حول أحداث الثورة

منذ 2011-04-26

(سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم وصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس يرد على الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد على الحوض) [صحيح الترمذي].


إن الحمد لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد,
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
وقد جعلت هذا الموضوع في أربعة مباحث:
أولا: المظاهرات السلمية لا تعد خروج على الحاكم.
ثانيا: إثبات الخلاف في الخروج على الحاكم الجائر.
ثالثا:حكم الخروج على الحاكم الكافر.
رابعا: حكم تعدد الرايات.

وقبل الشروع في البحث أقول: من المضحك المبكي أن تقول الحكومة المصرية عن شباب الثورة أن مطالبهم وثورتهم مشروعة، ويقول بعض المنتمين للسلفية: إن هذه الثورة خروج على الحاكم ولا تجوز، فسبحان الله،
وكذلك قول الحكومة المصرية إنها سوف تحاسب المعتدين على شباب الثورة يوم الأربعاء وتعبر عنهم بالمعتدين ثم يقول هؤلاء المنتمين للسلفية هذه فتنة.. فإلى الله المشتكى!

أولا: المظاهرات السلمية لا تعد خروج على الحاكم:
حينما يستعمل العلماء كلمة الخروج فهم يقصدون الخروج المسلح بالقتال وواقع هذه المظاهرات هي لا علاقة لها بالخروج على الحاكم.
والدليل: عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة) [صحيح مسلم].
انظر إلى لفظ بالسيف..
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ) [مسلم].
قال الإمام بن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: "وهذا يدلُّ على جهاد الأمراءِ باليد"، وقد استنكر الإمامُ أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود وقال: "هو خلافُ الأحاديث التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالصَّبر على جَوْرِ الأئمة".


وقد يجاب عن ذلك: بأنَّ التَّغييرَ باليدِ لا يستلزمُ القتالَ، وقد نصَّ على ذلك أحمدُ أيضاً في رواية صالحٍ، فقال: "التَّغييرُ باليد ليسَ بالسَّيف والسِّلاح، وحينئذٍ فجهادُ الأمراءِ باليد أنْ يُزيلَ بيده ما فعلوه مِنَ المنكرات، مثل أنْ يُريق خمورَهم أو يكسِرَ آلات الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يُبطل بيده ما أمروا به مِنَ الظُّلم إن كان له قُدرةٌ على ذلك، وكلُّ هذا جائزٌ، وليس هو من باب قتالهم، ولا مِنَ الخروج عليهم الذي ورد النَّهيُ عنه، فإنَّ هذا أكثرُ ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده.
قلت انظر إلى قول الإمام أحمد في رواية صالح التَّغييرُ باليد ليسَ بالسَّيف والسِّلاح والمظاهرات كانت سلمية ولم تستخدم السيف ولا السلاح والله المستعان على ما يصفون.

أقول بل إن الإمام أحمد صرّح بأن الإنكار بالقول لا يعتبر خروجا فيما حكاه عنه ابن حزم في الفصل ج4/132: "قال أبو محمد: اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم، ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الفرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد أو باللسان إن قدر على ذلك ولا يكون بسل السيوف ووضع السلاح أصلا"، فهذا اتفاق ممن يقول بالمنع من الخروج أن اللسان لا يدخل في المنع وكذلك باليد فتبين مما سبق اتفاق الجميع ان المراد بالخروج الذي هو محل النزاع هو الخروج بالسيف والسلاح.
عن كعب بن عجرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس على وسادة آدم فقال: (سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم وصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس يرد على الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد على الحوض) [صحيح الترمذي].
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمهم الله بعقابه ) [رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة، والبيهقي]، وقال أيضا سيد الشهداء حمزة "ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" [رواه الحاكم بسند صحيح].

لذلك أقول:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تعلق بالحاكم خروجا بإطلاق حكما استباقيا عاما برجحان مفسدة الإنكار على مصلحته وهذا عين الرجم بالغيب.
أنه يلزم على اعتبار المظاهرات السلمية خروج على الحكام وصف خيرة السلف بهذا الوصف الشنيع لما وقع منهم من الإنكار العلني على الحكام وكفى بهذا اللازم دليلا على بطلان المقالة.

إن هذا الوصف بالخروج صار سيفا على رقاب المصلحين وحصنا حصينا للظالمين من الولاة والطواغيت؛ قال أبو محمد في الفصل في الملل: "اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى: ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [آل عمران: 104]، ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد وباللسان إن قدر على ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلا.

أقول: وهذه المظاهرات كانت سلمية وسوف يرد لاحقا في البحث رد بن حزم على جواز الخروج بالسلاح أيضا.

أما ثبوت الإنكار على الولاة علانية أمامهم وعلى ملأ من الناس؛ فإنه لا يُماري فيه إلا رجلٌ رَضِيَ لنفسه أن يحكم عليها بالجهل؛ إذ أن هذا أوضح من أن يحتاج إلى إيضاح لا في تاريخ السلف فقط، أو في كتب التراجم، بل في دواوين السنة، بما في ذلك الصحيحين في غير موضع.
وفي الموطأ: "عن مالك عن نافع وعبد الله بن دينار أنهما أخبراه أن عبد الله بن عمر قدِم الكوفةَ على سعد بن أبي وقاص، وهو أميرها - أي سعد - فرآه عبد الله بن عمر يمسح على الخفين، فأنكر عليه، فقال له سعد: "سَلْ أباك إذا قدمت عليه"، فقدم عبد الله، فنسي أن يسأل عمر عن ذلك، حتى قدم سعد، فقال: "أسألتَ أباك"، فقال عمر: "إذا أَدْخلتَ رجليك في الخفين وهما طاهرتان؛ فامسح عليهما"، قال عبد الله: "وإن جاء أحدنا من الغائط؟" فقال عمر: "وإن جاء أحدكم من الغائط"" [الموطأ 49].
مع أن الحق لم يكن مع عبد الله بن عمر الذي أنكر على الأمير بل كان الحق مع الأمير، فقد أنكر عبد الله بن عمر على أمير البلدة سعد بن أبي وقاص؛ لأن ابن عمر قد اعتقد خطأ الأمير في مسحه على الخفين في الحَضَر؛ فأنكر عليه، وتأمل ما قاله بعض شرَّاح الموطأ في هذا الأثر:
قال في "المنتقى شرح الموطأ": "إنكار عبد الله بن عمر على سعد بن أبي وقاص المسح على الخفين في الحضر وهو أمير البلدة، على ما عُلِم من حال الصحابة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يهابون في ذلك أميرًا، ولا غيره" ا.هـ. [المنتقى شرح الموطأ، الباجي، (1/75)].
روى البخاري رحمه الله بسنده عن زيد بن وهب قال: "مررت بالرَّبَذَة، فإذا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلتُ له: ما أنزلك منزلَك هذا؟ قال: كنتُ بالشام فاختلفتُ أنا ومعاوية في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلتُ - أي أبو ذر -: نزلت فيْنا وفيهم؛ فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إليَّ عثمانُ أنِ أقدَم المدينة، فقدمتُها، فكثُر عليَّ الناسُ حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرتُ ذلك لعثمان؛ فقال لي: إن شئتَ تنحيْتَ فكنتَ قريبًا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشيًّا لسمعتُ وأطعتُ" [رواه البخاري 1406].


في هذا الحديث فوائد جمةٌ سأخصُّها ببحث إن شاء الله وأكتفي منها بالآتي:
- قد كان أبو ذر يتأول الآية المذكورة على أنه يجب ألا يبيتَنَّ أحدٌ وعنده دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله، أو يُعِدُّه لغَريم، لذا أنكر على معاوية في ذلك، واشتهر هذا الإنكار، وكان معاوية رضي الله عنه حاكم البلاد، وقد كانت فتنة الخوارج في بداية ظهورها، ومع هذا لم يترك أبو ذر رضي الله عنه الإنكار الذي رآه واجبًا عليه، ولم يَعُدّ أحدٌ من أهل العلم أبا ذر رضي الله عنه من الخوارج، ولم يكن الإنكار بين أبي ذر وبين معاوية في السر، بل إن معاوية رضي الله عنه خشي الفتنة؛ فأرسل إلى الحاكم الأعلى عثمان رضي الله عنه يشكو إليه.
وتأمل ما يقوله ابنُ بطَّال في شرحه على البخاري: "إنما كتب معاوية والي الشام إلى عثمان يشكو أبا ذر؛ لأنه كان كثير الاعتراض عليه، والمنازعة له، وكان وقع في جيشه تشتيتٌ من مَيْلِ بعضِهم إلى قول أبي ذر؛ فلذلك أَقْدَمَه عثمانُ إلى المدينة، إذ خشي الفتنةَ في الشام ببقائه؛ لأنه كان رجلًا شديدًا، لا يخاف في الله لومة لائم، وقال المهلب: وكان هذا توقيرًا من معاوية لأبي ذر حين كتب إلى السلطان الأعلى يستجلِبه، وصانَه معاويةُ من أن يُخرجه، فتكون عليه وصمة" ا.هـ. [شرح ابن بطال على صحيح البخاري 5/452].

وروى الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج في صحيحه بسنده إلى أبي سعيد الخدْري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة، فإذا صلَّى وسلم قام، فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم، فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم، فخرجتُ مخاصرًا مروان، حتى أتينا المصلى، فإذا كثيرُ بن الصلت قد بنى منبرًا من طين ولَبِن، فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر، وأنا أجرُّه نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا يا أبا سعيد، قد تُرِك ما تعلم، قلت - أبو سعيد -: كلا، والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم، ثلاث مرات ثم انصرف ) [رواه مسلم 2090].

في الحديث إنكار أبي سعيد الخدري على الوالي على رؤوس الناس يوم العيد، وفي الحضور عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكثير من التابعين، وما أنكر أحد على أبي سعيد ما فعله، بل أقره الناس على ذلك، وما نعلم أحدًا نسب إلى أبي سعيد أنه خارجيٌّ؛ لإنكاره في هذا المشهد العظيم على الوالي، والحادثة مشتهرة في كتب السنة.


وما ذكرتُه هنا ليس منهج الخوارج بل كلام أهل الهدى والفضل، فقد قال أبو زكريا يحيى النووي تعليقًا على هذا الحديث: "وفيه أن الخطبة للعيد بعد الصلاة، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المنكر عليه واليًا" [شرح النووي على مسلم 3/280].
ثم زاد النووي في تعليقه فقال: "وفيه أن الإنكار عليه ـ أي على الوالي ـ يكون باليد لمن أمكنه، ولا يجزي عن اليد اللسان مع إمكان اليد" [شرح النووي على مسلم 3/280].
وقد ذكر النووي هذا الحديث برواية أخرى في باب "بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان" وذكر فوائد حقُّها أن تُكتَب بماء الذهب، فراجعها غيرَ مأمورٍ، ومنها قال: "قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين" [شرح النووي على مسلم 1/131].

والحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي صاحب الجامع قد بوب في جامعه: باب "ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب"، وساق في الباب أحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ بخبر مروان؛ فقال الترمذي: "حدثنا بُنْدار، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن قَيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أولُ مَنْ قدَّم الخطبة قبل الصلاة مروان، فقام رجل، فقال لمروان: خالفتَ السنةَ، فقال: يا فلان تُرِكَ ما هنالك، فقال أبو سعيد: أمَّا هذا فقد قَضَى ما عليه، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من رأى منكرًا فلينكره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) [رواه الترمذي 2327، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2172]، فهل كان الحافظ الترمذي أحدَ الخوارج يوم بوَّب هذا الباب، وساق حديث إنكار المنكر على الوالي على رءوس الناس، وغيره؟
وقد علق المباركفوري رحمه الله صاحب تحفة الأحوذي في شرح سنن الترمذي، وقد نقل كثيرًا من كلام النووي، وفيه: "اعلم أن هذا الباب - أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - قد ضُيِّع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه إلا رسومٌ قليلة جدًّا، وهو باب عظيم، به قِوام الأمر ومَلاكه، وإذا كثُر الخبث عمَّ العقابُ للصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمَّهم الله بعقابه، ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [النور: 63]، فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته، ولا يهابَنَّ مَنْ يُنكر عليه لارتفاع مرتبته؛ فإن الله تعالى قال: ( وَلَيَنْصُرَن اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) [الحج: 40]" ا.هـ. [تحفة الأحوذي، المباركفوري، 5/464].
ويشهد لهذا المعني وهو أن الإنكار باللسان لا يعتبر منكرا، فضلا عن أنه واجب ما ثبت في حديث أم سلمة في صحيح مسلم: ( أنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع) فالذي يكره محله القلب والذي ينكر فأقل درجاته المتفق عليها السان
وفي نفس المعني ما ورد أيضا.
يقول الشيخ عبد الرحمن البراك - تلميذ الشيخ عبد العزيز بن باز درس عليه خمسين سنة كما درس على الشنقيطي وعبد الرزاق عفيفي وغيرهم -:
"الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلامُ على سيِّدِ المرسلين، المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فإنَّ من آيات الله الدالةِ على قدرته سبحانَه أن تقوم مظاهراتٌ سلميةً يجمع عليها جمهور أكثرِ بلد عربي إسلامي عدداً، فتطيح بحكومة مضت عليها ثلاثون سنة، ومن نعم الله أن ما حصل من قتل وإصابات لم يكن من فعل المحتجين، بل من فعل خصومهم من أصحاب السلطة والسفهاء المأجورين، فالحمد لله على ما حصل من المطلوب لشعب مصر، وزال من المكروه المحذور، وسبحان الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزُّ من يشاء، ويذلُّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير".

يقول الشيخ حاتم العوني: "فالمظاهرات السلمية، التي لا تُشهر السلاح، ولا تسفك الدماء، ولا تخرج للاعتداء على الأنفس والممتلكات ليست خروجًا مسلحًا على الحكام؛ ولذلك فلا علاقة للمظاهرات السلمية بتقريرات الفقهاء عن الخروج وأحكامه؛ لأنها ليست خروجًا، ومن أدخلها في هذا الباب فقد أخطأ خطأً بيّنًا، والمظاهرات السلمية هي وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي، ومن وسائل التغيير، ومن وسائل الضغط على الحاكم للرضوخ لرغبة الشعب، فإن كان الرأيُ صوابًا، والتغييرُ للأصلح، ورغبةُ الشعب مشروعةً - كانت المظاهرةُ حلالاً.
ومع أن الوسائل من المصالح المرسلة التي لا تتوقف مشروعيّتها على ورود النص الخاص بها؛ لأن عمومات النصوص ومقاصد الشريعة تدلّ على مشروعيتها؛ فقد سبق السلف من الصحابة الكرام إلى عمل مظاهرة بصورتها العصرية: فإن من خرج من الصحابة يوم الجمل للمطالبة بدم عثمان وعلى رأسهم الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة أجمعين، وكانوا ألوفًا مؤلّفة، خرجوا من الحجاز للعراق، ولم يخرجوا لقتال ابتداءً (كما يقرره أهلُ السُّنَّة في عَرضهم لهذا الحدَث).
وإذا لم تخرج تلك الألوفُ للقتال، فلم يبق إلاّ أنهم قد خرجوا للتعبير عن الاعتراض على عدم الاقتصاص من قتلة عثمان، وللضغط على أمير المؤمنين وخليفة المسلمين الراشد علي بن أبي طالب؛ لكي يبادر بالقصاص من قتلة عثمان.
وهذه مظاهرة سلفية، بكل معنى الكلمة، وقعت في محضر الرعيل الأول من الصحابة الكرام، ولا أنكر عليهم عليٌّ أصلَ عملهم، ولا حرّمه العلماء، ولا وصفوه بأنه خروج على الحاكم، مع ما ترتب على هذا الحدَث من مفسدة؛ لأن مفسدته كانت طارئةً على أصل العمل، ودخيلةً عليه.
والمهم هو موقف عليّ، فهو من كانت تلك المظاهرة ضدّه، ومع ذلك فما شنّع على الذين تَجمّعوا بدعوى حُرمة مجرد التجمع والمجيء للعراق، ولو كان تَجمُّعهم وتوجّههم للعراق منكرًا، لأنكره عليهم عليٌّ، بل حتى لو أنكره عليهم، فيكفي أن يخالفه الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم من الصحابة أجمعين، لبيان أن مسألة مظاهرتهم مسألةٌ خلافية.
- فلا هناك نصٌّ خاص من نصوص الوحي القرآن أو السنة يدل على تحريم المظاهرات، فيلزم المسلمين التعبُّد بالرضوخ له.
- ولا يرفضها العقل مطلقًا؛ لعدم جريان العادة التي لا تتخلف بكونها مُفسدةً.
- والواقع يشهد بأن من المظاهرات ما أصلح ونفع وأفاد، ومنها ما هو بخلاف ذلك، فلا يصحّ ادّعاءُ أن واقعها يدل على تحريمها.
هذا هو حكم المظاهرات، كما تقرره أصول العلم وقواعده، والله أعلم. (نقل بتصرف).

ونصوص الشرع جاءت عامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تحدد كيفية فمثلا الإنكار باللسان قد يكون كتابة وقد يكون مشافهة وقد يكون عبر الوسائل الحديثة مثل التليفون أو الدوائر المغلقة ولا يتصور أن يعترض أي أحد على هذه الوسائل فكذلك أمر المظاهرة هي وسيلة تشملها نصوص الأمر بالمعروف ولم يتعبدنا الشرع بطريقة معينة مثل إثبات دخول رمضان مثلا، وقولهم "إن هذا تشبه" كلام مرفوض لأن باب التشبه فيما إذا ثبت شئ معين في الشرع فقد هم النبي صلي الله عليه وسلم أن ينهي عن الغيلة ثم قال: رأيت فارس والروم تفعلها، فهل هذا تشبه؟ وقد كان يلبس الجبة الرومية وهي التي تسمي اليوم "تي شيرت".
قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: ( لَا تُنَازِعُوا وُلَاة الْأُمُور فِي وِلَايَتهمْ، وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ، وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ، وَأَمَّا الْخُرُوج عَلَيْهِمْ وَقِتَالهمْ فَحَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَة ظَالِمِينَ )
أقول: وقوله (قولوا بالحق حيث ما كنتم ) فيه إشارة على عدم اشتراط أن يكون وجه لوجه مع الحاكم وإشارة منه أيضا أن القول باللسان لا يعتبر خروجا بحال وهو ما تتابع عليه كل من صنف في المسألة أي جعلهم الخروج المراد به القتال والسيف وإن القول لا يعد خروجا، أما قوله ( بإجماع المسلمين ) فليس بصحيح لما سيأتي..

ثانياً: إثبات الخلاف في الخروج على الحاكم الجائر:
وهذا الخلاف في هذه القضية مذكور حتى في كتب المذاهب الفقهية:
فعند الحنفية قال أبو بكر الجصاص: "وكان مذهبه - يعني أبا حنيفة - رحمه الله مشهورًا في قتال الظلمة وأئمة الجور وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة، وفي حمله المال إليه، وفتياه الناس سرًّا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن" [أحكام القرآن].
وهذا هو مذهب شيخه حماد بن أبي سليمان [تاريخ بغداد]، إمام أهل الكوفة في عصره.
وهو مذهب مالك، قال ابن العربي: "قال علماؤنا: وفي رواية سحنون، إنما يقاتل مع الإمام العدل، سواء كان الأول أو الخارج عليه، فإن لم يكن عدلين فأمسك عنهما إلا أن تراد بنفسك أو مالك أو ظلم المسلمين، فادفع ذلك، هؤلاء لا بيعة لهم إذا كان بويع لهم على الخوف" [أحكام القرآن].
وفي مذهب الشافعي قال الزبيدي: إن الخروج على الإمام الجائر هو مذهب الشافعي القديم [انظر اتحاف السادة].
وفي مذهب أحمد رواية مرجوحة بجواز الخروج على الإمام الجائر؛ بناءً على ما روي عنه من عدم انعقاد الإمامة بالاستيلاء، وإليه ذهب ابن رزين وقدمه في الرعاية من كتب الحنابلة، وقد قال بجواز الخروج من أئمة المذهب ابن عقيل وابن الجوزي [انظر الإنصاف للمرداوي].

فهذا القول وهو جواز الخروج على أئمة الجور ـ أي في ظل الخلافة والنظام السياسي الإسلامي وهو ما لا وجود له اليوم في عامة أقطار المسلمين ـ رواية أيضا في مذهب أحمد وهو أشهر من قال بالمنع من الخروج، وإنما رجح ابن عقيل وابن الجوزي وابن رزين وكلهم من أئمة المذهب الحنبلي هذه الرواية بالجواز؛ لأنهم حملوا قوله بالمنع من الخروج على خلفاء بني العباس من المعتزلة بعد فتنة المأمون لعدم تحقق المناط عنده لا لأنه يرى المنع مطلقا إذ ثبت عنه كما في العلل 3/168 عن أبي بكر بن عياش: "كان العلماء يقولون إنه لم تخرج خارجة خير من أصحاب الجماجم والحرة"!
قال أبو يعلي - ذيل طبقات الحنابلة -: من دعا منهم إلى بدعة فلا تجيبوه ولا كرامة، وإن قدرتم على خلعه فافعلوا.
وقال أبو العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم "باب الإمارة"، قوله: "على المرء المسلم السَّمع والطاعة"؛ ظاهر في وجوب السمع والطّاعة للأئمة، والأمراء، والقضاة. ولا خلاف فيه إذا لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا تجوز طاعته في تلك المعصية قولاً واحدًا، ثم إن كانت تلك المعصية كفرًا: وَجَبَ خَلْعُه على المسلمين كلهم.
وكذلك: لو ترك إقامة قاعدة من قواعد الدين؛ كإقام الصلاة، وصوم رمضان، وإقامة الحدود، ومَنَع من ذلك. وكذلك لو أباح شرب الخمر، والزنى، ولم يمنع منهما، لا يختلف في وجوب خَلْعِهِ.
فأمَّا لو ابتدع بدعة، ودعا النَّاس إليها؛ فالجمهور: على أنه يُخْلَع.

وذهب البصريون إلى أنه لا يُخْلَع؛ تمسُّكًا بظاهر قوله عليه صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان)، وهذا يدلّ على استدامة ولاية المتأوّل وإن كان مبتدعًا، فأمَّا لو أمر بمعصية مثل أخذ مال بغير حق أو قتل أو ضرب بغير حق؛ فلا يطاع في ذلك، ولا ينفذ أمره، ولو أفضى ذلك إلى ضرب ظهر المأمور وأخذ ماله؛ إذ ليس دم أحدهما، ولا ماله، بأولى من دم الآخر، ولا ماله. وكلاهما يحرم شرعًا؛ إذ هما مسلمان، ولا يجوز الإقدام على واحد منهما، لا للآمر ولا للمأمور؛ لقوله: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)؛ كما ذكره الطبري ولقوله هنا: "فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، فأمَّا قوله في حديث حذيفة: (اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك )، وأخذ مالك؛ فهذا أمر للمفعول به ذلك للاستسلام والانقياد، وترك الخروج عليه مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك.
ويحتمل أن يكون ذلك خطابًا لمن يُفعل به ذلك بتأويل يسوّغ للأمير بوجهٍ يظهر له، ولا يظهر ذلك للمفعول به. وعلى هذا يرتفع التعارض بين الأحاديث، ويصحّ الجمع، والله أعلم. انتهى كلام أبو العباس.

قلت: وقد وافقه ابن حزم فقال في الفصل كذلك: قال أبو محمد والواجب أن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو أمام كما كان لا يحل خلعه فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ  وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع وبالله تعالى التوفيق.

قلت: لقد اتفق ابن حزم و أبو العباس القرطبي على وجوب تطبيق حد الزنى والخمر وهو لا يطبق من قبل الحاكم المصري بل إن القانون المصري نصا لا يجرم الزني إلا إذا كان بإكراه أو على مال أو تم في بيت الزوج بدون إذنه وإذا خلا من هذه الموانع لا يعتبر جريمة من الأصل بل إن الصحف الرسمية الحكومية التي تؤسس بأموال الشعب وتأتمر مباشرة بأمر الحاكم المصري وهي مجلة "روزاليوسف" نشرت كتاب آيات شيطانية وهي التي تسب زوجات النبي وتتهمهن في العرض علانية وتم النشر بحماية النظام والشرطة بل إن الترخيص يفتح محال الخمور مصرح به في النظام المصري في أي مكان ما دام يدفع الضرائب والجمارك علي الخمور فكل هذه الأشياء مسوخة في قول جميع أهل العلم للخروج عليه حتى بالسلاح رغم إن الذي تم هو أقل من ذلك إنما هو بالكلمة فقط.
واتضح أيضا مما سبق إن القول بالخروج هو مذهب جمهور أهل السنة من السلف والخلف والصحابة والتابعين خلافا لما أوهمه كلام الإمام النووي ويجب الرجوع إلى الفصل لابن حزم لمعرفة هذه الحقيقة إن القول بالخروج هو قول الأئمة مالك والشافعي وأبي حنيفة ورواية عن أحمد أخذ بها بعض أكابر الأصحاب كما سبق الإشارة إليه.
وقال الإمام القرطبي في تفسير آية ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30]، في المسألة الثالثة عشر:
الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم؛ لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها.
فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله.
وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شئ من الشريعة، لقوله عليه السلام في حديث عبادة: ( وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان).
فنقول: إن الحد الذي يفرق به بين وجوب الصبر على الجور ولزوم القيام عليهم هو ما إذا زادت مفسدة الظلم والغَشَم على مفسدة الخروج كما بين ذلك النووي رحمه الله، قال النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم.

قالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ رَحِمَهُ اللَّه: "وَيَسُوغ لِآحَادِ الرَّعِيَّة أَنْ يَصُدَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَة وَإِنْ لَمْ يَنْدَفِع عَنْهَا بِقَوْلِهِ مَا لَمْ يَنْتَهِ الْأَمْر إِلَى نَصْبِ قِتَال وَشَهْر سِلَاح، فَإِنْ اِنْتَهَى الْأَمْر إِلَى ذَلِكَ رَبَطَ الْأَمْر بِالسُّلْطَانِ قَالَ: وَإِذَا جَارَ وَالِي الْوَقْت، وَظَهَرَ ظُلْمُهُ وَغَشْمُهُ، وَلَمْ يَنْزَجِر حِين زُجِرَ عَنْ سُوء صَنِيعه بِالْقَوْلِ، فَلِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْد التَّوَاطُؤ عَلَى خَلْعه وَلَوْ بِشَهْرِ الْأَسْلِحَة وَنَصْبِ الْحُرُوب"، هَذَا كَلَامُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ خَلْعه غَرِيب، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا لَمْ يُخَفْ مِنْهُ إِثَارَة مَفْسَدَة أَعْظَم مِنْهُ.
وقد حكى ابن حزم عن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة أن مذهبهم كان جواز منع ظلم بالقوة حيث قال في الفصل في الملل والأهواء والنحل.


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال أبو محمد: "اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران: 104]، ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد وباللسان إن قدر على ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلا وهو قول أبي بكر ابن كيسان الأصم وبه قالت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم، إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه وممن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وبمن رأى القعود منهم إلا أن جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلا فإن كان عدلا وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العدل، وقد روينا عن ابن عمرانة قال: "لا أدري من هي الفئة الباغية ولو علمنا ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها"، قال أبو محمد: "وهذا الذي لا يظن بأولئك الصحابة رضي الله عنهم غيره"، وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك قالوا: "فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك، وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة، وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار والقائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين، وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عنهم جميعهم كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر وعقبة بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن شعبة وأبي المعد وحنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابن السخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم، ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر ومن أخرج مع إبراهيم بن عبد الله وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حيي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث أما ناطق بذلك في فتواه وأما الفاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رآه منكرا.


وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: (أعاذك الله من إمارة السفهاء، قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي) [رواه أحمد وغيره وقال الألباني: صحيح لغيره].
ولقد أيد الإمام أبو حنيفة وساعد كل من خرج على أئمة الجور في عصره، كزيد بن علي في خروجه على الخليفة الأموي فقد أمده أبو حنيفة بالمال، وكان ينصح الناس ويأمرهم بالوقوف إلى جانبه، وهذا ما ذكره الجصاص في هذه المسألة: "وقضيته في أَمر زيد بن علي مشهورة وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتَال معه".


وكذلك مساندته لمحمد ابن عبد الله الملقب بـ "النفس الزكية" ودعوت الناس وحثهم على مناصرته ومبايعته، وقال بأن الخروج معه أفضل من جهاد الكفار، كما ذكر ذلك الجصاص: "وكذلك أمره مع محمد وإِبراهيمَ ابني عبد اللَّه بن حسن، وقال لأَبي إسحاق الفزاريِ حينَ قَال له: لمَ أشرت على أَخي بالخروج مع إبراهيم حتى قتل؟ قَال: مخرج أَخيك أَحب إلي من مخرجك". وكان أَبو إسحاق قد خرج إلى البصرة".
وقد نقل الموفق المكي وابن البزاز صاحب الفتاوى البزازية وهم من أجلة الفقهاء مثل هذا عن أبي حنيفة، ورأي أبو حنيفة واضح جلي أنّ الجهاد لتخليص الناس والمجتمع المسلم من سطوة الحاكم الجائر المبتدع أفضل من قتال الكفار الأصليين.
قال إمام مذهب الشافعية الجويني - وقد ذكر أن الإمامَ لا ينعزل بالفسق - ما لفظه: "وهذا في نادر الفسق، فأما إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق، وارتفعت الصيانةُ، ووضحَت الخيانةُ، فلا بدَّ من استدراك هذا الأمر المتفاقم فإن أمكن كف يده، وتولية غيره بالصفات المعتبرة فالبدار البدار، وإن لم يمكن ذلك لاستظهاره بالشوكة إلا بإراقة الدماء ومصادمة الأهوال فالوجه أن يقاس ما الناس مندفعون إليه، مبتلونَ به بما يعرض وقوعه، فإن كانَ الواقع الناجز أكثر مما يتَوقَع، فيجب احتمال المتوقع، وإلا فلا يسوغ التشاغل بالدفع، بل يتعين الصبر والابتهال إلى الله تعالى". انتهى.
قال ابن حزمٍ في "مراتب الإجماع": "ورأيت لبعض من نصب نفسه للإمامة والكلام في الدين فصولاً، ذكر فيها الإجماع، فأتى فيها بكلام لو سكت عنه لكان أسلمَ له في أخراه، بل الخرس كانَ أسلمَ له، وهو ابن مجاهد البصري المتكلم الطائي لا المقرئ؛ فإنه ادعى فيه الإجماعَ أنهم أجمعوا على أنه لا يُخرج على أئمة الجور، فاستعظمت ذلك، ولعمري إنه لعظيم أن يكون قد علمَ أن مخالف الإجماع كافر، فيلقي هذا إلى الناس، وقد علمَ أن أفاضل الصحابة وبقية السلف يومَ الحرَّةِ خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن تابعه من خيار الناس خرجوا عليه، وأن الحسينَ بن عليٍّ ومن تابعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضاً، رضي الله عن الخارجين عليه، ولعن قَتَلَتَهم، وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم، أترى هؤلاء كفروا؟ بل واللهِ من كفرهم فهو أحق بالكفر منهم، ولعمري لو كان اختلافاً يخفى لعذرناه، ولكنه مشهور يعرفه أكثر من في الأسواق، والمخدَّراتُ في خدورهنَّ لاشتهاره، ولكن يحق على المرء أن يَخطِمَ كلامه ويزُمَّه إلا بعد تحقيق وميزٍ، ويعلم أن الله تعالى بالمرصاد، وأن كلام المرء محسوب مكتوب مسؤول عنه يومَ القيامة مقلداً أجر من اتبعه عليه أو وزرَه". انتهى.
قلت: ولم يتعقبه شيخ الاسلام بن تيمية في "نقد مراتب الاجماع".

وممن أنكر على ابنِ المجاهدِ دعوى الإجماع في هذه المسألة: القاضي عياض المالكي، فقال: "وردَّ عليه بعضهم هذا بقيام الحسين بن علي رضي الله عنه، وابن الزبير، وأهل المدينة على بني أُميَّة، وقيام جماعةٍ عظيمةٍ من التابعين، والصدرِ الأول على الحجاج مع ابن الأشعث"، وتأول هذا القائل قولَه: "ألا ننازع الأمرَ أهلَه" على أئمة العدل، وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجّاج ليس بمجرد الفسق، بل لما غير من الشرع، وأظهر من الكفر". انتهى.
وهذا يبين لك أن ما نقله الإمام النووي من دعوى الإجماع كلام لا يصمد أمام الخلاف الثابت قديما وحديثا فضلا عن أن الإمام النووي نفسه ما لبث في السطر التالي مباشرة ينقل الخلاف وإذا به ينقل كلام القاضي عياض والذي ينقل فيه الخلاف أيضا.
احتج البعض على جواز الخروج على الظَّلَمة مطلقاً، وقصره الآخرون على من فحش ظلمه وغير الشرعَ، ولَم يقل أحد منهم: "إن يزيد مصيب، والحسين باغٍ"، ولا أعلم لأحدٍ من المسلمين كلاماً في تحسين قتل الحسين رضي الله عنه، ومن ادّعى ذلك على مسلم لَم يصدق، ومَن صح ذلك عنه فليس من الإسلام في شيءٍ". انتهى.
وقال الإمام بن حزم: "ونسألهم عمن قصد سلطانه الجائر الفاجر زوجته، وابنته، وابنه، ليفسق بهم، أو ليفسق به بنفسه، أهو في سعة من إسلام نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة؟ أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم؟ فإن قالوا: "فرض عليه إسلام نفسه وأهله"، أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم، وإن قالوا: "بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل" رجعوا إلى الحق، ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك‏".‏
قال أبو محمد‏:‏ "والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق، وأذعن للقود من البشرة، أو من الأعضاء، ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه. فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره، ممن يقوم بالحق لقوله تعالى:‏ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2]، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع، وبالله التوفيق". انتهى كلام ابن حزم رحمه الله.

قلت: كذلك سجل التاريخ:
1- خروج سيد شباب أهل الجنة إمام الهدى الحسين بن علي، رضوان الله وسلامه عليه، على يزيد بن معاوية، ومبايعة أهل الكوفة له سنة 61 هـ، وقد أرسل الحسين رضوان الله وسلامه عليه ابن عمه مسلماً بن عقيل رضي الله عنه لأخذ البيعة له فبايعه ثمانية عشر ألفاً ولم يقل أحد في التاريخ أن الحسين رضوان الله وسلامه عليه وأهل الكوفة كانوا يومئذ فرقة من الفرق الضالة" [البداية والنهاية: 8/217].
2- خروج عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه على يزيد بن معاوية نفسه ومبايعة أهل المدينة له سنة 63 هـ، ثم كانت واقعة الحرة، لم يقل أحد يعتد به أنه هو ومن بايعه من أهل المدينة كانوا فرقة من الفرق الضالة.
3- خروج عبد الله بن الزبير بعد موت يزيد بن معاوية وطلبه البيعة لنفسه، وقد بايعه جميع الأمصار إلاّ الأردن، وسمي بحق بـ "أمير المؤمنين" ثم انتهى الأمر بمقتله سنة 73 هـ، على أيدي بني أمية.
4- خروج عبد الرحمن بن الأشعث على الحجاج، ثم على الخليفة عبد الملك بن مروان، وكان مع ابن الأشعث خيار علماء الأمة سعيد بن جبير الذي قتل فيها، والإمام المفسر الكبير مجاهد، والإمام الشعبي، وغيرهم.
5- خروج الإمام زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه على خليفة الوقت المتجبر هشام بن عبد الملك، وقد بايعه على ذلك أربعون ألفاً من الكوفة.
6- خروج يزيد بن الوليد بن عبد الملك على ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك 126 هـ ومبايعة الناس له، وقتله الوليد.
7- خروج محمد النفس الزكية، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن، على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور سنة 145 هـ ومبايعة كثير من الناس له، ولقد روى ابن جرير أن الإمام مالك إمام أهل السنة والحديث أفتى بمبايعته، فقال له الناس: "إن في أعناقنا بيعة للمنصور"، فقال: "إنّما كنتم مكرهين، وليس لمكره بيعة"، فبايعه الناس عند ذلك لقول مالك.
8- خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن وهو أخو محمد "النفس الزكية" على الخليفة أبي جعفر المنصور بعد مقتل أخيه، ومبايعة الناس له، حتّى خرج من البصرة في مائة ألف مقاتل قاصداً الكوفة لقتال جيش الخليفة أبي جعفر المنصور.
9- خروج أحمد بن نصر الخزاعي على الخليفة لفسقه وبدعته 201 هـ، وقد بايعه الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عموماً، حين كثر الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد، وكان أحمد بن نصر من أهل العمل والديانة، ومن أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وقال عنه الإمام أحمد: "رجل جاد بنفسه في سبيل الله".
يقول ابن كثير: "فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته، ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه وحاشيته من المعاصي" [البداية والنهاية].
وقال جعفر بن محمد الصائغ: "بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله".
وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ: ( الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 1،2]، قال: "فاقشعر جلدي".

ورآه بعضهم في النوم فقال له: ما فعل بك ربك؟ فقال: "ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك إلي".
ورأى بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه أبو بكر وعمر، قد مروا على الجذع الذي عليه رأس أحمد بن نصر، فلما جاوزوه أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه الكريم عنه فقيل له: يا رسول الله ما لك أعرضت عن أحمد بن نصر؟ فقال: "أعرضت عنه استحياء منه حين قتله رجل يزعم أنه من أهل بيتي" [البداية والنهاية].
قلت فهل أحمد بن نصر من الخوارج!
لذا نجد في مثل هذه الحالة أن كثيراً من أهل العلم يصرحون بوجوب الخروج على الحاكم المقدور عليه.
قال ابن حجر في الفتح 13/11: نقل ابن التين عن الداودي قال: "الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر"، وعن بعضهم: "لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، فإن أحدث جوراً بعد أن كان عدلاً فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه".
قال الإمام الجويني في أصول الاعتقاد: "إذا جار الوالي وظهر ظلمه وغشمه، ولم يرعو عما زجر عن سوء صنيعه فلأهل الحل والعقد التواطؤ على درئه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب" ا.هـ.
ومن هنا يتبين أن هناك خلاف في المسألة وقد رد ابن حزم على المانعين [انظر الفصل في الملل والنحل بالتفصيل].

أما النصوص التي احتجوا فيها بالمنع من الخروج فليست صريحة في المنع لأن الثابت الذي لا يتطرق إليه التأويل قوله في الحديث الصحيح: ( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون اهله فهو شهيد)، وهذا معناه الترغيب والحث على مقاومة من أراد أخذ المال أو الأهل، وكما ثبت في الحديث: إن سائلا سأله عمن طلب ماله بغير حق فقال عليه السلام: ( لا تعطه، قال: فإن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: فإن قتلته؟ قال: إلى النار، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت في الجنة )، وقوله في جامع الزكاة: من سألها على وجهها فليعطها ومن سألها على غير وجهها فلا يعطها، فهذه النصوص توضح بجلاء أن الدفاع عمن يريد المال والعرض هو من منازل الشهداء، وأن الإمام لو سأل المال بغير حق لا يعطي، فيكون تأويل الأحاديث التي احتج بها المانعون إما إنها في الإمام العادل إذا أخذ مالك وهو متأول لذلك بما لا تقبل أنت تأويله كما مر بنا من كلام الحنابلة، وهذا التأويل يتمشى حتى مع الأحاديث الواردة (لا ما صلوا.. ) أو قوله: (إلا أن تروا كفرا بواحا .. ) فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يبيح لهم الخروج إذا لم يكن لفعل الإمام، أي تأويل مقبول، أما إذا كان له ثمة تأويل فلا يعتبر هذا منه فسق حتى لو كنت أنت غير مترجح عندك هذا التأويل، فتعين أن تكون أحاديث الصبر في إمام العدل إذا فعل فعلا له فيه تأويل أنت غير مقتنع به، ولا تخرج عنه إلا بالشئ الظاهر الجلي، وهذا تأويل كبار أصحاب مذهب أحمد لكي يتوافق مع الرواية الثانية لأحمد وهو رد ابن حزم الأول على من يحتج بهذه الأحاديث وغير ذلك لا يمكن إلا بأن نسلك مسلك النسخ وهو صعب جدا فيما نحن فيه.
وموضع النزاع اليوم في إمام - بزعم المخالف - ظالم ظلما بينا عم وطم.


ثالثا: حكم الخروج على الحاكم الكافر:
انعقد الإجماع على وجوب الخروج على الحاكم الكافر بشرط القدرة.
وقال النووي رحمه الله: "قال القاضي: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر: انعزل" انتهى [شرح مسلم 12/229].
قال القاضي: "فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية, وسقطت طاعته, ووجب على المسلمين القيام عليه, وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك".
وقال ابن حجر: "ينعزل بالكفر إجماعا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك".
وقال ابن بطال: "إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها".
وقال الرملي في غاية البيان على ابن رسلان ص 15: "لو طرأ عليه كفر فإنه يخرج عن حكم الولاية وتسقط طاعته ويجب على المسلمين القيام عليه وقتاله ونصب غيره إن أمكنهم ذلك"!
قلت وتبديل الشريعة يعتبر تغير للشرع وكفر بواح وقد حكى الإجماع على كفر هؤلاء ابن كثير، قال بن كثير في البداية والنهاية: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاك إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى "الياسا" وقدمها عليه من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال الله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50]، وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) [النساء: 65]، و"الياسا" هي قوانين وضعها جانكيز خان وهو مثل القانون الفرنسي في مصر.
وقال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان في تفسير الآية 26 من سورة الكهف: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ).


وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
وقال الشيخ المحدث السلفي القاضي أحمد شاكر في رسالته "كلمة حق" ص 126 عن حكم التعاون مع بريطانيا وفرنسا في حربها على المسلمين: "أما التعاون بأي نوع من أنواع التعاون قل أو كثر فهو الردة الجامحة والكفر الصراح لا يقبل فيه اعتذار ولا ينفع معه تأول سواء كان من أفراد أو جماعات أو حكومات أو زعماء كلهم في الكفر والردة سواء إلا من جهل وأخطأ ثم استدرك فتاب"!
وقال أيضا في شأن القوانين الوضعية في عمدة التفاسير 2/174: "إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس فهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا
مداراة ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام كائنا من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها"!
وقال في حاشيته على تفسير ابن جرير 2/348: "القضاء في الأعراض والأموال والدماء بقانون مخالف لشريعة الإسلام وإصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه"!

كما أن القانون المصري لا يعاقب شارب الخمر عيانا بيانا لعدم اعتبار ذلك جريمة يعاقب عليها القانون بل ويمنح الخمارت رخص لبيع الخمور ونضيف إلى ذلك الزنى أيضا إذ أن الزنى برضى الطرفين لا يعد جريمة في نظر الدستور المصري.
وكذلك موالته للكفار وحبس أهل غزة وحبسه وقتله للإسلاميين في مصر لعدم إرادته قيام دولة إسلامية سواء في بلاده أو على حدوده، تسليم اللاتى أسلمن من النصارى إلى النصارى وعدم تدخله لمنع هذه المهزلة، تحريم الختان في عهده ومحاربة النقاب، إغلاق معظم المساجد بعد الفجر واعتقال المشايخ والإسلاميين، إغلاق مكتبة الأزهر لدعوة الكفار بجميع اللغات، قال ابن تيمية وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافر إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله الصارم المسلول. قلت: وهذا في المعلوم بدين بالضرورة.

قال ابن تيمية أن هذه الآية ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ) [التوبة: 65]، فاعترفوا واعتذروا ولهذا قيل لهم: ( لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) [التوبة: 65]، فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتو كفرا بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر [الإيمان].
قال الإمام الشافعي في الأم: "إنما كلف العباد الحكم على الظاهر من القول أو الفعل وتولى الله الثواب على السرائر، دون خلقه، فإن قيل إن الدستور لن يتغيير قلنا ولكن الدعوة سيمكن لها وبالتالي تفتح الطريق أمام قيام دولة إسلامية حقيقية".


رابعا: حكم تعدد الرايات
أقول كل إنسان سوف يحاسب على نيته في الذهاب للمظاهرات السلمية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستصالحون الروم صلحا آمنا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم) [رواه أبو داوود وغيره وصححه الألباني]، فها هم المسلمون يقاتلون مع الروم وها هي قد تعددت الرايات، وهذا الحديث الصحيح وحده كافي في الرد على هؤلاء الذين ينكرون تعدد الرايات.
كما أن هذه المظاهرات خرجت لهدف مشروع وهو رفع الظلم ومحاربة الفساد.
قلت: وعلى فرض أن الظلمة هم الذين قاموا بالمظاهرات.
قال الإمام الشوكاني في "السيل الجرار": قوله فصل ويجب إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر، أقول قد قررنا فيما سبق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الفرائض الإسلامية وأهم الواجبات الدينية، والظالم إذا قام بذلك فقد قام بحق وإذا احتاج إلى من يعينه على ذلك كانت إعانته واجبة؛ لأنها إعانة على حق وقيام لأجل الحق لا لأجل الظالم نفسه.
ومن هذا القبيل إعانة الأقل ظلما من الفسقة على الأكثر ظلما إذا كان يندفع بهذه الإعانة ظلم الأكثر ظلما أو بعضه فإن هذا داخل تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام