إيرانية في دبس شمالي العراق، كما هاجموا عدداً من المباني الحكومية في مدينة كركوك في شمال العراق. واستهدف الهجوم مقر قيادة الشرطة وحواجز أمنية ووحدات للدوريات في المدينة التي تبعد نحو 240 كيلومتراً شمال بغداد وتسيطر عليها القوات الكردية، فيما أعلنت السلطات، فرض حظر تجول في كركوك، وقالت مصادر أمنية في المدينة، إن التنظيم بدأ هجوماً بعد منتصف الليل، وفجر عناصره 3 سيارات مفخخة في أحياء مختلفة من المدينة.
حواضر أهل السنّة تحت الحصار:
ظاهرة لا تخطئها العين، مثلت سردية القرن الحادي والعشرين، استهداف أهل السنّة وحصارها واحتلال حواضرهم الكبرى وتحويل أغلبيته الساحقة في المنطقة العربية إلى أغلبية بطعم الأقلية المحاصرة المغلوبة على أمرها. أهل السنّة صاروا هدفاً واضحاً لشتى خصوم الأمة الإسلامية والعربية من غرب وشرق.
وبنظرة سريعة على أنقاض الهلال السنّي الخصيب، وسوف يظهر للعيان نمط مثير للقلق: من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج، أولئك الذين يتحملون وطأة الحرب هم في الأغلب من العرب السنة -حسب تقرير الأنكونوميست- الذين ظلوا يحكمون المنطقة منذ أكثر من ألف عام، وقامت لهم الكثير من الممالك والدول وقادوا دولة الخلافة الإسلامية لقرون متواصلة -راشدة، أموية، عباسية، أندلسية، عثمانية- فالكثير من مدن أهل السنّة الكبرى وحواضرهم العظيمة تخضع اليوم لاحتلال خصومهم، في الحين أن الباقي يرزح تحت نُظم حكم سلطوية تصادر معظم الحقوق. فالقدس أسيرة يهود، وبيروت تحت قبضة الموارنة والشيعة، ودمشق يحكمها النصيريون العلويون، وبغداد تحتلها عصابات إيرانية رافضة، وصنعاء تحكمها عصابة حوثية بالوكالة عن إيران، ولم يبق بيد أهل السنّة من حواضرهم الكبرى في المنطقة سوى حلب السورية، والموصل العراقية، وكلاهما مع بغداد، يمثلون الهلال الإستراتيجي الحامي للمنطقة العربية من الاختراق الفارسي الإيراني الصفوي، وكلا من حلب والموصل اليوم على وشك السقوط بيد الروافض مما يؤكد على أن الهلال السنّي بات مهدداً في وجوده، بعد أن كان محاصراً في حدوده.
وعلى هامش هذه الحواضر السنية الكبرى هناك العشرات من المدن السنية الأصغر حجماً جرى تغير ديمغرافيتها لصالح الشيعة الإيرانية والنصيرية، حيث يجري طرد العرب السنة من مدنهم على قدم وساق، وتحول السواد الأعظم من الناس الذين عمروا هذه الأراضي منذ قرون إلى لاجئين، إما خارج البلاد أو نازحين في داخلها. إما على أيدي بشار الأسد والروس والمليشيات المدعومة إيرانياً في حالة حلب، أو على أيدي قوات الحكومة العراقية في تكريت والرمادي. ومنذ سيطرة الدولة على أجزاء كبيرة من المثلث السنّي في العراق، وصل عدد العراقيين الذين ألجئوا إلى الفرار من ديارهم إلى أكثر من 3 ملايين نسمة، وحتى الآن لم يعد من هؤلاء إلا النزر اليسير، بل بقي السواد الأعظم من سكان هذه المدن خارج ديارهم. وفي سوريا نفس السيناريو يتكرر ولكن بصورة أبشع، فخلال الأسابيع الثلاثة الماضية، جرى تفريغ ثلاث بلدات في ضواحي دمشق: قدسيا، الحمه والآن معضمية الشام بعد أن حوصرت وقصفت من قبل النظام على الرغم من وجودها على مسافة بضعة كيلومترات فقط من مخازن مواد الإغاثة المخصصة لها، وتم إخراج أهلها من العرب السنّة وجرى شحنهم إلى إدلب بتذكرة واحدة لا عودة فيها. وبموجب هدنة جرى التوصل إليها في شهر أغسطس في داريا، وهي ضاحية أخرى من ضواحي دمشق طالما تعرضت للحصار، تقرر نقل كافة سكان المنطقة من السنّة إلى ملاجئ تابعة للحكومة.
