من ينهي الحكاية - مذكرات مرابطة (22)

منذ 2017-09-10

سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).

ونجّيناهم بـِ سحر:

شعرتُ بدفءٍ يغلّف أوصالي وأنا أدخل مقيّدةً لغرفة الانتظار فأرى هناك الغالية "سحر"، تذكرتُ كم تمكن اليقين من قلبي وأنا أتوجه لمحكمتها موقنةً أني سأراها، وها أنا أراها أقرب مما تخيلتُ ومما أردت.

اقتادونا لسيارة نقل المساجين "البوسطة" لأجلس مجاورةً لها وكتفي بكتفها، في الحقيقة أنّ رحلة الانتقال بالبوسطة لساعاتٍ طويلة هي رحلةٌ من العذاب المحض، القيود المذلة، الجو البارد، الجلوس المستمر الطويل على مقعدٍ غير مريح، عدا مشاعر الترقب والانتظار القاتلة.

إلّا أنّ انبعاث سحر في هذا العذاب، كان كانبعاث الروح في جسدي من جديد، كانت كوقت السحر العذب بعد ليلٍ طويل من العذاب، تشاركنا الأحاديث ساعاتٍ طويلة، سرقنا من الوقت العصيب ساعاتٍ تسللنا فيها إلى قلوبِ بعضنا لنجد للحب متسعاً في هذا المكان الضيّق، نلتمس الدفء بذكرياتنا في الأقصى وسط هذا الجو البارد.

سحر منذ عرفتها والدفء الذي في عينيها يغطينا ويفيض، كانت تحملُ كأس الشاي الذي تعدّه لنا بيديها وتمشي مسافاتٍ طويلة لتحضره لي حيث أبتعدُ مع إحدى طالبات الإجازة اللاتي يعرضنَ علي القرآن، تصلني والكأس التي في يدها قد بردت من طول الطريق، ولكني ألتمس فيها دفء سحر، ودفء الحب الذي تمنحنا إياه بلا مقابل.

على مقعد البوسطة حين ينهكني التعب، كانت تأخذني لحضنها، وتلفني بشالٍ كانت تحمله معها إن شعرتُ بالبرد، أو تتمدد على أرض البوسطة لتتيح لي أن أتمدد على المقعد الضيق الذي كنا نتشاركه فأنال قسطاً من الراحة.

كانت تضع على كتفها شالا استخدمناه كسجادة صلاة وكغطاء تغطيني فيه عندما أبرد وفي اطرافه شراشيب" تتشارك أصابعنا في التسبيح والاستغفار عليها مئةً بعد مئة، حتى يحين دورنا في المحكمة فننتقل لغرفة الانتظار بانتظار محكمةٍ صوريةٍ ظالمة، لا تتجاوز الثلاث دقائق، يظهر فيها المدعي العام الحاقد يكيل الاتهامات، ثم قاضٍ مأمور يأمر بتمديد الاعتقال.

استمرّت هذه المعاناة ستة أيامٍ بلياليها، وسحر تخفف عني وطأة المعاناة، وتزيح بابتسامتها وأحاديثها ودفئها عن صدري جبال التعب والأسى.

أمّا وجبة الطعام الشحيحة التي كانت تلقى إلينا من خبزٍ جافٍ وقطعة من الشكولاتة فكنا نتشاركها أنا وسحر، أخبئ لها الشكولاتة التي كانت تأكلها وهي تقول: "خليها تعطينا طاقة"، وتخبئ هي لي لب الخبز الذي لم أكن آكل سواه.

في التحقيقات معها سئلت عني كثيراً، كانوا يعرضون لها صوراً لنا في الوقفات والمسيرات ويقولون لها: انظري كيف تقفين خلفها في كل الصور، أنت تتعلمين منها، أنتِ لا تفارقينها!

هي كانت بالفعل لا تفارقني خوفاً عليّ، تظلّ من خلفي تحمي لي ظهري، وتذود عني.

وفي تحقيقٍ آخر سئلت: انت عارفة مين معك بالسجن؟

فأجابت من فورها: هنادي!

فقال المحقق لها: "شفتِ كيف هنادي ماخدة عقلك؟ انا قصدي عن أيهود أولمرت! هاد رئيس بلدية يهودي اختلس من الدولة، احنا ما بنفرّق بين مسلم ويهودي، الي بغلط وبخالف القانون بتعاقب".

كانت تأتي إليّ تحدثني بما يجري، نتشارك الضحكات، ونلملم الدموع والأشجان، وندعو الله أن يعجل لنا بفرجٍ من عنده قريب.

يتبع...

المقال السابق
مذكرات مرابطة (21)
المقال التالي
مذكرات مرابطة (23)