من ينهي الحكاية - مذكرات مرابطة (14)

منذ 2017-09-03

سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).

ليلة_في_السجن:

جلستُ ساعاتٍ في مركز بيت الياهو دون التحقيق معي، ثمّ تم نقلي لمركز القشلة للتحقيق، مع نيّةٍ مبيّتةٍ بأن يتخذوا معي إجراءً جديداً بأن أمضي في السجن ليلةً قبل أن أُعرض على المحكمة في اليوم التالي.

دخلتُ غرفة التحقيق لأفاجأ بالضابط يعرض لي فيديو وأنا أحادث النساء عند المسجد القبليّ وأحثهنّ على التكبير، وآخر ونحن نتلو القرآن عند بوابة السلسلة.

أشار إلى صورتي قائلاً: من هذه؟

فأجبته: الصورة ليست بوضوحٍ كافٍ لأرى ملامحها.

حدجني بنظرة استهتارٍ وهو يقول: يهيأ لي أنها تلبس جلباباً بلون جلبابك، وحجاباً بلون حجابك.

فأجبتُ بلا مبالاة: ليست بالمصادفة العجيبة، كثيرٌ من النساء تلبس شيئاً مشابهاً.

فقال وهو يحدق بالصورة: والنظارات؟

نظرتُ للصورةِ وأنا أقول: سبحان الله، وهل وحدي من بين النساء من أعاني من مشكلةٍ في النظر؟!

فبدأ يقرّب الصورة حتى ثبتها على صورةِ عطبٍ في حذائي حدث من كثرة السير، أدار نحوي الشاشة لأراها بوضوحٍ وهو يطلب مني السير في الغرفة لمعاينة الثقب في حذائي.

ثمّ قال بمكر: وهل كل النساء تلبس زوجاً من الأحذيةِ أحدها مثقوبٌ دوناً عن الآخر؟

حاصرني بأسئلته ثم بدأ يستنكر عليّ تكبيري في ساحة القبليّ وأنا أقول: لقد كنتُ أستفسر عن تقدمهم في علم التجويد، ونحن قومٌ نفرح إذا ما تقدمنا بهذا العلم وإذا فرحنا تعالت حناجرنا بالتكبير.

انتهى التحقيق الصعب بعد ساعاتٍ ليتمّ نقلي لسجن المسكوبية الذي لا يصلح حتى سجناً للبهائم، انتظرت ساعاتٍ حتى قدوم البوسطة لنقلي للسجن رغم أنه لا يبعد إلا دقائق معدودةٍ وأنا مكبلةُ الأيدي والأرجل بالحديد الغليظ الذي لا يرحم، فكيف به وقد طوقني به جلّاد لا يعرف للرحمةِ سبيلاً.

وعلى مدخل السجنِ إجراءاتٌ طويلة شديدة وأسئلةٌ كثيرةٌ وجنديّ مزعجٌ يلازمك خطوةً بخطوة، وساعاتٌ تمرّ دقائقها ببطء سلحفاةٍ منهكة وألم القيد في يديّ لا يطاق.

نظرتُ في الوجوه حولي، لأرى كلّ نزلاء السجنِ الصهيونيّ عربٌ مخالفون للقانون بين سرقةٍ وتزوير ومخالفات قيادة وغيره، وينظرون إليّ نظراتٍ تطفحُ بالتعجب والاستنكار!

يا الله!

إلى أين وصلت أمةُ محمد، ما الحال المؤسف الذي أراه في شبابها؟!

صهيونيٌ قذر، لا يعرف من القانون إلا تعريفه يعتقل شباباً مسلماً مخالفاً للقانون؟

أي ذلٍ بلغناه يا ربّاه؟ وبأيّ ذنبٍ بلغنا ما بلغنا؟!

ترقرقت دموعي في عينيّ وأنا أراهم بهذا الحال الذي لا أسف بعده ولا هوان يغلبه.

تمّت إجراءات دخول السجن المميتة لننتقل لغرفة انتظارٍ مملة قبل أن يقتادوني لزنزانةٍ عفنة لا تصلح لآدميٍّ قط، أظن أنه لم يتم تنظيفها منذ سنوات عديدة، بدون طعام ولا شراب منذ أكثر من اثنتي عشرة ساعة!

اخترتُ أن أسخّر زنزاتي لخلوةٍ مع الله لا يقاطعني فيها أحد، ولم يقاطعني إلا خاطرٌ ذكّرني بميلاد ابني الأصغر حمزة، الذي وعدته أن أحضر له يوم ميلاده هديةً إن التزم بصلاته، وها هو يمرّ يوم ميلاده وأنا خلف القضبان وحيدة، وبعيدة.

منذ الخامسة فجراً، عاد القيد يلتفّ حول يديّ وقدميّ، واقتادوني لبوسطة السجن باتجاه المحكمة التي لا تبعد عن السجن إلا دقائق معدودة، ومنعوني أن أضع في حجابي أي قطعةٍ من حديد حتى لو دبوس صغير.

فبقيتُ أمسكُ حجابي بيدي المقيّدة كي لا يسقط عن رأسي وأنا أشعر أن ألمها نخر عظامي نخراً، وولجتُ لقاعة المحكمة في الساعة الثانية عشر ظهراً، لأجد المدعي العام يتهمني بالتخريب وإثارة الشغب بالتكبير داخل الأقصى.

انتهى المدعي من كلامه المدسوس بالسم والحقد دساً، وتوجهت الأنظار للقاضي الذي سينطق بالحكم أخيراً، تنحنح القاضي وقال: لا أرى في تكبير مسلمةٍ داخل مسجدها أيّة مشكلة، براءة.

الله أكبر ولله الحمد!

سبحان من أنطق بالحقّ لسانَ قاضٍ ظالم.

سبحان من أبطل مخططاتهم التي أرادوا بها النيل من عزيمتنا وقوتنا وثباتنا.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

خرجتُ من خلف القضبان مرفوعة الرأس كما دخلت، بلا قيدٍ ولا شرطٍ بفضل الله وحده.

جنّ جنون ذلك الضابط الذي أمر بإحالتي للمحكمة حين رآني ألج الأقصى منذ ساعات الصباح الباكر وكأن شيئاً لم يكن، اندفع إليّ يصرخ ويستفسر، كان بينه وبين الجنون شعرة واحدة!

لأنه لم يصدّق حين نخبره في كل مرة: الله مولانا، ولا مولى لكم، والأقصى لنا، ولا هيكل لكم، والنصر موعدنا، ولا عزاء لكم.

 

يتبع...

المقال السابق
مذكرات مرابطة (13)
المقال التالي
مذكرات مرابطة (15)