حلب والموصل وما بعدها:
حلب تمثل اليوم رمزًا لأسوأ أشكال التدخل الخارجي، حيث تساعد روسيا البوتينية قوات الأسد، وحلفاءهم الإيرانيين والشيعة على استهداف قوات المعارضة من السنّة المحاصرين، فيما يبدو أنه تقاسم غير معلن بين الروس والأمريكان على أن تكون حلب للروس والإيرانيين، وذلك قبل أن يغادر الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» منصبه العام المقبل، والوحشية المتعمدة التي يتم من خلالها استهداف المستشفيات مرارًا وتكرارًا، وشتى أنواع الأسلحة بقصف غير مسبوق، وغياب السلاح المضاد بيد الثوار المحاصرين هناك، سوف تنتهي بسقوط المدينة، وخروج مئات الآلاف من أهل السنّة من ديارهم.
أما الموصل فالخطب أشد فليس الأمر مجرد حاضرة سنية كبرى تفرّغ من أهلها، ولكن موجة انتقام مروعة متوقعة، في ظل تركيبة المهاجمين، فالحشد الشيعي الخبيث يتشكل من أعتى أعداء أهل السنّة، من أكثر من 500 مليشيا إيرانية طافحة بالعداء والحقد الطائفي على أهل السنّة، مع رغبة عارمة من الانتقام من أهل السنّة بأحقاد وعداوات الماضي البعيد. فهذا قيس الخزعلي، زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق، يصف تحرير الموصل بعملية الانتقام لمقتل الإمام الحسين وكذلك "التحضير لحالة من العدالة الإلهية"، حيث قال: "سيكون تحرير الموصل انتقاماً من قتلة الحسين، لأن هؤلاء هم أحفادهم. وبإذن الله سيكون تحرير الموصل انتقاماً من قتلة الحسين وعقاباً لهم".
ويتوقع أن الغزاة الأمريكان والروس هنا وهناك سينجحون في تحطيم عدد لا يحصى من المباني ويقتل الكثير من المدنيين، ولكنه في نهاية المطاف ستسقط حلب والموصل -إلا أن يشاء الله عز وجل غير ذلك-، حتى لو استغرق هذا شهوراً. فموازين القوى مختلة بشدة عدداً وعتاداً، ولكن السؤال الأهم وربما الأصعب : ماذا سيحصل بعد الاحتلال؟ لا بد أنه سيكون هناك سلب ونهب واغتصاب وقتل، ولكن من سيحكم المدينة؟ الحكومة العراقية الشيعية التي في بغداد؟ أهي ستحكم السكان السُنة؟ وماذا سيقول الأكراد؟ هل سيساعدون الحكم المكلف من بغداد؟ وهل ستستلم روسيا حلب أم تسلمها لإيران، أم يحكمها الأسد؟!
الانفجار قادم لا محالة:
اليوم، تشهد حواضر أهل السنّة انفجاراً متعدد المستويات والأبعاد، انفجاراً يعكس فشل نظام الدولة القومية وتقسيمات سايكس-بيكو. ويكفي النظر إلى البقعة المثلثة الصغيرة المحصورة بين جنوب تركيا وشمالي العراق وسوريا لاكتشاف التداخل الدموي وبالغ التعقيد للنزاعات الإقليمية وتحت الإقليمية، ليس فقط بين دول المشرق، ولكن أيضا بين الكيانات دون مستوى الدولة، والقوى الدولية التي لم تزل تسعى للحفاظ على نفوذها في المنطقة. دول كبرى مثل العراق وسوريا ومصر والسودان وليبيا واليمن قد أصبحت دول فاشلة ويسودها التوتر والاقتتال ولكن بنسب متفاوتة، حتى الدول القوية نسبياً مثل تركيا، عادت المسألة الكردية إلى الانفجار منذ صيف 2015، بعد سنوات من مساعي السلم المتعثرة. ومدفوعة بطموحات أيديولوجية وطائفية، ومخاوف جيوستراتيجية، تبنت إيران سياسات توسعية في جوارها العربي الهش، بحيث أصبحت متغلغلة في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
ولكن من المتوقع أن تكون قضية الموصل نقطة تقاطع مصالح بين الإيرانيين والأتراك. حيث تعمل إيران، وحلفاؤها في العراق، على أن توفر الموصل فرصة لرسم خارطة ديمغرافية وجيوسياسية جديدة في شمال العراق،، تعزز من الكتلة الشيعية البشرية في شمال العراق السني، وتفتح ممرا دائما وآمنا، يصل من الحدود الإيرانية إلى ساحل المتوسط السوري. وبذلك يكون الهلال الشيعي قد اكتمل وحل محل الهلال السني الخصيب.
في حين أن تركيا تنظر بقلق شديد إلى الخطر الذي يتهدد سنّة العراق، وأثر ذلك على ديمغرافية المنطقة بأسرها، وإلى المطامح التي تحاول طهران تحقيقها في الشمال العراقي. كما أنها تتخوف من الأطماع الكردية المتزايدة والآمال التي تزداد بحروب الروس والأمريكان على الهلال السنّي من أجل ربط شرق كردستان بغربها، وهو ما تعتبره تركيا خطاً أحمر غير قابل للتفاوض عليه أو الاقتراب منه.
هذه التباينات في أهداف المهاجمين على الموصل ومن قبلها حلب ستدفع حال سقوط كلا الحاضرتين السنيتين الكبيرتين إلى حالة من الفوضى، وستطلق أكبر موجة انفجارية من الانتقام والرغبة في الثأر من مصاب أهلل السنّة، وستكسب التنظيمات الجهادية وعلى رأسها تنظيم الدولة وفتح الشام -جبهة النصرة سابقاً- وما يتبعهما من تنظيمات وتشكيلات أصغر، زخماً كبيراً وسينضم إليهما عشرات الآلاف من الشباب السنّي الذي يكاد ينفجر غضباً من تعرضه للاستهداف والاحتلال، ويعاني من غياب المرجعية الدينية والسياسية المدافعة عنه والمعبرة عن آماله، ويعاني من غياب المشروع السياسي المستقبلي، وما حدث في كركوك اليوم، وفي فرنسا وبلجيكا وأمريكا من قبل، خير دليل على عواقب استهداف حواضر أهل السنّة، وشعورهم بالإذلال والمهانة، وما يعتقده تحالف شركاء العدوان على أهل السنّة بأن المشكلة قد شارفت على الانتهاء، وأن المنطقة سيسودها السلام والأمان، بعد احتلال الموصل هو محض خيال، فالقادم أسوأ بكثير، وأجيال أهل السنّة القادمة، ستكون أكثر شراسة وضراوة، ولن تؤثر فيها مفاوضات الغرف المغلقة، ولن تبالي بتحالفات عسكرية دولية، فالغضب يملأ الصدور، والرغبة في الثأر هي أقوى الغرائز الإنسانية في استمرار أي صراع مهما كانت أيديولوجيته وأهدافه. ولن يعرف العالم الاستقرار حتى يعود لأهل السنّة مكانتهم المسلوبة.
- التصنيف: