في ظلال رمضان 30.. أفراح المؤمن
يفرح عند لقاء ربه، وفوزه، حيث لقاء حبيب لحبيبه، ويرى قدر كرامة الله للمؤمن وقيمته عند ربه تعالى..
نعم يفرح المؤمن.. لكن بم؟
يفرح بإنزال الكتاب.. نعم يفرح فهذه أفضل وأكمل حالات القلب{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}[الرعد: 36]، يعني من آمن به منهم من الخاشعين.
يفرح بالإيمان وإنزال القرآن، وقبوله والإيمان به.. بهذا أمر الله تعالى{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس: 58] يعني بالإيمان والقرآن.
يفرح بامتثاله الأمر؛ بقيامه بالحسنة وتركه السيئة، كما أن حزنه أو خوفه إنما هو حزن أو خوف في حال أن يعصي ربه، ففرحه وحزنه في إرضاء الرب تعالى أو سخطه، قال صلى الله عليه وسلم«إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن»(السلسلة الصحيحة: 2/91).. يفرح بإتمامه ما أُمر وتمام معونة الله تعالى له{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 185].. يفرح بقيامه بالمنهج واستقامته عليه{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات: 17].
يفرح بتحقيق المنهج على الأرض ونصرته وتمكينه وتوجيهه للحياة لينعم الخلق بهذا الدين وتلك المنة.. ( {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ}[الروم: 4 - 5].. وهو نصر ليس للعبد فيه نصيب إلا أنه يفرح بتمكين منهج ربه وإيصال النعمة لإخوانه من العباد.
ففي سورة النصر ثلاث آيات بها ثلاث حقائق، وعبوديات مختلفة.. الأولى بشارة بالنصر المترتب على الجهاد، والمقصود به تحطيم قوى البغي والأوضاع المادية التي تقيم الكفر وتحميه وتفتن الناس، وسماه (نصر الله)، فهو منسوب اليه تعالى، لأن العمل والجهاد (سبب) لا بد له من مكمِل ولا بد من إزالة العوائق، وهذا لله تعالى، فما من سبب إلا وهو في الحقيقة جزء سبب.
وفي الآية الثانية نتيجة النصر المنشود، وهي المنشودة من ورائه، وهي دخول الناس أفواجا في دين الله، ببيان الحق وهو منتصر وعدم تشويهه وعدم فتنة الناس عنه، فهذا هو المطلوب.. جهاد وتجرد، بغرض دخول الناس الى (دين الله) وليس في طاعة البشر، فهذه هي فرحة المؤمن أن يذوق الناس طعم هذا الدين وتلك النعمة العظيمة، بأن تصل الأمانة التي يحملها الى عبيد الله تعالى.. وفي الآية الثالثة التسبيح والاستغفار التزاما بالعبودية وهضما للنفس، وتواريا لدورها، طالبة العفو والمغفرة على التقصير..
فالسورة دائرة على تحقيق الجهاد وإكمال الله نتيجته للمجاهدين بالنصر، وبيان الغاية المرجوة بهداية الخلق لا البغي عليهم ولا الاستطالة، وهضم النفس وإخراجها من الصراع والأجر الدنيوي طلبا للعفو والمغفرة وجبر النقص ومغفرة التقصير. تحقيقا للعبودية وإتماما لها.
فهذه هي فرحة المؤمن بالنصر عندما يأتي، بهذا يفرح ولهذا يفرح
يفرح عند لقاء ربه، وفوزه، حيث لقاء حبيب لحبيبه، ويرى قدر كرامة الله للمؤمن وقيمته عند ربه تعالى.. وراجع إشارة البيضاوي في التفسير لآية يونس ومثلها في سبأ، ففي يونس يقول تعالى{إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[يونس: 4] بتغيير النظم بين إثابة المؤمنين وعقاب الكافرين والنص على تعليل إعادة الخلق يوم القيامة بإثابة المؤمنين{يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}كأن البدء والإعادة مقصود بهما إثابة المؤمنين بالذات، وأما العقوبة فبالعرَض كأنه داء ساقه اليهم لسوء أفعالهم.. ومثلها في سبأ{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ.. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[سبأ: 3].. ففي الآيتين أن القيامة تقوم لإثابة المؤمن، فهو المقصود، وقيمته في الحياة والكون ودورة الوجود هي هذه القيمة التي تلفت اليها الآيات..
نعم بهذا تفرح، كما يفرح المؤمن بالدلالة الى الهدى والاصطفاء من بين الخلق بالتوحيد{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر: 32]ويدخل في المصطفين الظالم لنفسه بالمعصية والمقتصد والسابق المقرب، فالهداية الى التوحيد أمر عظيم، روى البخاري عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ» قَالَ: فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ البَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ» (صحيح البخاري: 6530).
تفرح بسبق أوليته اليك بالهداية، والعناية بك قبل أن توجد، وأن تكتب قبل خلقك أنك من أهل هذا الدين.. فإنك مهما عملت من جهد للخير فبسبق أوليته قبل ذلك، بأن كتب في الأزل أن يخلقك وأن يهديك..
تفرح لأنه يناديك من قُرْب، ويتلقاك من البعد، ويطبب لك جرحك لنفسك بالمعصية؛ فيبتليك أو يتوب عليك أو كلاهما، وإن ابتلاك فليس بكل الذنوب بل ببعضها، بل بالقليل{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى: 30].. تفرح أن الجنة تُعدّ، ويزين الله تعالى جنة عدن التي خلقها بيده وغرس كرامتها بيده، وختم عليها فلم يطلع عليها أحد، وينظر اليها كل سحَر، ويقول لها ( «تزيني فإنه يوشك عبادي الصالحون أن ينقلبوا اليك» (الترغيب والترهيب: 2/112).
يفرح المؤمن هنا بما أمر الله، منتظرا أن تتم له الفرحة هناك..{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر: 35].
وعن بعض السلف قال: ذُكر لنا أن الرجل إذا دخل الجنة فصوِّر صورة أهل الجنة وأُلبس لباسهم وحُلي حلاهم ورأى أزواجه وخدمه ومساكنه في الجنة يأخذه سوار فرح، لو كان ينبغي أن يموت لمات فرحا، فيقال له: أرأيت سوار فرحتك هذه? فإنها قائمة لك أبدا.
ولذا قال تعالى{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا}[هود: 108]..
عن هذه السعادة نبحث.. فاللهم بلغنا المنزل..
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: